عبد الباري عطوان/ لماذا اختار بوتين قاعِدةَ حميميم الجَويّة للاحتفال بالنّصر واستقبال الأسد؟

ثلاثاء, 12/12/2017 - 01:30

لماذا اختار بوتين قاعِدةَ حميميم الجَويّة للاحتفال بالنّصر واستقبال الأسد؟ وهل يُعيد الاتفاق النوويّ مِصر إلى الحاضِنَةِ الروسيّة؟ ولماذا نَجزم أن المَحطّة التركيّة الأكثر أهميّة في جَولَتِه الخاطِفة؟ وهل يَكفي ضَربْ المُطبّعين العَرب بنِعال السيد نصر الله؟

 

 

تعكس جولة الرئيس فلاديمير بوتين الحاليّة الخاطِفة لمِنطقة الشّرق الأوسط، وتشمل ثلاث مَحطّاتٍ رئيسيّة هي سورية ومِصر وتركيا النّفوذ الرّوسي المُتضخّم الذي يَتمدّد بسُرعَةٍ قياسيّةٍ على حِساب النّفوذ الأمريكيّ المُنكمش، وصُعود مِحور المُقاومة، وعَودَتِه إلى القضيّة العَربيّة المَركزيّة أقوى من أيِّ وقتٍ مضى.

كان طبيعيًّا أن يَبدأ الرئيس الروسيّ هذهِ الجولة بزِيارة قاعدة حميميم الجَويّة في مِنطقة اللاذقيّة شمال سورية، التي لَعِبَت الدّور الأكبر في حَسم الأزمةِ السوريّة لصالحِ الجيش العربيّ السوريّ، وإفشالِ جميع المُخطّطات الراميةِ إلى إسقاطِ النّظام في دِمشق، وأن يُعلن وسط طيّاريها “أن المُهمّة قد أُنجزت”، ويُصدر تعليماته، باعتباره القائد الأعلى للقوّات المُسلّحة، للغالبيّة العُظمى من الطّائرات وطيّاريها بالانسحاب والعَودة إلى الوطن، ساحِبًا البِساط من تَحت الذّرائِع الأمريكيّة بإبقاء قوّات في العِراق وسورية.

الانتصار الذي حَقّقه الرئيس بوتين في سورية فَتح له أبواب مِنطقة الشرق الأوسط على مِصراعيها، واستطاع أن يُوجّه من خِلاله رسالةً قويّةً إلى حُكوماتِها وشُعوبها معًا، بأنّ الخَلطة السحريّة للسياسة الروسيّة التي تعتمد على الدبلوماسيّة المَدعومة بالقوّة العسكريّة، تُشكّل نظريّة عالميّة جديدة باتت تَحصد الإنجازات والحُلفاء والانتصارات مُجتمِعةً.

الفارق كبير بين الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الذي أعلن أن “المُهمّة أُنجزت”  في نيسان (إبريل) عام 2003 بعد دخول قوّاته بغداد، وبين نَظيره الروسيّ الذي استخدم التعبير نفسه في قاعدة بِلاده في اللاذقيّة، فالأوّل تَعرّض إلى هزيمةٍ نَكراء على أيدي رِجال المُقاومة العراقيّة، وخسر الآلاف من جُنوده إلى جانب خسارته لهَيبته، لأنّه دخل العِراق مُتسلّلاً كاللّص اعتمادًا على أُكذوبة اللوبي الإسرائيلي وتَحريضِه، والثّاني يَحصد ثِمار النّصر الذي أنجزته جُرأته وشجاعته وإدارته المحسوبة جيّدًا للأزمة، وعدم تَردّده في إرسال طائراته وجِنرالاته لنَجدة حليفه السّوري لهَزيمة المَشروع الأمريكي في سورية، الأمر الذي أكسبه عُقول وقُلوب مِئات المَلايين في العالمَين العربيّ والإسلاميّ، وهو مَكسبٌ استحقّه عن جَدارة.

 

 

***

الرئيس بوتين انتقل من المَحطّة السوريّة إلى القاهرة حيث التقى بالرئيس المِصري عبد الفتاح السيسي، ثاني أكبر مُشترٍ للأسلحة الروسيّة في العالم، ووقّع مَعه مُعاهدة تنص على بِناء روسيا مُفاعلاً نَوويًّا في مَحطّة الضبعة، وإرسال العديد من الخُبراء للإشراف على تشغيله، وتدريب الكوادر العِلميّة المِصريّة التي ستتولّى مُهمّة إدارته، أي المُفاعل مُستقبلاً.

هذهِ الزّيارة لمِصر تُدشّن مَرحلةً جديدةً في العَلاقات الروسيّة المِصريّة، وتُقرّب مِصر أكثر إلى المِحور الروسيّ، وتُعيدها إلى الحاضنة الطبيعيّة لها، بعد أن ضَلّت الطّريق إلى الولايات المتحدة على يَد الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذي دَفع حياته ثَمنًا غاليًا لهذا الانحراف، وأفقدها دورها القِيادي والرّيادي، وأغرقها في الدّيون والتبعيّة للمال الخليجي.

عندما يَتربّع الرئيس بوتين على عرش تحالف يَضم سورية والعِراق وإيران وتركيا، وقريبًا مِصر، فإنّ هذا يعني أنّه باتَ الإمبراطور الفِعلي لمِنطقة الشرق الأوسط، وصانع هَويّتها الجديدة، بعيدًا عن التبعيّة الأمريكيّة التي قادت المِنطقة إلى الحُروب والإرهاب والدّول الفاشلة والصّراعات المَذهبيّة.

 

لا نُبالغ إذا قُلنا أن المحطّة الأخيرة في جَولة بوتين هذه هي الأكثر أهميّة، ليس لأنها ستستضيف قِمّةً إسلاميّةً بعد يومين، لإدانة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وقراره بالاعتراف بيهوديّة القُدس المُحتلّة، وإنّما لأن دبلوماسيّته أخرجت تركيا من تحت المِظلّة الأمريكيّة، ولو جُزئيًّا وجَعلها تَلعب الدّور الأبرز في هَزيمة الإرهاب وجماعاتِه المُسلّحة في سورية، وتَهيئة الظّروف لحَلٍّ سياسيّ.

الرئيس بوتين هو مُهندس جُسور التّعاون، بل والتّحالف، بين إيران وتركيا، وجَمعهما معًا تحت قِيادته في سوتشي في قمّةً رَسمت خريطةً جديدةً لمِنطقة الشرق الأوسط، ولا نَستبعد أن يُمهّد الرئيس الروسي بضَم الرئيس بشار الأسد الذي التقاه بـ”حميمية” في قاعدة حميميم اليوم الإثنين إلى هذا المِحور الجديد، والتّمهيد للِقاء يَجمعُه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

مواقف الرئيس أردوغان المُعارضة بشِدّة لقَرار الرئيس ترامب بنَقل السّفارة الأمريكيّة إلى القُدس المُحتلّة، والمُتزعّمة للتيّار الرّافض له، واتّهامِه لأمريكا بدَعم الإرهاب، وتَوعّدِه بقَطع العلاقات مع إسرائيل، ودُخوله في مُلاسنةٍ حادّة مع بنيامين نتنياهو، تَجعل المُصالحة السوريّة التركيّة أقرب من أيِّ وَقتٍ مَضى.

 

***

الرئيس بوتين بنُصرته لحُلفائِه، حتى لو تَطلّب الأمر بالتضحية بخِيرة جِنرالاتِه وجُنوده، استطاع كَسب عُقول وقُلوب مِئات المَلايين في العالمين العَربيّ والإسلاميّ، بل العالم الثّالث أيضًا، بينما لم يَكسب نَظيره ترامب إلا الكراهيّة، بسِياساتِه العُنصريّة والدّاعمة للإرهاب الإسرائيلي، والأكثر من ذلك أنّه أحرج حُلفاءه العَرب أيضًا، وزاد من عُزلَتِهم، ووضعهم في مَوقف الدّفاع عن النّفس، أمام سَيل الاتهامات التي يُواجهونها هذهِ الأيّام بالخِيانة بسبب تَطبيعهم العَلاقات مع إسرائيل، وتَقديم مِئات المِليارات لدَعم الاقتصاد الأمريكي، جَرى اقتطاعها من لُقمة عَيش شُعوبهم وحِرمانها من الحَد الأدنى من العَيش الكريم.

حُلفاء بوتين هم الذين يَتصدّرون السّاحة حاليًّا، فها هي إيران وحُلفاؤها في العِراق يَحتفلون بالنّصر على “الدولة الإسلاميّة”، وها هو الرئيس الأسد يَمُد رِجليه استرخاءً في قصر المهاجرين، والابتسامة العَريضة على وَجهِه، أمّا الرئيس أردوغان فاستعاد مُعظم شَعبيّته في العالم الإسلامي، ويَخطف مِقعد القِيادة من مُنافسيه السّعوديين، بتزعّمه قِمّةً إسلاميّةً ستُلغي عَمليًّا التّحالف الإسلامي الأمريكي الذي تأسّس أثناء زِيارة ترامب للرّياض.

في ظِل هذهِ التحوّلات يَخرج علينا السيد حسن نصر الله زعيم المُقاومة بإعلان انطلاق الانتفاضة الثّالثة، والتّحريض بِضَرب كل من يَذهب إلى فِلسطين المُحتلّة بالنّعال، وليُؤكّد أن مِحور المُقاومة لم يَدخل حَربًا إلا وخَرج مِنها مُنتصرًا، ويتنبّأ بأنّ نهاية دولة الاحتلال الإسرائيليّ باتت وَشيكةً، في خِطابٍ ألقاه وسط بَحرٍ من المُتظاهرين في الضاحية الجنوبيّة مَعقل المُقاومين الشّرفاء.

الرئيس بوتين لَعِبَ الدّور الأكبر في دَعم هذا المِحور بِدَهاء غير مَسبوق، ومن حَقّه الاحتفال بانتصاره في سورية والعراق ولبنان وقريبًا جدًّا في اليمن، والقُدس المُحتلّة.. والأيّام بَيننا يا عَربْ التّطبيع.