شكرا فخامة الرئيس..

خميس, 10/15/2015 - 11:54

يتندر الموريتانيون بالخرافات والأباطيل التي يرويها المحالون على المعاش؛ فكلما أرادوا الاستخفاف بحديث أطلقوا عليه "رد أهل رترت". وتنشط ذاكرة "لمرترت" كثيرا في بداية تقاعده فيسهب في خرافاته ليقنع نفسه بأنه مازال يشغل وظيفة، أو يؤدي مهمة، حتى إذا ضعفت الذاكرة ومل الناس حديثه المعاد، سلك به قدره في ضياع "مرياس، أو ظامت"، أو هدته العناية إلى سبحة وورد، وصلاة الخمس في الجامع...

لا يزال صاحبهم المفتون بالاستعمار في بداية خرافاته التي ينثرها في المواقع، فهو حديث عهد ب"رترت"، ولا بد له نفسيا مما يشغل به وقته الضائع. لكنه تجاوز كل الحدود، حتى التي رسمها كبولاني، فأطنب في التغني بقائد الحملة الاستعمارية، وأسهب في التجني على شيخ المقاومة.

لا نريد أن نناقش "لمرترت" في آرائه، فنحن في بلد ديمقراطي يكفل حرية التعبير ويحميها، وإنما نناقش ما أورده على أنه وقائع وحقائق. أعتذر أولا ل"لمرترت" عن الرد على لسانه الأعجمي بلسان عربي مبين؛ فكما أنه لا يوجه خطابه إلى "تراب البيظان" كما حددها سيده كبلاني، فأنا أيضا لا أخاطب حفدة "الإداري المتنور"، إنما أناجي أبناء "الشيخ الظلامي"... يبدأ "لمرترت" مقاله بأمر صارم: "يجب".

لا تقر فصاحة العرب، ولا رطانة الفرنجة افتتاح خطاب تنظيري بأمر، إلا إذا كان الكاتب سلخ من عمره عقودا يتلقى فيها أوامر ينفذها مرغا، وربما أصدرها مكرها، وتلك حال "لمرترت"، على أغلب الظن. يتوجه فعل الأمر إلى الذاكرة، تجل آخر من تجليات "رترت"، فكل ما تبقى له هو ذاكرة عن أوامر غامضة مثل مفهوم الوطن عنده، ثم يقف في الصف مؤديا التحية لشيخين جليلين عائذا بسلطتهما الفكرية، ولعلهما يستعيذان مما ينسبه "لمرترت" لهما. فلم يسمح الشيخان الجليلان للفرنسيين بشيء. فصياغة "لمرترت" اللَّغوية توهم بأن فتواهما كانت مقدمة للغزو الفرنسي ومشرعة له. والواقع عكس ذلك تماما. ففتواهما لاحقة لدخول الفرنسيين بلادنا دون استئذان من أحد. وحين أصبح الغزو "نازلة" اجتهد الشيخان في حكمها، ولم تكن فتواهما موجهة للفرنسيين، عكس مقال "لمرترت"، وإنما تلمست لبني جلدتهم منجاة في التعامل مع الوضع الجديد. فلم يكونا من دعاة الاستعمار، ولا المرحبين به، عكس "لمرترت"، وإنما تحملا من موقعيهما العلمي النظر في ما عداه الأصلح، ونظر غيرهما في ما عدوه الأحوط... ولكل مجتهد نصيب.

ضل "لمرترت" إذن طريقه حين أراد اللحاق بالنخبة مخلفا ثغرة في الاحتياط... ينسحب "لمرترت" من أكمة الفقه إلى سهل التاريخ متزودا بسوء الفهم. يقول: "... وألف كتابا حول الطرق الإسلامية لإعطاء وجه إنساني ومقبول لدى المسلمين، للتوسع الاستعماري في بلاد السودان وفي موريتانيا." شارك كوبولاني تأليف الكتاب إداري آخر، السيد دبون، والكتاب موجه إلى الإدارة الاستعمارية من أجل تحسين أدائها، وإثراء معارفها حول الإسلام وأهله لإيجاد أفضل الطرق لإخضاعهم بأقل التكاليف والخسائر.

وهو في ذلك لا يختلف عن تقارير الإداريين الاستخباراتية، ولا علاقة له بما يضفيه عليه "لمرترت". ينصح كبلاني، في ذلك الكتاب بإنشاء "مصلحة للشؤون الإسلامية" في رئاسة الوزارة الفرنسية، "تكلف بجمع كل المعلومات المتعلقة بالإسلام، والحصول على معلومات جديدة بواسطة البعثات، وتوفير المعلومات للحكومة والمصالح المعنية، وتحديد توجه عام لسياستنا، واجتذاب أو محاربة، حسب الحالة، الطرق الصوفية الكبرى."(ديزري فيللمين: كبولاني في موريتانيا، مقال، مجلة تاريخ المستعمرات 1955،المجلد 42، العدد148، الصفحات:291-342)، فأين الوجه الإنساني في هذا؟ يستمر "لمرترت" في رواية التاريخ على هواه، فيزعم أن سيده "اقترح استبدال الزكاة بالضريبة التقليدية "، و هذا من فقه "لمرترت"، ولا علاقة لكبولاني به فهو أفقه من مريده، ويعلم أن الزكاة لا تدفع لغير المسلمين، فقد حدد القرآن مصاريفها، وليس من بينهم الكافر المتغلب...

يطور "لمرترت" هجومه على الدولة الموريتانية، مخدوعا مثل كل الغزاة الذين يتوغلون في المهامه دون ترو، بما عده ثغرة، وهو في الواقع كمين محكم، فيعطي الزكاة وظيفة القضاء على الفقر، ويجعل رئيس الدولة جابيا، استنباطا من فقهه الكبلاني. لقد كانت الزكاة تجبى في الدولة الإسلامية ولم تقض على الفقر، ولم يلزمها الشارع بذلك؛ فالفقر والغنى حالتان سرمديتان في المجتمعات، جبيت الزكاة أو لم تجب. استغفرك اللهم من مجادلة "لمرترت" بالفقه، فلنعد إلى سيرة الهالك كبولاني، فهي به أرفق. يتحسر "لمرترت" على شباب كبلاني..الذي "اغتيل في التاسعة والثلاثين في هذه الليلة المؤلمة من مساء الجمعة 12 والسبت 13 من مايو 1905 في تجكجة على يد متعصب أبله حطم حلم هذا الإداري الشهير، والإنساني الكبير، صاحب الذكاء الرفيع، الذي أراد أن يجعل بلدنا أكبر وأغنى بلد  من بلدان غرب إفريقيا الفرنسية.

وضعت هذه الجريمة البشعة نهاية للتوغل السلمي القائم على تفاهم القلوب والمصالح، وفتحت الباب للتوغل بالقوة الذي أعطى النتائج التي نعلمها." وكفكفت الخنساء دموعها على كبولاني طويل النجاد، كثير الرماد، ساد البيظان أمردا... أما ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، المتعصب الأبله، فلا بواكي له. وصدق جده.. فالمفلس من باع آخرته بدنيا كبولاني وأتباعه من البيظان، والتكرور والفلان... لا نناقش آراء "لمرترت"، كما نوهنا من قبل، ولا تفاجئنا، بعد تقريره عن معركة أم التونسي، وبكائه مع فلام، وتباكيه على لحراطين، وإنما نبين للقارئ تهافت روايته للأحداث، وسوء فهمه للوقائع.

يصف "لمرترت" كبولاني بالذكاء الرفيع، لكن الذين عاصروه أيام التحصيل، حيث يبرز الذكاء لهم رأي آخر.."... لم يكن مثالا للتلاميذ، وحسب أحد معاصريه، الشاعر الكورسيكي ميسترال كان يهرب من المدرسة غالبا؛ فقد كان له مزاج متشرد، يعرف كل الأعشاش في ريفه، وعدد البيوض... كان مثلي يمشي حافيا، يتسلق أشجار الكرز مثل القرد..." بعد دراسته في المدرسة العليا في قسنطينة عين في وظيفة صغيرة في البلدية.

وبدل الإداري الشهير تستعمل فيللمين، وهي به أدرى، وصف " الإداري الغامض" (نفس المعطيات السابقة). ينسب لمرترت إلى الهالك كبولاني مشاعر فياضة تجاه بلدنا. لكن كبلاني نفسه يكذبه، فلم يرد جعل بلدنا أكبر وأغنى بلد في المنطقة، وإنما لهث خلف طموحاته الشخصية وعقيدته الاستعمارية. يقول كبولاني:" إن أقصى طموحي أن أكون واليا على هذا المكان، لأنني أنا الذي أعطى هذا البلد لفرنسا." (ن.م.س).

لقد أعطى الجمل بما حمل لفرنسا، فلا صدى لما يدعيه لمرترت، الذي ينتقل إلى دعوى أخرى عريضة عن تفاهم القلوب والمصالح، والتوغل السلمي. هنا أيضا تتكفل الوقائع بنقض رواية "لمرترت". تقول فيللمين:"... وهكذا تدخل كبولاني [في نزاع إمارة ترارزة] الذي قضى سنة يحضر عمليته في سينلوي، فاستطاع القيام بجرد لقواته وإمكاناته، مقارنة بقوات وإمكانات خصومه... رافق كبولاني كل من الملازم فيللو، ومشلآنجلي المكلف بشؤون السكان المحليين، والمترجم بو المقداد، وكانت الحراسة الأمنية كبيرة جدا: ثلاثة فصائل من السنغاليين... تحت قيادة النقيب شوفو والملازمين سيكولي، وبرنفال، ولابيير.

وأخيرا مفرزة من الرماة السنغاليين يقودهم الملازم أوبير." فهل يدل كل هذا على تفاهم القلوب والمصالح؟ كانت فللمين أدرى بالحقيقة حين وصفت البيظان بخصوم كبولاني. ولا يترك تعامله مع أمير ترارزة شكا في نوايا كبولاني؛ فقد اشترط عليه، حين التقاه في دغانا توقيع إعلان خضوع ترارزة للحماية الفرنسية، مقابل تأييد كبولاني للأمير في صراعه مع ابن عمه. وتقول فللمين إن ذلك الإعلان أنهى الحقوق التقليدية "المذلة" التي كانت فرنسا تدفعها للإمارة؛ فمن ربح، ومن خسر؟ يصل "لمرترت"، بعد ضلاله في الفقه، وتيهه في التاريخ، إلى ما يعده دليلا دامغا على حسن نوايا "الإداري المستنير" تجاه البيظان (لا يقيم لمرترت وزنا لغيرهم من سكان البلاد)، فيترجم رسالة الهالك إلى أحد المشايخ، وعدها معبرا "عن روح تلك الرؤية المتمثلة في التوغل السلمي...". ولا يعلم "لمرترت" أن تلك الرسالة نسخة مكرورة من رسائل الغزاة الذين يستخدمون الخديعة، والإغراء والإغواء لتحقيق أطماعهم الدنيئة بأقل تكلفة، وأخف الخسائر.

إنها صورة من رسالة نابليون إلى أهل مصر، حين غزاها. قال نابليون في رسالته حينما نزل الإسكندرية في شهر (المحرم 1213 هـ = يوليه 1798م) "بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا ولد له ولا شريك له في ملكه. من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية، السر عسكر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونابارته، يعرف أهالي مصر جميعهم أن من زمان مديد الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، يظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي؛ فحضر الآن ساعة عقوبتهم، ...يا أيها المصريون قد قيل لكم: إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين: إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين،... ولكن بعونه تعالى من الآن فصاعدًا لا ييأس أحد من أهالي مصر عن الدخول في المناصب السامية، وعن اكتساب المراتب العالية، فالعلماء والفضلاء والعقلاء بينهم سيدبرون الأمور وبذلك يصلح حال الأمة كلها...طوبى ثم طوبى لأهالي مصر الذين يتفقون معنا بلا تأخير فيصلح حالهم وتعلو مراتبهم. طوبى أيضًا للذين يقعدون في مساكنهم غير مائلين لأحد من الفريقين المتحاربين فإذا عرفونا بالأكثر تسارعوا إلينا بكل قلب. لكن الويل ثم الويل للذين يعتمدون على المماليك في محاربتنا فلا يجدون بعد ذلك طريقًا إلى الخلاص ولا يبقى منهم أثر‏.‏"(عجائب الآثار للجبرتي).

نفس العبارات، ونفس الذرائع والأساليب؛ التمسح بالدين، والوعد والوعيد، وحماية التجارة، وتأليب أهل البلد بعضهم على بعض. فالمعادل الوظيفي للمماليك في مصر هي الإمارات العربية في موريتانيا، والزوايا أشباه ونظائر أهل مصر الطيبين. ويعلم الموريتانيون أنه لم تكن الإمارات العربية تشن الحروب على الزوايا، بل كانت تجلهم، ولم تكن الحروب القبلية بين العرب والزوايا، وإنما كانت بين العرب والعرب، والزوايا والزوايا، وبين العرب والزوايا في حالة واحدة محفوظة ولا يقاس عليها. أما احتجاج كبولاني بغارات تراروة على الضفة الأخرى فقد فندها والي إفريقيا الغربية في السنغال السيد شوديي:"ظلت علاقاتنا مع البيظان سلمية دائما، ومستوحاة من سياسة حكومة فدرب. فمقابل دفع بعض الحقوق التقليدية، تم تأمين سلام شامل... منذ 1855 إلى يومنا هذا...".

كما يفند الوالي بالي مزاعم كبولاني عن تهديد البيظان للتجارة في مستعمرة السنغال:"لتجارة السنغال ارتباط عميق بالإجراءات التي يتبعها ولاته، وأي مساس بالعادات والتقاليد التي ألفها البيظان حين يفدون للتجارة في سينلوي سيدفع إلى احتجاجات عنيفة من قبل غرفة التجارة، والمجلس العام، والهيئات المنتخبة في المستعمرة."

وختاما.. ربما ذهبنا بما كتبه "لمرترت" مذهبا لم يخطر له على بال، فعل معلم الصبيان مع خمرية أبي نواس. فهو لا يهاجم المقاومة ويمجد الاستعمار إلا لسبب سياسي ساذج يتبعه هو وزمرة من المعارضين المستعدين للتعاقد مع الشيطان عبر صغار وسطائه مثل كبولاني للتشويش على السياسة الرشيدة التي ينتهجها فخامة رئيس الجمهورية الذي أعاد الاعتبار للمقاومة ورموزها فأراد "لمرترت" طعنها في الظهر مستفيدا من حقه في التعبير بعد أن استفاد من حقه في التقاعد... فلأمر ما ينزعج البعض من مطار أم التونسي، ولأمر ما يصر البعض على إطلاق شارع عزيز على شارع المقاومة الذي ينكأ اسمها جراحهم في العراقيب، والإليتين... تقول الرواية إن نابليون حاصر مدينة فاستعصت عليه، حتى إذا أراد رفع الحصار جاءه أحد ضباط حاميتها، لعله محال إلى المعاش، وسلمه المدينة. بعد احتلالها طلب الخائن مقابلة نابليون، فلما مثل بين يديه رمى كيس مال تحت قدميه. قال الخائن: إنما أردت أن أتشرف بمصافحة الإمبراطور. رد نابليون في ازدراء.. لا أصافح الخونة. ويقال إن كبولاني لفظ أنفاسه وهو يقول: "قتلني البؤساء"، ولعله يسخر الآن في الجحيم:"أحد البؤساء يحاول إحيائي"... وصدق من قال الخيانة ليست وجهة نظر... شكرا فخامة الرئيس على ما قدمتموه للمقاومة... 

محفوظ الجيلاني