حقيقة الجمهورية الصحراوية: دولة أم محمية؟

أربعاء, 03/04/2020 - 01:34
نزار بولحية

حتى إن اعتبرها المغرب كيانا مصطنعا ووهميا، ورآها رئيسها على العكس «واقعا ميدانيا بمؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبسياساتها وبرامجها وإردتها الوطنية، وتسييرها لمختلف القطاعات»، مثلما جاء في خطابه الأخير، فلن يقلب ذلك وضع الصحراويين أو يغيره في شيء. فمن الواضح أن إعلانهم عن تلك الدولة بقي صرخة في واد، وظلت تبعاته وانعكاساته على الميدان قبل آثاره القانونية ضئيلة جدا ومحدودة.

وما لا يختلف حوله اثنان أن النتيجة العملية التي ثبتت بإعلان الجمهورية الصحراوية، أنها تحولت إلى مبرر لتأزيم العلاقات المغربية الجزائرية، وإبقائها في حالة ارتخاء وتقلب بين مد وجزر، وجعلها تبدو غالبا إما في برود تام، أو على شفا قطيعة تنذر بمواجهة بين الدولتين. ولعل سائلا يسأل بعدها، إن كان ما قاله جزائري ذات يوم من أن «القضية الصحراوية هي إسمنت الوحدة المغاربية» بقي صالحا، بعد أن تحولت تلك القضية إلى معول لهدم كل آمال المغاربيين في تحقيق وحدتهم، وصارت محل تجاذب بين المغرب والجزائر، وحلبة لصراع محموم أقرب ما يكون إلى صراع الديكة. ألم يصبح الصحراويون وجمهوريتهم، وهم من يعنيهم النزاع في المقام الأول، رهائن لمناكفات وتقلبات ونزوات واستعراضات البلدين، وسباقهما لتكديس السلاح؟
إن ما لفت انتباه البعض، عندما احتفلت جبهة البوليزاريو الخميس الماضي بالذكرى الرابعة والأربعين لإعلان قيام الجمهورية الصحراوية، أنه كان من الصعب جدا على الملاحظ أن يرى ضمن وفود أكثر من عشرين بلدا قالت مصادر الجبهة، انها حضرت تلك الفعاليات مندوبين عن دول عربية متعددة. والسبب معروف فالجمهورية المعلنة من جانب واحد، التي لم تعترف بها الأمم المتحدة بعد، رغم أن تسميتها الرسمية تشمل وصف العربية والديمقراطية، إلا أنها بقيت شبه معزولة، عما يعتبر محيطها الجغرافي الطبيعي، عدا اشتراكها مع معظم الانظمة العربية في الديمقراطية ذاتها. فعدا الجزائر وبدرجة أقل منها موريتانيا لم تعترف بها دول عربية اخرى، بل إن جزءا كبيرا من الرأي العام العربي، لم يعرف عنها أي شيء. وبالمقابل فإن ما يتردد دائما، أن العقبة الكأداء بوجه تطبيع العلاقات المغربية الجزائرية، هي المعضلة الصحراوية. ويبدو ومنذ أكثر من أربعين عاما، أن هناك على العموم حالة قبول وتسليم داخل قيادات الجبهة بتلك العزلة العربية. فلطالما اتجهت أنظار هؤلاء بعيدا إلى بعض الدول الافريقية، أو حتى إلى دول الكتلة الاشتراكية السابقة، من دون أن يفكروا جديا أو يتطلعوا إلى العرب، اللهم إلا إذا استثنينا الجزائر، أو دعم العقيد الليبي الراحل القذافي في فترة ما، وتأييد اليمن الجنوبي في أخرى.

كل الشعارات البراقة التي رفعتها البوليزاريو، لم تحجب الخلل الذي لازمها، وهو أنها رضيت بأن تكون مجرد أداة في صراع الجارتين بدلا من أن تنأى بنفسها عن ذلك

وفيما لا يزال المغرب متمسكا بأن مدار الصراع الحقيقي ليس بينه وبين الصحراويين، بقدرما هو بينه وبين جارته الجزائر، لأنها هي التي صنعت تلك الجمهورية وموّلتها ودرّبت قواتها، ودافعت عنها في المنابر الدولية، فإنه لم يكن بوسع الصحراويين، أن يفندوا ذلك ويفرضوا أنفسهم كطرف مباشر ووحيد في القضية، من خلال فك ارتباطهم بهيمنة وربما حتى استئثار الجزائر، بإدارة ما يصفونها حرب تحريرهم من العدو المغربي، وكفاحهم في سبيل تقرير المصير. ومع أن بعض المسؤولين في الجانبين ما فتئوا يرددون بين الحين والآخر، أن هناك فرصة لالتقاء البلدين ولتطبيع علاقاتهما بمعزل عن حل القضية الصحراوية، أو حتى إبقائها نقطة على جدول مباحثاتهما، وحجتهما في ذلك أن ولادة اتحاد المغرب الكبير قد حصلت اواخر الثمانينيات، أي في وقت كان فيه المشكل الصحراوي ما يزال قائما، وان الحدود المغربية الجزائرية على سبيل المثال أغلقت لاحقا، لأسباب أخرى بعيدة عنه تماما، فإن ذلك قد يكون نوعا من الالتفاف والتجاهل المتعمد للعائق الحقيقي أمام البلدين، وهو يشبه إلى حد ما محاولة حسم ذلك الجدل العقيم حول البيضة والدجاجة وأيهما تسبق الأخرى؟ فمن سيرضى في الأخير بأن يقرر إن الأولى تجيء قبل الثانية، أو العكس بالعكس؟ ثم على فرض أن يكون ممكنا أن يتقارب البلدان الآن، ويتركان القضية الصحراوية جانبا، ويوافقان على تحكيم الامم المتحدة، ويرضيان بما تقرره ويطبقانه بلا تحفظ، وهو افتراض صعب ولكنه غير مستحيل، فكيف سيكون موقف الصحراويين انفسهم من ذلك، وهل ستبقى هناك في حال جاءت الإرادة الدولية ضد استقلالهم أو انفصالهم عن المغرب، دولة صحراوية إن كانت الان موجودة بالطبع؟
إن ما يؤكده المغرب أن في رقبة من يعتبرهم رعاياه في ما يصفها بأقاليمه الجنوبية بيعة شرعية، وارتباطا قديما بالعرش العلوي، وهو يراهم بالطبع جزءا من سكانه، ولكن أليس ما يردده الجزائريون باستمرار، هو الأمر نفسه تقريبا، لكن بتعبير أو صيغة مختلفة، قد لا تخرج عن المضمون ذاته؟ أليس إصرارهم على القول بأنهم يدافعون عن حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، ويريدون تصفية الاستعمار، أو بقاياه من القارة، هو عرض مشروط للصحراويين، الذين لا تدعي الجزائر أنهم جزء من سكانها لمبايعتها كمنصة لثوار يحملون أمانة محاربة الاستعمار والاحتلال والإمبريالية؟ فمن جعلهم أوصياء حصريين على ذلك، ومن فوضهم وأعطاهم الحق المطلق للتحدث باسمهم وبالنيابة عنهم؟ لعل تصرف الأنظمة المتتابعة في الجزائر مع الصحراويين داخل المخيمات، أو في ما يعرف بالجمهورية الصحراوية، لا يخرج أو يبتعد كثيرا عن منطق البيعة، سوى أن الحال يتعلق الان ببيعة ثورية لا دينية أو شرعية. والاغرب أن ذلك يتعارض ويتضارب في الصميم مع تأكيدها المستمر على أنها ليست طرفا في النزاع، وأنها لا تدعم الصحراويين إلا رمزيا ومعنويا، وفقط من باب الدفاع عن المبادئ والقيم. لكن ما الذي يفعله أصحاب الشأن وهم موجودون تقريبا بين المطرقة والسندان؟
إن كل الشعارات البراقة والجذابة التي رفعتها دولة البوليزاريو، لم تحجب الخلل العضوي الذي لازمها على مدى الزمن، وهو انها رضيت بأن تكون مجرد أداة في صراع الجارتين، بدلا من أن تنأى بنفسها عن ذلك. وقد يقول قائل إن الظروف والإكراهات وحدها من حتمت عليها تلك الوضعية، وإنه لم يكن أمامها من سبيل آخر، غير الاصطفاف وراء الجزائر. وقد يضيف آخر أنه لا أحد باستطاعته أن يسد بابه، ويرفض المساعدة حين يحتاجها، وأنه لم يكن أمام الصحراويين خلال حربهم مع المغرب من خيار بديل. وقد يبدو ذلك مفهوما إلى حد ما. لكن هل أن ذلك يكفي وحده ليعطي الجزائريين صكا على بياض، حتى يتصرفوا مثلما يشاؤون، فيما تسمى الجمهورية الصحراوية؟ وهل أن مساندة النضالات بغض النظر، إن كانت مشروعة أم لا، تجعل الطرف الداعم يصبح وصيا بالكامل على داعمه؟ لن نقول عنها إنها دولة ولن نصفها بالمحمية. ولكن ألم يحن الوقت ليفكر الصحراويون قبل وبعد التوصيفات والنعوت في مصيرهم ومستقبلهم بعد أكثر من أربعة واربعين عاما من ظهور إعلانهم؟
*كاتب وصحافي من تونس