بصراحة حول انهيار الأمن! (الـواقع، الأســباب، الحل)

خميس, 06/07/2018 - 15:46
محمد الأمين سيدي مولود

"وعندَ نداكِ سنهربُ تَلْ"

شطر من نشيد ساخر تم نسجه على منوال النشيد الأخير الذي اعتمده النظام في مهزلة التعديل الدستوري الأخير، ورغم ما يحمله هذا الشطر من هزل، فإنه يجسد بطريقة مؤلمة ومرة جزءا من واقع الأمن المتردي في هذا البلد، وما فيديو اقتحام وكالة البنك الأخير وقصة العسكري منا ببعيد.

 

فما هو واقع الأمن؟ وما الأسباب؟ وما الحل؟

هنا مجرد إثارة لتشاركوا جميعا في تقديم رؤية تتناول تشخيص واقع الأمن وتقدم المقترحات لعلاجه، وليست دراسة علمية أو وصفة كاملة، إنما فتح باب للنقاش في هذا المشكل الهام والخطير.

 

 جزء من الواقع

لا يفوت على أي موريتاني جاد وصادق مع ذاته ومع وطنه اليوم مدى انهيار الأمن خاصة في كبريات المدن وخصوصا العاصمة نواكشوط، فعلاوة على انتشار عمليات السطو الليلي على المحلات ومضايقة المواطنين من طرف اللصوص في الأسواق الكبيرة، وانتشار المخدرات والاغتصاب والاختطاف والقتل بما فيه ما حصل ضحى في أهم الأسواق في العاصمة وفي بعض المدارس، تطور الأمر ليصل إلى تكرار اقتحام وكالات البنوك وضح النهار، والمؤسف أن هذه العمليات تتم دون تدخل أي جهة أمنية تدخلا آنيا يشي بالجاهزية أو الاستعداد، بل إن كل المنفذين ينسحبون دون انزعاج.

 

إن حجج عزيز وعصبة الانقلاب والكتبية البرلمانية الخاطئة، ضد أول رئيس مدني منتخب تهاوت واحدة تلو الأخرى ـ بما في ذلك الأمن  ـ حيث كانت أهم ركائزها:

- تعطيل تشكيل محكمة العدل السامية (فأين هي اليوم؟).

- هيئة ختو منت البخاري (جاءت هيئة الرحمة) مع فارق التمويل.

- الفساد فجاءت فضائح مشروع فينكر وشركة سونمكس وأموال الجيش والخزينة بقيمة المليارات تم نهبها نقدا وأغلب المتورطين فيها لم يعاقبوا، بل هناك عمليات اختلاس أخرى تمت ترقية أصحابها وتجديد الثقة فيهم، وهناك ملفات ضخمة تم توقيف التحقيق فيها في بدايته، وقطاعات ومؤسسات مظنة الفساد لم يتم تفتيشها مطلقا.

- كثرة الأسفار الرئيس سيدي وهي تعد على الأصابع بالمناسبة، فأصبح عزيز لا يحط عصى الترحال حتى بلغ سريلانكا وما شابهها من أسفار عبثية!

- وقضية الأمن وهي ما يهمنا هنا، حيث حصلت في ظل عزيز واحدة من أخطر عمليات القاعدة ضد الجيش الوطني، ويتعلق الأمر بعملية رمضان الشهيرة، مع الأسف، كما تم اختطاف سياح أجانب لأول مرة من وسط البلاد وتم العبور بهم من أقصى نقطة إلى أقصى نقطة في الحدود دون أن تعترض الجناة أي قوة أمنية أو عسكرية، هذا إضافة إلى اختطاف عنصر من الدرك لأول مرة أيضا في ظل حكم عزيز ذي الخلفية العسكرية، وذي الحجة الأمنية لتسويق الانقلاب!

أما عمليات السطو والاغتصاب والقتل فحدث ولا حرج!

 

إنه لمن السخف وعدم التوفيق أن تنصب جهود أمنية كبيرة على متابعة السياسيين وأصحاب الرأي، وعلى قمع الطلاب وأصحاب المظالم والمتظاهرين السلميين، ويفلت اللصوص من قبضة الأمن رغم وقاحة وكبر عملياتهم في وضح النهار. يجب أن يدرك عناصر الأمن أن المواطن العادي ليس خصما لهم، بل إن جوهر وجودهم هو خدمته والتضحية لحمايته، وأن الرأي السياسي لا علاقة لهم وأن مسافتهم من الجميع يجب أن تبقى متساوية فهم للجميع وفوق الجميع.

 

بعض الأسباب

إن من بين الأسباب ـ بعضها فقط ـ التي جعلت الأمن يتدهور في البلد ظروف عناصر الأمن، وطبيعة تكوينها، وخلفية اكتتابها وترقياتها، فبالنسبة للاكتتاب من المعروف أن أسوأ المسابقات في موريتانيا من حيث عدم الشفافية هي مسابقات ضباط الجيش والشرطة والدرك والحرس ـ بل إن الأمر يصل المدرسة العسكرية ـ حيث يعتبر هذا المجال حكرا بشكل شبه كامل على بعض النافذين في المؤسسات العسكرية والأمنية من الجنرالات والكولونيلات ومشتقاتهم يتوارثونه ويورثونه للفروع ومن يقوم مقامهم من القرابات والأتباع، وإن بقيت فضلات فهي من نصيب النافذين من كبار "المسؤولين" ووجهاء القبائل ورجال الأعمال، ولا علاقة لكل ذلك بالكفاءة ولا بالإيمان بالوطن إلا بما يخدم زيادة النفوذ ويضمن استمرار توارث الكعكة، حتى ولو ضاع البلد كله، وما خبر دفعة الدستور من الشرطة منا ببعيد، وهي الدفعة التي ذهبت إلى الجزائر للتكوين بعد أن تم اكتتابها دون أي مسابقة بل إن مصادر موثوقة تؤكد عدم حصول بعضهم على الشهادات المطلوبة أصلا.

 

وأسوأ ما في الزبونية في الاكتتاب هي فرزها لبعض مسؤولي الأمن ممن يهددون الأمن هم أنفسهم بسبب نمط شخوصهم ونمط تربيتهم، فكثير من النافذين يوجه أبناءه وعلاقاته إلى الأمن أو العسكر بعد تقديره لفشلهم في مجال الدراسة وحتى السلوك، ولذلك فإن بعض منفذي عمليات السطو خلال الأشهر الأخيرة كان من ضباط الشرطة الجدد، ممن ولج المجال وراثة وزبونية.

 

وبالنسبة لظروف العناصر الصغيرة (وكلاء الشرطة، وصغار الجنود، وعناصر الدرك والحرس) فإن اكتتاب جزء معتبر منهم يتم بطريقة لا تختلف كثيرا عن اكتتاب الضباط إلا بقدر زهد الكبار في هذه المكاسب الزهيدة ـ حتى لا أقول التافهة ـ ولذلك يبقى الهامش للضعفاء أفضل، غير أن كثيرا ممن يتوجهون لهذه المجالات قد فشلوا في الدراسة، وفي بعض الأحيان فشلوا في الأخلاق أيضا الخ

 

كما أن الظروف المادية لما بعد الاكتتاب ليست على ما يرام، فمن يعرض نفسه للخطر ـ على افتراض الجدية والثبات والعتبة الدنيا من الشجاعة ـ ويداوم في ظروف صعبة وبراتب لا يصل 100 ألف أوقية مثلا، ويرى بأم عينيه ما يجنيه آخرون ينهبون الملايين ويترقون في أعلى المراتب دون أي استحقاق لا يمكن أن يقدم خدمة جيدة، خاصة مع استصحاب ضعف التكوين والتدريب والتأطير، حيث يسود الفساد أغلب ذلك من اختلاس ميزانيات التدريب والمؤونة والتغذية، إلى اختلاس المنح للخارج والوقود والرصيد، من طرف بعض كبار النهّابين في هذه القطاعات!

 

هذا علاوة على ضعف المتاح لهم من إمكانات لوجستية: سيارات متهالكة، أغلبها بلا وقود ـ شخصيا شاركت في دفع بعض السيارات مع سكان الحي ليتم تشغيل محركها في وهن من الليل من أجل دورية للحرس في منطقتنا ـ آليات ضعيفة، وعدة قليلة، مكاتب مهينة خاصة نقاط التفتيش بل إن بعضها بلا مكاتب، وبنايات مترهلة في أغلبها، وحتى لباس يشي مظهره بضعف ما خلفه، ومن المؤسف أن هذا اللباس تم تغييره في بعض الأجهزة من أجل توفير صفقات لبعض النافذين ليجنوا مكاسب مالية كبيرة من اللباس الجديد، ضفْ إلى ذلك وقاحة الزبونية والوساطة في الترقيات وفي التعيينات وفي التحويلات، دون مراعاة الحد الأدنى من الكفاءة والشفافية، لذلك تموت الطاقات والمواهب والإرادة أو تقتل في بحر الإفساد هذا.

 

ومن بين أسباب تدهور الأمن انشغال كبار مسؤوليه في الجيش والدرك والحرس والشرطة بالسياسة. إنه لمن المخجل أن تسمع الجنرال الفلاني يكتسح المنطقة الفلانية في انتساب حزب الحاكم، وترى كبار الضباط يحضرون الاجتماعات القبلية السياسية، ويجوبون الأحياء والقرى في معترك لا علاقة لهم به افتراضا ولا يدخل في صميم واجبهم ولا تكوينهم، بل إنهم خاضوا الحملات الانتخابية بجميع أنواعها بشكل مباشر ودون أي خجل. كما أن بعض كبار هرم العسكر والأمن مشغولون بالمال تجارة وعمرانا، وما ذلك من شيم العسكري النبيل والجاد، فلم يخلق للمال ولم يسلك مسالكه، ولا توجد فضيحة أو معرّة أسوأ من أن يقال هذا الفندق للجنرال فلان، وهذه قطعان إبل العقيد فلان!

 

هنالك أسباب ذاتية تتعلق بالمواطن نفسه، وبالمجتمع، منها مسألة تربية الأجيال، فكثيرون تخلوا عن أبنائهم مع الأسف وانشغلوا بالترف والترفيه، كما أن لتدهور التعليم وغياب مراعاة الكفاءة في فرص التوظيف في ما بعد التخرج دور في انهيار الأمن وتيه الشباب، هذا علاوة النفوذ الاجتماعي القبلي المكرس من أجل إطلاق سراح اللصوص  ـ كبارا من نهبة المال العام وصغارا من لصوص السطو والاغتصاب والسرقة ـ وكذلك الطبيعة البدوية التي لا تراعي خصوصيات المدينة خاصة في المعاملات المالية والتباهي بالمحاصيل والمحصود وحمل المبالغ الكبيرة في الشارع ووضعها في البيوت وفتح الأبواب والنوافذ على الشوارع الخ من السلوكيات التي تفتن أصحاب الضمائر الضعيفة والظروف المادية الصعبة، خاصة في مجتمع فيه الكثير من الفقر والبطالة والتفاوت والغبن، وضعف في عامل التكافل فازدادت الهوة بين الفقراء والأغنياء إلى درجة كبيرة.

 

جزء من الحل

لا يمكن حل معضل الأمن بصورة نهائية ومطلقة بشكل عاجل ومفاجئ ولا بلمسة زر، ولكن هنالك أمور وإجراءات يمكن مباشرتها دون أي انتظار، وأخرى تأتي بعد ذلك في الأجل المتوسط وبقية الحلول تأتي مع الوقت ولو على أمد بعيد، وكل ذلك قد لا يأخذ فترة ولايتين لأي رئيس، أي عقدا من الزمن إن حصلت الجدية والمسؤولية، وهو ما يمكن أن يكون مقياسا لأي رئيس في ولايتيه، فعقد من الزمن يكفي للحكم على أي نظام.

 

من الحلول العاجلة التي يجب مباشرتها تعيين لجنة شفافة للمسابقات وخاصة المسابقات المعنية بضباط الأمن والعسكر ومنحها صلاحيات مطلقة للإشراف على كل اكتتاب، ويجب على الرؤوس الكبيرة إدراك أن توارث المناصب الأمنية والعسكرية خطر على البلد كله وعليهم هم أنفسهم ولا معنى أن يكلوا مسألة أمنهم وأمن البلد لمن فشلوا في الدراسة والسلوك!

 

يجب تحسين رواتب صغار موظفي قوى الأمن والجيش وتحسين ظروفهم تدريبا وتكوينا وتأطيرا ومعرفة، وآليات (سيارات وعدة واتصالات) وحتى مظهرا، ومأكلا ومشربا، ويجب مراعاة الشفافية في ترقياتهم وتحويلاتهم، فلا معنى لأن يمر بعض مقربي النافذين من الأسفل إلى الأعلى بسرعة صاروخية ويبقى ذوو الكفاءات في الأسفل وعلى الهامش بسبب عدم الوساطة والنفوذ. إن منح عناصر الأمن رواتب مقبولة سيجعلهم محجة لأصحاب الشهادات والمتعلمين من الشباب الجاد والعاطل عن العمل، بدل ترك هذه الانتساب لهذه الأجهزة معرة أو حكرا على من لم يستطيعوا استكمال الحد الأدنى من دراستهم.

 

يجب إصلاح القضاء ما أمكن ليكون ملجأ للضحايا، ويجب على المجتمع وبصفة أخص القبائل ونافذيها الكف عن تقويض الأمن من خلال ثنائيتي الوساطة لإطلاق سراح المجرمين واللصوص، والوساطة من أجل اكتتاب فاشلين ليصبحوا مسؤولين عن الأمن، وعلى القبائل توجيه إمكاناتها لتعليم أبنائها وتهذيبهم وتوفير مشاريع للدخل لهم، بلد تركهم فريسة للمخدرات والجهل، ثم إيكال الأمن لهم ليضيعوا هم ويضيّعوا البلد.

 

يجب على المواطنين جميعا الحذر وتغيير السلوكيات السلبية التي تساهم في تدهور الأمن، والعمل بالحد الأدنى من مقتضيات المدنية، ويجب على الجميع ـ سلطة ومجتمعا ـ العمل على توفير الحد الأدنى من العدل في الاكتتاب وفي العقوبات، وكذلك إحياء ما يمكن إحياؤه من التكافل الاجتماعي ومساعدة الفقراء خاصة المساعدات ذات الطابع التنموي والقابلة للاستمرار، هذا بالإضافة إلى الاجتهاد على تربية النشء، وتحسين التعليم. ولن يتأتى كل ذلك إلى بتعاون الجميع دون استثناء.

 

إنّ الأمن مسؤولية الجميع، وتدهوره يمس الجميع، ويجب على الجميع أن يتحرك لتوفيره!