مسجد الإمام بداه: منبر نواكشوط الأول ..ومحضن الدعوة الإسلامية في موريتانيا

جمعة, 04/15/2022 - 15:33

مضت عقود ستة وشطر من السابع منذ أن استقر الشيخ بداه ولد البوصيري في سهل حي لكصر القديم، ووضع كتبه المخطوطة في بيت طيني صغير، سعيا إلى الإقامة بعد سنوات من التنقل في الفضاء الرابط بين العاصمة نواكشوط والفضائين الساحلي الجنوبي والرملي الشرقي، حيث دأبت مجموعته القبلية على التنقل والانتجاع منذ مئات السنين.
حدث الشيخ بداه ولد البوصيري قال: مررت بسهل نواكشوط فرأيت بيتا من الطين أقامه بعض تجار المواشي..فقلت الحمد لله هذا بيت يمكن أن أضع فيه كتبي..وقد كانت موزعة في أحياء أهل بوحبيني فأرسلت اليهم فبعثوها الي في أوعية تحملها ثيران..ثم بدأ استقراري في نواكشوط.

كان بداه ولد البوصيري في السنوات الأخيرة من الخمسينيات قد أصبح أحد الأسماء المشهورة في الأوساط العلمية، في جنوب الترارزة، ويعرف عنه بشكل خاص علو همته وإتقانه للمعارف الإسلامية المدرسة في المحظرة، إضافة إلى روحانيته الطافحة، وصرامته في التعبير عن رأيه.
في لكصر القديم كانت تتناثر مساكن قليلة، يطل عليها مقر المنارة العسكرية التي أقامها الفرنسيون لرصد السفن القادمة إلى المحيط، الذي سبق أن تدفقت أمواجه في سيل عات على القرية الصغيرة سنة 1952.
مع بداية الاستقلال أسس الشيخ بداه ولد البوصيري مسجده على أرض أوقفها المرحوم سيدي محمد ولد بزيد، الذي تبرع أيضا ببناء المسجد، في تصميمه الأول الذي استمر عليه لأكثر من خمسين سنة، قبل أن يعيد رجل الأعمال عبد الله ولد انويكظ رحمه الله بناءه في شكله الحالي، المكون من طابقين وملحقات تعليمية.
وسرعان ما أصبح مسجد الشيخ بداه المنبر الأول للعاصمة الفتية، وأصبح رجال نواكشوط الأول جزء أساسيا من جماعة المسجد، ومن بينهم على سبيل المثال عبدات ولد محمد السني، ولمرابط ولد برو، والإداري الشهير محمد ولد اخليل، ورجل الأعمال المرحوم عبد الله ولد انويكظ، ورجل الأعمال الشريف ولد عبد الله مد الله في عمره، والأديب الكبير محمدن ولد سيدي إبراهيم، ورجل الأعمال محمد عبد الرحمن ولد عمارو وغيرهم.
أول إمام لأول جمعة في نواكشوط
من أولياته المتعددة، كان الشيخ بداه ولد البوصيري أول من صلى الجمعة في العاصمة نواكشوط، وكانت تلك الجمعة حدثا مشهودا، حيث عارضها عدد كبير من العلماء وخصوصا في منطقة الترارزة، متمسكين ببعض الاشتراطات الفقهية التي يرون أن العاصمة الفتية لم تستكملها.
ومع الأيام توسعت شهرة الإمام الشيخ بداه ولد البوصيري وأصبح الإمام الأول لموريتانيا، حيث كان إمام لمسجده وجامع ابن عباس المؤسس سنة 1963، سنوات قليلة بعد تأسيس جامع الشيخ بداه.
وقد استمر الشيخ بداه في إمامة مسجده والتدريس في محظرته طيلة قرابة  48 سنة قبل أن يقعده المرض، ومن أشهر نوابه الذين كانوا يتولون الإمامة في غيابه العالمان الجليلان الشيخ ولد مزيد، ومحمد الأمين ولد اميو وديدي ولد الطالب أحمد رحمهم الله.
كما كان المرحوم ديدي ولد الطالب عبد الله أبرز وأشهر مؤذني جامع الشيخ بداه وظل محافظا على نداء الإيمان عدة عقود، فيما كان ينوبه في بعض الأحيان العلامة محمد سالم ولد العالم الملقب فيه إبارك، الذي رافق محظرة الشيخ بداه ولد البوصيري وهو مراهق شاب، قبل أن يصبح بعد ذلك أبرز مشايخها وأهم مدرسيها، ومن بين المؤذنين أيضا يحيى ولد عبداوه، وحماده ولد أحمدو خير، قبل أن يؤول الأذان الآن بشكل رسمي إلى السيد عبد الله ولد أحمدو مد الله في عمره
ومع منتصف العقد الأول من القرن الحالي آلت الإمامة إلى الشيخ إسماعيل بن المختار رحمه الله تعالى، الذي واصل إمامة المسجد والتدريس في محظرته إلى وفاته قبل أقل من سنة، لتؤول الإمامة إلى الشيخ محمد سالم ولد العالم تلميذ الشيخ بداه وخليفته على محظرته، ليتناوب مع أئمة آخرين من بنيهم حفيد الشيخ بداه الإمام محفوظ ولد أحمدو ولد الدين، والقارئ الشاب محمد محمود ولد أحمدو، كما أن المسجد ظل منذ فترة قبلة لمختلف التيارات الدعوية في موريتانيا، حيث تتسابق في إقامة دروسها ومحاضراتها في صحنه العامر.
وقد ظلت خطب الشيخ بداه ولد البوصيري تهز الرأي العام في موريتانيا وتوجهه، وتستفز السلطة في أحيان كثيرة، حيث وقف ولد البوصيري في مواجهة موافق متعددة لمختلف الأنظمة، وكان له دور كبير في إسقاط دستور 1981، إضافة إلى موقف صريح ومناوئ لإعدام قادة كوماندوز 1981، زيادة على موقف صريح وقوي ضد مجزرة حماه، كما كان لمنبر الشيخ بداه دور كبير في تهدئة النزعات العنصرية خلال أحداث 1989 المؤلمة، على منبر مسجده في لكصر نافح الشيخ بداه ولد البوصيري عن "الدعاة" ورفض التهم الموجهة إليهم خلال اعتقالات 1994.
ويذكر جيران المسجد تفاعل الشيخ بداه مع مختلف الأحداث التي مرت بها البلاد، منها على سبيل المثال خطبته الشهيرة في الدعوة إلى إغاثة مدينة أطار بعد السيل الذي حاصرها سنة 1974.
  
محضن الدعوة الإسلامية
يمثل مسجد الشيخ بداه ولد البوصيري ومحظرته منطلقا ومحضنا للدعوة الإسلامية في موريتانيا بمختلف تياراته، وبشكل خاص ما يعرف اليوم بالتيار الوسطي.
وفي هذه المحظرة تلقى عدد كبير من العلماء الأجلاء الذين أداروا دفة العمل الإسلامي معارف واسعة على يد الشيخ بداه ولد البوصيري من بينهم على سبيل المثال وزير الدفاع الأسبق محمد محمود ولد محمد الأمين الذين كان من أبرز التلاميذ المرافقين للشيخ بداه ولد البوصيري طيلة سنوات.
ومن هؤلاء أيضا الشيخ محمد محمود ولد أحمد يوره، والشيخ المحدث محمد الأمين ولد مزيد، والدكتور محمد الحافظ ولد أكاه، والشيخ محمد يحيى ولد بباها، والإمام محمد ولد الدوه، والإمام عبد الله ولد أمينو، والإمام محمد ولد آبواه، والشيخ عبد الرحمن ولد فتى والإمام محمد يسلم ولد محفوظ وغيرهم من الأجلاء
كما تأسست في محظرة الشيخ بداه أولى الخلايا الأولى للحركة الإسلامية التي وجدت في ظل الشيخ بداه ولد البوصيري حماية مجتمعية واحتضانا علميا مبكرا.
كما تصدر  من التلاميذ الدائمين في حلقة الشيخ بداه ولد البوصيري علماء أجلاء وأساتذة جامعيون من بينهم العلماء الأجلاء عبد الرحمن ولد المهدي، ومحمد محمود ولد الكرار، ومحمد الأمجد ولد لبات، والمرحوم محمد عبد الله ولد أفال، امحمد ولد السبتي، والطالب أخيار ولد الشيخ مامين، والدكتور محمد عبد الرحمن ولد الصبار عدد كبير من أجلاء العلماء.
وكانت حلقة شرح الصحيحين منبرا علميا يتسابق إليه عدد كبير من الأساتذة والفقهاء، حيث كانت بالفعل أول دراسة منهجية للحديث الشريف في العاصمة نواكشوط.
وإضافة إلى ذلك بدأت في مسجد الشيخ بداه ولد البوصيري أولى الحلقات المسجدية النسائية في العاصمة نواكشوط، حيث كان يدير الدرس في ساحة بيته الملحق بالمسجد.
وفي هذا المسجد بالذات حلت أيضا أول بعثة من جماعة الدعوة والتبليغ، وبدأ أولئك الدعاة الباكستانيون يتحدثون بأسلوب غير مألوف عن دعوة الشيخ محمد إلياس، وقد احتفى الشيخ بداه بضيوف مسجده الغرباء، وكلف مجموعة من تلاميذه بمرافقتهم وتأمين مغادرتهم للبلاد.
رمضان في مسجد بداه
كان مسجد الشيخ بداه رحمه الله يكتسي حلة رمضانية خاصة، حيث كان الإمام بداه ولد البوصيري يدير حلقة رمضانية، بين الظهر والعصر، تستعرض أحكام الصيام من خلال تفسير بعض آيات الأحكام المتعلقة به، قبل أن ينتقل إلى أبواب الصيام من الصحاح، ومنها إلى أبواب الصيام من كتب الفقه المعتمدة في المحظرة الموريتانية، قبل أن ينتقل إلى درس رمضاني ثابت من كتاب مطهرة القلوب.
كما كان الشيخ بداه ولد البوصيري بتلاوته الجهورية الخاشعة يؤدي التراويح بالناس، قبل أن يقدم في سنواته الأخيرة تلميذه بداه لأداء هذه الشعيرة الإيمانية.
مرت عقود على تأسيس المسجد، وتبدلت أجيال بعد أخرى من رجال الصفوف الأولى في المسجد، وحل أئمة ومؤذنون محل آخرين، وانقضت ذكريات عاطرة، وإذا طلاب الشيخ بداه الذين توافدوا  - شبابا - على محظرته منتصف السبعينيات، شيوخ وعلماء وأئمة، يحتفظ كل منهم بذكرى عاطرة وقصة خاصة مع شيخه بداه، وشيوخ الصف الأول، وجيران المسجد الذي كانوا أيضا جزء مهما من ذاكرة المحراب والمحظرة في أول مسجد اخترقت أذاناته صمت الصحراء، وضجيج أمواج المحيط في العاصمة نواكشوط