محمد لمين ولد محمودي/ اسكارليت واحمد( الأخيرة)

اثنين, 01/08/2018 - 14:52

الاخوة
استجابة للطلبات هاكم الحلقة الأخيرة من القصاصات المتعلقة بقصة احمد واسكارليت،على ان احتفظ بالذي بين القصاصة الأولى والثانية لمجموعة ستنشر بإذن الله

قصاصات ابروكسيل

اسكارليت واحمد( الأخيرة)

في محطة ميدي،يتحرك احمد بارتباك واضح،العرق يتصبب من جبينه ويرتعد كأنه يحس جرعة زائدة من البرد بالرغم من معطف الصوف الذي يغطي سترته،،يسير خطوات الى الأمام واخرى الى الوراء،يتفحص وجوه جميع الشقراوات،لم تأت اسكارليت وربما لن تفعل،الأكيد انها لن تودعه،قرر ان يجلس على الكراسي المعدنية الباردة وان يترك رصيف السكة للمتسابقين نحو ابواب "التي جي في"،فمازال من الوقت متسع.
وبينما تدلى رأسه واوشك ان يسقط على الحقيبة الفارغة استسلاما لاغفاءة المحارب الذي لم ينم مذ ليلتين، احس يدا دافئة تلعب بخصلات شعره،احس القشعريرة تتملكه فتمنى ان لايرفع رأسه وان ينام الى الأبد حين احس بالأمان والاستقرار وانتهاء الرحلة الطويلة بسلام وخير وفير..لماذا سأرفع رأسي،عنايتها تحفني،السكينة تدثرني!
-حبيبي قم ماذا هناك؟
- لن افوت لحظة السلام هذه،اريد ان اظل هكذا دعي اناملك تعبث بآخر مكان في جسمي مازال يحس ويستجيب.
- انحنت وطوقته و ظهرها للقطار والمسافرين وانكفات عليه ثم غطت رأسيهما بشالي عرفات الذي لايفارقها، وتسمرت هي الأخرى واقفة على ركبتيها ورأسها ينام على رأسه تحت خيمة فلسطينية انتصبت حبا بقلب اوروبا،وفجأة احس الدموع تسير على عنقه كشلال دافئ،كم مضى من الوقت،لا أحد بالضبط يعرف،ادخلت يديها في جيبي معطفه واوقفته قسرا كما يرفع الناس جثث من يحبون عادة.ظلا ملتصقين كعمودي كهرباء..لاغرابة في المشهد الآن اذ الجميع ملتصقون،انها لحظات الوداع التي تهد الجبال وتنحي امامها الأعاصير القوية..لكن علاقتهما بالالتصاق قديمة ولهما فهمها الخاص لهذه الوضعية.
- مازال من الوقت مايسمح لنا بشرب كأس اخيرة
- ماكادت تنطق هذه الكلمة حتى خرج البنج من جسده واستيقظت الحقيقة التي ارقدها لنصف ساعة.
- -الكأس الأخيرة،نعم لمالانشربها داخل المحطة..
- في مقهى محطة ميدي احتسيا قهوة ببطء لكن دون ان يتكلما..ينظران الى بعضهما وكأنهما في حصة يوغا او في مشهد ديني مقدس،التفت السيقان والمنضدة الخشبية تحول بين الجسدين،الزرقة تغوص في السواد،لوحة اعين من بلادين وعالمين ماكانا ليجتمعا لولا عدل الله وتوزيعه للحب بين القلوب.
- حبيبتي هل تعتقدين ان هذا القطار الذي سيمضي بعد عشر دقائق هو آخر قطار في هذا العالم؟
- ضحكت بأجمل ضحكة لديها فالبؤس بلغ مداه وبؤس ضحكتها هو اروع مايمكنها تقديمه: سيكون هناك دائما قطار ليقلك ان قررت البقاء.
- - نعم قررت التخلف عن هذا القطار
- -اذن لابد ان نذهب الى حانة كليمانصو فأمامنا ساعة، وانا لن اظل هنا في المقصلة متسمرة كالبلهاء ارقب نهايتي واحتسي كنخب لموتي قهوة لعينة .لا فلست عجوزا في دار المسنين.لابد من "الرهوم" ولابد معه من رؤية وجهك المسجون ودونه قضبان صنعتها اعمدة لطيفة من الدخان..هههه تلك لوحتنا الأبدية..
- خرجا الى الحانة،وضعا حقيبتيهما لدى الساقي وانتبذا ركنا به مسحة ظلام وهدوء،جاء النادل بكأس "رهوم ابران" على طلبها،اشعل احمد لفافة تبغه الرخيص، ووضع فنجانه امام ناظريه وطأطأ رأسه قليلا،يحاول ان يسجل تفاصيل اللحظة ومنتهاها.
- بسط يسراه على الطاولة في اشارة تعرفها اسكارليت جيدا
- - ههه علمتني ان اشرب معك باليسرى،يمناي غطاء ودفء ليسراك،
- وضعت يدها على يده،وبسرعة فكر في بطء تقدم هذه اليد حين كانت تزحف نحوه في اول لقاء بالحانة اللاتينية.
- الآن تحاول هذه اليد ان تمنحه القوة وان تمنح اسكارليت نوعا من قبول الحقيقة التي لامناص منها وهي ان ابناء الصحراء بلاقلوب،اسكارليت تعلم يقينا انها الآن امام قلب اكبر من جسده،فقد عرفت من السنوات الثلاثة ان الصحراء التي انجبت احمد ليست بلاد اجلاف كما يقال وانها لاتقد ابناءها من الرمال او الجبال،قلب احمد عامر بالحب،لايكره،حتى انه بلا اعداء ومن يعتقدون انه عدوهم واهمون،فليس عليهم الا ان ينكسروا امامه ليدركوا رقته وحنانه وشفقته..
- مرت ساعات،شربت خلالها طاسات من الرهوم وراوح هو بين العصائر والمياه الغازية ولفافات التبغ،بعد كل كأس كان يفرغها على عجل ويضرب بها الطاولة في اشارة للساقي بأنه يريدها ثانية،ضحكا والساقي والنادل،فهذه الحركة لايقوم بها الا الجامحون في لحظات السكر بالحانة،والحقيقة انه يحاول بها اضحاك اسكارليت اذ قالت له مرة،حركاتك تذكرني باكلينت استيوود،فقط كن راعي بقر وادخل الحانة ضاربا بركبتك الباب وانحن للساقي لتأخذها مترعة،اعدها بضربة قوية وابتسم،وسأقبلك يابطلي..كلمات يحفظها،حين مثلها الآن لم تضحك ولم تمنحه حتى ذلك الحزن الجميل،فركت عبنيها فقد اثقل الرهوم رأسها،اما عيناها فشاردتان كأنها استيقظت للتو ولم تستعد نفسها بعد.خرجا مساء،لم يأكلا وانما شربا،وضعت رأسها عليه وخرجا الى الرصيف،وفي الدقائق التي سبقت خروج القطار،اخرجت من حقيبة الجلد الصغيرة كتيبا يحمل عنوان " لوسخيتانوس" او الغجر،وهو مجموعة قصائد للشاعر الاسباني افدريكو غارسيا لوركا،كتبت على الغلاف بخطها الرديئ المتهدج هذه الجملة" لالهامك في لياليك الشعرية التي لن يكون لي فيها حضور " "اسكارليت آر"..
- وضع الكتاب في الجيب الداخلي لمعطفه،وبسرعة جلبها الى حضنه،قبل ان يسمعا صوت عربات القطار تقترب،حاول ان يكون طبيعيا، ودعها بقبلة سريعة،ثم مشى متثاقلا الى جانب القطار الذي لم يتوقف بعد،ثم فجأة عاد جريا واحتضنها وحملها معه الى حيث الباب،والتصقا: "هل تعرفين،سنبقى هكذا حتى يتحرك،انا في الداخل وانت في الخارج"،لكن صفارة المراقب اذنت بساعة الفراق..ابتعدت عنه قليلا،وبتراجعها اغلق الباب ،تسمر عليه وعيناه تنظرانها وهي تقف رافعة يدها وكأنها تدرك ان لاحياة ستكون لأي منهما بعد الآن..
- ربت المراقب الذي سمع تنهده على كتفه،سيدي اجلس فالقطار السريع لايسمح لك بالوقوف تماما كما لم يسمح لك قبل قليل بالبقاء لمدة طويلة مع السيدة...
- - اسكارليت،الا تعرفها؟،انها اسكارليت العجيبة سيدي المراقب..
- ابتسم تأدبا واشار الى احمد بالجلوس،لكنه مازال ينظر الى الرصيف الذي كانا يقفان قبل ثوان على نقطة منه..
- خلال الرحلة الى باريس ومن بعدها الى "اورليان" حيث سيبيت ليلتين مع اصدقاء له مر الشريط منذ اللحظة الأولى التي رأى فيها اسكارليت،مرت الأحداث بعدها من امام ناظريه،اخرج من جيب معطفه الكتيب وحاول ان يقرأ المقاطع المترجمة الى الفرنسية لكنه لم يستطع، تجاوز الجملة التي خطتها اناملها،هذه الأحرف هي آخر مايملك من الفتاة التي منحته في الغربة والمهاجر الحب والحنان والدفء،تذكر كيف اسهمت اسكارليت بطريقة او بأخرى في اثراء اسر فقيرة ببلاد لم تبصرها ولم تعرفها،كانت نبع حنان دافق ورحمة ارسلها الله لذلك الشاب الذي وجد نفسه ذات يوم في عالم جديد كليا على عقله الصغير.
- ومايثير جنون احمد هو القرار الذي اتخذه فجأة بالعودة الى الوطن وقطع كل الصلات بهذه البلاد التي آوته ومنحته الأمان واسكارليت!
- مع الأصدقاء وجد احمد فتاة فرنسية تقيم الشاي للجماعة تعرفت قبل اشهرعلى احدهم،رمى لها الكتيب قائلا: خذيه فأنا لا استحقه،امسكيه فربما يكون هدية مناسبة تقدمينها لحبيبك الذي سيتركها لأخرى او يرميها في سلة المهملات..فقد تعلمت من قصة مازالت ندية اننا اجلاف وان اسكارليت التي احبت بكل جوارحها كانت لتكون افضل في حياتها لو ظلت مع ذلك الاطفائي الذي لايشعل النيران في القلوب...لم تفهم الفرنسية اي شيئ بينما ضحك الأصدقاء للتستر على هذيان احمد او هلوسته غير المفهومة،
- تصبحون على خير ففي الغد سأركب رحلة الشارتر التابع لأهل ابدبدة بمائة اورو الى اطار، وغدا ايضا هو عيد الأضحى، سأقضي ضحاه مع الشبيه ولد حمبل وفي المساء قد تبدأ الرحلة الى الأهل في انواذيبو..
- بعد اعوام من هذا الكلام اكتشفت انها كامنة وانني لم اكن جلفا او كاذبا.

من صفحة الكاتب