عندما بكى المختار بن دادَّاه

أربعاء, 02/24/2016 - 13:13

ذهبتُ يوم أمس (الاثنين 22 فبراير 2016 م) إلى بوتلميت رفقة بعض الزملاء من الجماعة من أجل تعزية ساكنة المدينة عموما و خاصة منهم أشياخَنا أسرة أهل الشيخ سيديا

 

 

 

إثر وفاة الخليفة العام للأسرة الفقيد الشيخ موسى بن محمد بن باب بن سيدي محمد (سيدن) بن الشيخ سيديا الكبير المتوفى فجر يوم الأحد 21 فبراير 2016.

 

وكانت هذه المناسبة بالنسبة لنا فرصة لا تعوض إذ التقينا خلالها بالإخوان والأصدقاء الوافدين للتعزية من كل حدب و صوب.

 

وفي نهاية المطاف و أثناء تطوافنا لتوديع أفراد الأسرة الكريمة الحاضرين في الخيمة الأسرية المضروبة لاستقبال الضيوف، مررنا في أحد أركانها العامرة بمجلس العميد الوزير السابق أحمدْ كلِّ علَمًا فإذا به قد اكتسب من تفاصيل أخبارنا الشخصية كما قال أكثر ممَّا كان بحوزته عند مرورنا الأول للسلام عليه ابَّان المجيء ثم خلع علينا من ذلك أوصافا حميدة قد تنطبق على بقية المرافقين أما أنا فإنني منها براء.

 

قلت له: قد لا يُستغرب ذلك فكم من آوٍ إلى هذه الحضرة المباركة حسُن حالُه و تبدلت أحواله أحرى إذا كان مريدا صادقا له بها سند قوي متَّصل!

 

ثم ألحَّ علينا في الجلوس لمشاركته مائدتَه الإعتيادية الخاصة وشيكةَ الحضور فقبلنا طائعين و قلتُ له: يدفعني الفضول الصحفي الجامح إلى انتظارها لأعلم هل في الإمكان أبدع ممَّا كنَّا قد شهدناه من موائدَ من قبل في ركن آخر من خيمة الضيافة!

 

وقبل حضور المائدة وأثناء تناولها تبادلنا من أطراف الحديث ما خوَّلتنا إياه وتيرة تعاقب الوفود المتتالية.

 

تطرقنا أثناء ذلك الحديث الخاطف الممتع إلى شذرات من علاقة الأسرة مع سنديْنا في الطريقة و هما من أكبر تلاميذ الشيخ سيديَّ الكبير و هما الشيخ أحمدُّ و بن اسليمان و الشيخ أحمدْ بن الفالِّ ثم استطردنا القصة المشهورة المتداولة لدى الجميع التي مَفادُها إخبارُ أحد أفراد أسرتنا الخاصة (أهل خالُنا) إن جاز أن نصف وليَّ الله العلاَّمة محمد والد بن خالُنا بفرد من أفراد الأسرة:

 

قالوا أبو الصخر من شيبانَ قلت لهم == كلاَّ لعمري و لكن منهُ شيبانُ!

 

أقول: استطردنا إذن قصة إخبار والد بن خالُنا المتوفى سنة 1212 هجرية مريدَه محمذ بن منِّيه بن ألفغ عبيد بظهور الشيخ سيديَّ الكبير المتوفى سنة 1286 هجريةو ذلك عن طريق الكشف الصريح.

 

لاحظنا أن الروايتين الشفهيتين هنا و هناك تكادان تتطابقان مع ما رواه العلامة هارون بن الشيخ سيديا في" كتاب الأخبار" الصفحة 73 – 74 من الطبعة الأولى الجزء الأول و هذا نصه:

 

[إن محمذن ولد منِّيه بن الفغ عُبَيْد (خال الشيخ سيديا الكبير) الذي رأس أولاد أبييري زمن حرب تندغه و صحب والد الديماني لما انتهى أمر الحرب المذكورة وتاب إلى الله تعلى معه وصار يبكي من خشية الله كان يقول إنه قال له شيخه والد: "إن دولة الزوايا مطلقا، ودولة أولاد أبييري خاصة، ستصلح على يد واحد من قومكم المتغيبين في طلب العلم".

 

وكان من بين المتغيبين منهم آنذاك لطلب العلم ابن أخته الشيخ سيديا وابن أخيه سيدي المختار.

 

وكان منيه يتطلع دوما إلى خبر الشيخ سيديا (ابن أخته) أكثر من تطلعه إلى خبر سيد المختار (ابن أخيه) ويقول: "إنه هو يرجو ذلك لابن أخته الشيخ سيديا دون ابن أخيه سيد المختار بن سيديا".

 

وتمر الأيام لتتحقق أمنية الخال و لتنكشف للعيان صحة كشف محمد والد بظهور الشيخ سيديا الكبير.

 

يقول هارون: "ومنيه هذا ابن ألفغ عبيد هو الذي ذكره عبد المالك في عدة أقرباء الشيخ سيديا الكبير فمدحه قائلا من الشعر الحساني:

 

خالُ منّيه الرايس الصبّارْ عطّاي كيف عشّايهَ ميَّ

اصوّاعهَ زاد فَيْتانْ الاشرارْ ما كط ابغاله النعريَّ]

 

وأثناء هذه الجلسة الخاصة حول تلك المائدة الخاصة كذلك قدَّمت بقية الرفقاء إلى أعضاء مجلسنا الموقر و منهم الخليفة العام الجديد الشيخ ابراهيم بن الشيخ سيد المختار (ابَّاه علما) بن الشيخ سيدي محمد (سيدنَ علما) بن شيخنا الشيخ سيديَّ الكبير.

 

قلت لهم مشيرا إلى الزملاء الرفاق: أما هذا فهو حفيد ولي الله الصافي بن المصطف بن بلَّ الذي يقول فيه العلامة الصالح امحمد بن أحمد يوره:

 

و هو من يدعونه بالصافي == من كان ذا علم و قلب صافِ

 

و أما هذا فهو نجل العلامة محمد عال بن محنض مريد الشيخ محمدن بن الشيخ أحمدْ بن الفالِّ وهو كذلك الذي يقول فيه تلميذه العلامة كرَّاي بن أحمد يوره:

 

يظل من علمه الصافي يُعللنا == صِرفا فيسهُل للأفهام ما صعُبا

 

وأما هذا فهو نجل المختار(تُوتاه علَما) بن أبْنُ بن الأمانه و هو من الأعلام المدرسين الرواد في مدرستيْ المذرذره و بوتلميت النظاميتين و هو من معلمي الرئيس المؤسس المختار بن دادَّاه و قد أثنى عليه كثيرا في مذكراته كما هو معلوم.

 

هنا تدخل العميد أحمد كلِّ فروى لنا بروية القصة التالية.

 

قال: "زرت الرئيس المختار بن دادَّاه في منزله بعد عودته من الخارج و كان إذ ذاك قد ضعُف جسمه فقال لي هلاَّ حدَّثتَني من مآثر جدكم الشيخ عبد الله بن الشيخ سيدي؟

 

(لعلي لا أحتاج إلى توضيح أنه جد أحمد كل لأمه إذ أن أمه هي الناه بنت الشيخ عبد الله بن باب بن الشيخ سيدي).

 

قال محدثي: استجبتُ لطلبه فقلت: حدثني الشيخ عبد الله نفسُه أنه نزل عندكم و الوفد المرافق له ضيوفا في بئر أم اكرين عندما كنتم فيها ترجمانا و ذلك في بداية الأربعينيات لدى عودته من حجته المشهورة.

 

وصل القوم ليلا فقلتم له: منذ أن أبلغتني السلطات الفرنسية بشرف نزولكم عندنا و أنا أهيء لكم نوقا حلائب أنظف ضروعها كل يوم منذ أسبوع و موازاة لذلك أعددنا لضيافتكم ما يناسب من الموائد.

 

فقال لكم أما الطعام المُعَد فأحضروه للمرافقين و منهم الترجمان المشهور بوبكر بَهْ و أما أنا فقد اخترتُ اللبن على أن تُلبسوني تلك الزربية (مُشيرا إلى زربية بجانبه) لأحتمي بها من البرد القارس آنذاك !

 

ثم إنكم بادرتم فحلبتم له إحدى تلك النوق تساعدكم في ذلك امرأة على ما ذكر.

 

و قال الشيخ إنه شرب ذلك اللبن ذا النكهة التيرسية الخاصة فاستمتع فيه بطعم ما فارقته لذاذته منذ ذلك التاريخ إلى حين روايته لهذه القصة بعد ذلك بعهد طويل و ذلك بالرغم من كل التطورات السياسية و الإدارية اللاحقة!

 

قال محدثُنا العميد أحمد كلِّ: و ما إن أكملتُ القصَّة حتَّى رأيتُ الرئيس يَجأش بالبكاء الشديد المتواصل و الدموع تنهمر فيَّاضةً من عينيه فندمتُ كثيرا أن أوقعتُه في مثل تلك الحالة المؤثرة و ما زلت أهديء من روعه حتَّى كفكف دموعه و عاد إلى وضعه الأريحيِّ المعهود.

 

ثم أكمل محدثُنا قائلا: سألتُ جدنا الشيخ عبد الله عن سر طول احتفاظه بذلك الطعم فقال: لعل من أسباب ذلك أن آخر عهدي بشرب لبن الإبل قبل ذلك التاريخ يعود إلى ستة أشهر كاملة!

 

وهنا سألتُه أقول: و ما السر كذلك في سفر الشيخ برا لا جوا لعلمي بأن كل من حج آنذلك من المشايخ الموريتانيين برعاية الفرنسين كالشيخ التراد بن العباس و غيره سافروا جوا لا برا و لا بحرا!

 

أجابني العميد قائلا: هو من رفض السفر جوا إذ كانت قد أُصيبت طائرة يستقلها بعطب فني في سفر له سابق و لكن ذلك موضوع عريض آخر.

 

وإنني آمل من كل قلبي أن يكون ذلك الموضوع الموضوع العريض الآخر مَوضِعَ تدوينة لاحقة إن شاء الله.

 

هذا وكنت قد ألحَّت عليَّ في أثناء الطريق أفكار سطحية تكدرها من حين لآخر هواجس طريق الأمل إن شاء الله بمُنعرجاتها المتلاحقة بمسافتيْها ذات الصُعود و الهبوط فألبست تلك الأفكار الباهتة من الألفاظ السوقية لَبوسا من الأصناف الدونية و نظمتُها في سلك هزيل برنَّات فرضتْ نفسَها خلتُها متناغمة و الله يعلم أنِّي أجهل حتَّى الآن إلى أي بحر أو و نهر تنتمي و سميتها من باب التجوُّز مرثية و ما هي كذلك، ثم تجاسرت على إلقائها في محيط آمن مجامل محدود بعد أن ألقيتُها على انفراد عند المدخل على مسامع الشاعر المبدع التقي بن الشيخ فقرأت في قسمات وجهه تقييما لها موضوعيا يُفيد حسب ما أعتقد محض الإجازةً دون الاستحسان.

 

و هي هذه:

 

جرد رويا شموسا == وارث الخليفة موسى 

وواس الآشياخ فيه == بدورهم والشموسا

وأغش المجالس منهم == توق شرا وبوسا

لهم مقاعد صدق == داموا عليها جلوسا 

للشيخ سيدي سر == منه أداروا كؤوسا 

وظاهر السر فيهم == ما إن يخاف طموسا 

فكم قلوب قد أحيوا == وكم أماتوا نفوسا 

مذ أعلنوها عليها == حربا سجالا ضروسا 

تفوق حرب بعاث == وداحسا والبسوسا 

والروح منا كسوها == من الصفاء لبوسا 

أشياخنا الشم دمتم == لنا هداة رؤوسا 

فكم بكم قد أزلنا == مظالما ومكوسا 

إني حلفت يمينا == ليست يمينا غموسا

ما إن أفي الحق منكم == ولو ملأت الطروسا

على النبي صلاة == تنسي الزمان العبوسا

 

رحم الله السلف و بارك في الخلف.

 

   محمدن ولد سيدي الملقب بدّن