منارةٌ تزداد إنارةً/ بقلم أبو تراب كرار العاملي

أحد, 09/18/2016 - 22:10

غريب هذا العالم، عجيب ما نشهده من أحداث وتطورات تتخذ من الإعوجاج الفكري مساراً لها، ومن المصالح الشخصية العمياء أهدافاً لمجرياتها، ومن تهديم الشعوب وإهدار حقوقها شعاراً في مسلكية دربها. لسان حالها، لا بأس أن تُهدَر الدماء وتُضرَب الأعناق وتُزهق الأرواح وتُغَيَّب الهامات الشامخة وتُعَتَّم المنارات اللامعة، مقابل تحقيق الأطماع المرجوة والطموحات المتعجرفة وتعبئة الجيوب بدنانير فانية.

سمعنا في يوم ما، بعد أن وُلِدنا وترعرعنا وَوَعِينا في أرضنا الغالية ووطننا الحبيب، أن مارداً من رجالات التاريخ، عامِليُّ الأصل وجنوبيُّ المنبع، قد مَرَّ على هذا التراب، بعمامته المباركة وعباءته الطاهرة، جاء من بلاد فارس حيث كانت ولادته وتحصيله العلمي، الذي تابعه في النجف بعد ذلك، أتى كشهابٍ لامع في سماء الجهل وفضاء الظلمة، ليبني وطناً لجميع أبنائه، بمختلف طوائفهم وتعدد مذاهبهم، ليكرس مبادئ الوحدة الوطنية وأسس التعايش المشترك، وليعيد للأرض سيادتها وللدولة هيبتها وللشعب عزته وللأمة كرامتها، بعد التعدي الغاشم والإعتداء الصارخ من قِبَل العدو طمعاً بأرضنا وخيراتها ونهباً لثرواتها.
                      
وَغُيِّبَ السيد أخي القارئ، رَحَّلوا سيد المحرومين الى المجهول، أَبْعَدوا السيد موسى الصدر الى بواطن الزمن، ذهبوا به الى حيث يُدفَن الحق، دفنوه في صحاري الحقد ومقابر الضغينة.

ممنوع عليكم أيتها الشعوب الكريمة أن تعيشوا بكرامة وأمان، يُحظَر عليكم أن يكون لكم قائدٌ حكيم ورجل شجاع وفارس مخلص ينتشل أيديكم من قبضة الزناد الى أغصان الورود، وينجيكم من براكين الفتنة الى رضوان المحبة وباحات الإخاء.

كيف للسلاطين والطواغيت أن يغرقوا في خمور قصورهم ويستلذوا بأحضان جارياتهم قبل أن يتخلصوا من ذوي العقول النَيِّرة والكفوف البيضاء كي تخلو الساحة من أي رقيبٍ ومحاسب.

سيدي أبا صدري، ليت الطائرة لم تقلع في ذلك اليوم، سيدي ليت المطار تعطلت مدرجاته أو توقف طاقمه عن العمل، ليت القبطان لم يأتي أو تأخر عن الموعد. لماذا لم يطرأ أمرٌ ما في ذلك اليوم المشؤوم لِتُلغى الرحلة؟ لماذا لم يُلقي العُسْرُ بظلاله على تلك السفرة الملعونة؟ 

يصدق على سماحة السيد قوله تعالى"أشداء على الكفار رحماء بينهم"، فمن جهة نجد حرصه على الوحدة الوطنية الداخلية، وعلى أهمية التعايش المشترك بين مختلف شرائح الوطن، وعلى سعيه الدؤوب ومجهوده المكثف لاجتثاث الحرمان من المواطن المسيحي كما المواطن المسلم، والعمل على منع ظاهرة المتسولين في الشوارع وتأمين فرص الدراسة للصغار والدراسة المهنية التخصصية. وها هو الكفاح المضني لسماحته يتجسد بتأسسيه حركة المحرومين، والتي اتخذت من الإيمان الحقيقي بالله والإنسان وحريته الكاملة وكرامته مبدأ لها، ووضعت نصب أعينها رفض الظلم الإجتماعي، ونظام الطائفية السياسية، ومحاربة "بلا هوادة" الاستبداد والإقطاع والتسلط وتصنيف المواطنين. كما وتميزت هذه الحركة بوطنيتها وتمسكها بالسيادة الوطنية وسلامة أرض الوطن، ومحاربتها الاستعمار والاعتداءات والمطامع التي يتعرض لها لبنان،،،وَغُيِّبَ إمامُ المحرومين.

وبما أن الطائفة الشيعية كانت من أكثر الطوائف حرماناً ومعاناةً في الحياة المعيشية، وتعرضاً للغبن والظلم في الحياة السياسية، أسس سماحته المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، والذي هدف الى تنظيم أوضاع الطائفة الإسلامية الشيعية، والذي تم إقرار قانون إنشاءه من قِبَل المجلس النيابي في العام 1967،،،وَغُيِّبَ إمامُ الطائفة . 

ومن جانب آخر، وإضافةً الى المنحى الرحماني والروح العطوفة والنفس المحبة واليد الممدودة الى شركاء الوطن، رفض السيد الإحتلال الإسرائيلي الغاشم للأراضي اللبنانية والفلسطينية، وقام بتشكيل الجناح العسكري لحركته المباركة لمواجهة العدوان الغاصب، ومعتبراً بحذاقة عقله وذهنه المتبصر، بأن إسرائيل هي شر مطلق، وبأن لها مطامع معروفة في مياه الليطاني وفي الجبال الشاهقة، وبأن وجود لبنان متجانس ومتعايش يُعتبر تحدياً لإسرائيل، لذا فهي تدفع بالأزمة باتجاه التفجير الطائفي، زارعاً بذلك بذرةً طيبةً في أرضٍ شريفةٍ، أصلها ثابت وفرعها في السماء، لتمهد لانتصارات مدوية على مدى العصور والأجيال، وتروي حكاية الأرض للسماء،،،وَغُيِّبَ إمامُ المقاومة.

وكيف بثمان وثلاثين عاماً أن يمضوا والسيد مغيب، أَهُوَ إهمالٌ أو تكاسلٌ أو تقصُّد? أين أصحاب القرار والجهات المسؤولة عن المتابعة? طبعاً نحن لا ننسى الاطراف التي تسعى جاهدةً لكشف مصير السيد، ولا نبخس حقوقهم ومجهودهم، ولكن آن الأوان لأن تصل القضية لنتائجها المرجوة، وأن يرسو مركب الإنتظار على شواطئ عواقبه الحميدة بعد أن أَطالَ القبطانُ المسير وسلك دروب ابن بطوطة عاجزاً عن الوصول الى نقطة النهاية.

 

فقدانك أبا صدري خسارة وطنية عابرة للطوائف، غَيَّبوك فَإذا بك تولدُ في نفوس كل جيل يبصر الحياة، ونهجك ينير دروب الأحرار، ومواقفك شعلةٌ شامخةٌ لا تؤثر بها الرياح العاتية والعواصف الهائجة.

يا للمفارقة ويا للمعادلة، غُيِّبَ سيدٌ في الواحد والثلاثين من آب، وَوُلِدَ سيِّدٌ في الواحد والثلاثين من آب ليكون أميناً على المقاومة، أميناً على الأرواح، أميناً على الأرض، أميناً على الوطن, "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" .