يطلقها الأفراد وتستخدمها الحكومات للتعمية وخلط الأوراق: الإشاعة هذا النشاط المحموم والمكذوب الذي يملأ عالمنا اليوم

ثلاثاء, 11/01/2016 - 10:39

 تملأ الإشاعة عالمنا اليوم، في كل لحظة تطلق كميات هائلة منها، وفي عصرنا الحالي تحولت الإشاعة لسلاح فتاك سريع الإصابة.
واستفحلت ظاهرة الإشاعة وكثر مطلقوها من أفراد ودول لأهداف مختلفة. وليست الإشاعة وليدة اليوم بل هي قديمة جدا، فالإشاعة آفة قاتلة مدمرة ومذمومة ونادراً ما تكون صحيحة ولكن سواء كانت حقيقة أو كذباً فهي تطلق لأهداف مختلفة قد يكون فيها إحداث فساد أو ضرر أو قياس مدى ردة فعل حول قضية ما.
وفي ظل تطور وسائل الإعلام والاتصال وتعددها وظهور ما يسمى بالإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي، أصبح تدفق الإشاعة مذهلا من أخبار وروايات وقصص تضع المتلقي في حيرة من أمره لا يعرف كيف يتأكد من صدق أو كذب ما يشاع.
ونظرا لأن مطلق الإشاعة مجهول فقد أطلق الإعلام عليه مسمى «رجل الشارع» ذلك الرجل المعجزة الذي يتحدّث الناس عنه، ويعزون إليه ما يشاؤون.
والشائعات موضوع بالغ الخطورة تكلّم فيه علماء الأمن، ومنظّرو الاستراتيجيات العسكرية، وعلماء الاجتماع، والسياسة.
وقسّمت الإشاعات إلى أنواع وفصائل، وحددوا فصائل كل نوع وطبيعته، وكيفية التعامل معه، وكيف قيل.
يقول عالم الاجتماع الموريتاني محمد فال عبد اللطيف عن الإشاعات في موريتانيا «الإشاعات في المجتمعات ذات التقاليد الشفهية، أكثر من غيرها، كما هو الواقع في موريتانيا، حيث اختلطت الحضارة الافريقية، بقصّاصها، وعلماء آثارها، وحملة أساطيرها، بالحضارة البدوية العربية، بنواديها وأنديتها، وخطبائها وشعرائها ..فظاهرة الشائعات في موريتانيا قديمة جدا».
وأضاف «لعل كلمة (أساغه) بالحسانية، تحريف لكلمة (إشاعه) وقد كان عندنا في النظام الأميري، طائفة من أهل بلاط الأمير، متخصّصة في ترويج الإشاعات، خدمة للأمير، ومناوأة لخصومه يحيكونها، ويبرمونها، في إطار حرب نفسية حقيقية، لا يكاد يفك خيوط حبكتها، إلا الأحوذي المجرّب».
وعن موقف الشرع من الإشاعة يقول عبد اللطيف «الحق أن تعاطي الإشاعات ليس محرّما في الشرع بصفة مطلقة، فربما دخل في إطار الخدعة، التي تقوم عليها الحرب، فالحرب خدعة، كما يقال».
«وأي منا، لا يتذكر الإشاعات المتقنة، التي فرّق بها الصحابي نعيم بن مسعود الأشجعي رضي الله عنه، جموع الأحزاب، الذين أحاطوا بالمدينة المنورة من كل جانب، ليستأصلوا أهلها، ويقضوا على الدعوة الجديدة. فقد استطاع هذا الصحابي الجليل، بما أوتي من ذكاء ودهاء، أن يخذل بين جنود قريش وغطفان، وجنود اليهود، بعد أن أذن له الرسول عليه الصلاة والسلام في أن يقول في ذلك ما شاء».
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام، يدرك خطورة الإشاعات، فيتحاشى كل ما من شأنه أن يكون مثار إشاعات سيئة ضد الإسلام فأحجم عن قتل المنافقين، مخافة «أن يتحدّث الناس، أن محمدا يقتل أصحابه، وعدل عن التحقيق بصفة أعمق في قضية سحر بنات لبيد الأعصم، مخافة أن يثير على الناس شرا، من ترويج السحر وتعاطيه، في صفوف المجتمع المسلم».
وتحدث ولد عبد اللطيف عن الإشاعات الرسمية قائلا «هناك نوع من الإشاعات يمكن أن يسمّى بالإشاعات الرسمية، وهي شائعات تطلقها دوائر الدولة عمدا، لمقصد شريف، من استطلاع رأي، أو مقاومة فساد، أو رد على شائعات مثلها».
وزاد «وتحدّثنا كتب التاريخ أن الخليفة معاوية بن أبي سفيان، كان إذا عزم على أخذ قرار سياسي خطير، أطلق شائعة بشأنه فينتظر ما كان من رد فعل الناس فإن كان رد الفعل حسنا مضى في تنفيذه، وإن كان رد الفعل سيئا تراجع عنه وتبرأ منه، وفنّد الشائعة، وشجب الأوساط التي قد تكون صدرت عنها».
ومن المواد التي تتأثر بالشائعات كثيرا، سلبا وإيجابا، المنتوجات التجارية، فكم شائعة سيئة حول بضاعة معينة، أدّت إلى إفلاس صاحب البضاعة، بغض النظر عن صحة تلك الشائعة أو كذبها، وكم من بضاعة راجت رواجا ما كانت تحلم به، جراء شائعة سعيدة، رفعت خساستها.
وهل الموضات إلا نتائج الشائعات؟..»هذه المادة ترطّب البشرة، وتمنع الصّلع، وتزيد في كذا» فتطير بهذه الصفات أجنحة الشائعات إلى كل أصقاع الدنيا.
وتحدثنا كتب التاريخ عن قصة تاجر الخمر السود الكاسدة التي روّجها له أحد نسّاك المدينة، بإشاعة أطلقها في أبيات شعرية تحدّث فيها عما فعلت المليحة ذات الخمار الأسود، بالراهب المتعبّد.
هكذا تعيش الإشاعة بيننا كائنا مجنونا يملأ حياتنا كذبا ويفرض إلى جانب واقعنا الحقيقي واقعا آخر مفترضا تنزرع بموجبه الفتن والخلافات بيننا وحتى أن الحروب قد تندلع بسببه.
يستعصي على المجتمعات البشرية التخلص من الإشاعة أو تطهير العقول منها ومن تأثيرها ويستحيل التحكم فيها، فهي منتوج إعلامي ينتشر كالحريق وما من مطافئ يمكن أن تخمد نيرانه المشتعلة في كل بيت!!

عبد الله مولود/نواكشوط ـ «القدس العربي»: