محمد الأمين ولد فال الخير الحسني الشنقيطي

جمعة, 01/25/2019 - 01:14

الكلام من فم صاحبه أحلى كما يقال وقد حصلت على ورقات يترجم فيها العلامة محمد الأمين ولد فال الخير الحسني لنفسه وهي غير منشورة أجعلها بين أيديكم بتصرف قليل،

 

اقتضاه الإختصار، يقول ابن فال الخير:

 

 

أنا الفقير إلى الله، أبو عائشة محمد بن الأمين السالم بن عبدي بن فال الخير بن حبيب الله بن أبي بن حبيب الله بن أحمد بن أعمر كداش الحسني،

 

وأمي عائشة بنت عبيد الله بن إبّنْ بن أحمد الخليل بن حبيب الله بن أبي،

 

كان أبي وجدي من أعيان قبيلتنا ولكنهما لم يتّسما بصفة العلم كأسلافهما وكان والدي تشبث بطلب العلم ولكنه لم يحصّل كثيرا وكان شديد البر بوالدته وصولا للأرحام محسنا إلى أقاربه وكان مولعا بالأذكار، كثير المطالعة لكتاب "الحصن الحصين" للجزري، يحفظ كل مافيه من الأذكار أو كله مواظبا على قراءة تلك الأذكار مساء وصباحا وعند النوم والدخول والخروج وغير ذلك وكان يلقننا إياها ويحثنا على استعمالها،

 

وكان والدي وعمي وجدي بل وأكثر آل حبيب الله مشهورين بمعرفة الأثر وقصه لايكاد يسرق شيء في محل هم فيه إلا وأظهروه، وجدي عبدي كان علامة سيدا رئيسا شاعرا وشعره وسطي ومن أبياته السائرة في الأمثال قوله من أبيات يخاطب بها صديقا له:

 

أقمت بدار قد أذلك أهلها :: ونفس الفتى لا ينبغي أن يذلها

 

وكان جدي فال الخير وأبوه حبيب من أهل العلم إلا أن عبدي أخمل ذكرهما، وكانت والدتي تحفظ القرءان عن ظهر قلب ولها اشتغال بطلب العلم ولكن المنية باغتتها في حداثة سنها وأنا لا أعرفها لأنها ماتت وأنا صغير لا أعقل، وإنما أخبرت عنها،

 

وكان جدي لأمي عبيد الله علامة شاعرا وشعره وسط وله اليد الطولى في الفقه والعربية ولا سيما معرفة اللغة،

 

وكان يحفظ مقامات الحريري عن ظهر قلب وله مناظم حسنة قي الفقه وغيره وقد أدركته إدراكا لا يذكر،

 

وأما أنا فإني ولدت سنة اثنتين أو ثلاث وتسعين ومئتين وألف وذلك في شهر ربيع الأول وحفظت القرآن غيبا قبل البلوغ وحفظت في السيرة النبوية بعض مناظم و ابتدأت في طلب العلم على خالي محمد بن عبيد الله ثم قرأت على مشايخ غيره أكثرهم لي نفعا محمد بن بنيامين وعبد الله بن حمين وعبد القادر المجلسي فقرأت من النحو الآجرومية، ومواضيع من الألفية متفرقة، ومن الفقه منظومة ابن عاشر، وبعض رسالة ابن أبي زيد القيرواني ومواضيع متفرقة من مختصر خليل،

 

وأما علم الحديث فإني لم أشتغل به في بلادي ولا دراية لي به ولم أر من يشتغل به عندنا اشتغالا يذكر وهو في الجملة ويا للأسف من أضعف العلوم عندنا وسمعت محمد بن بنيامين يقول آخر من كان عندنا يعرف الحديث محمد بن حنبل، وأخذت العروض عن خالي كان يلقنني إياه تلقينا سهلا فعرفته دون أن أقرأ منه كتابا،

 

ثم قرأت بعض كتبه بعد ذلك على غير خالي كما قرأت جملة من أشعار الجاهلية كالمعالقات ودواوين الشعراء الستة،

 

وقرأت المقصور والممدود لابن مالك، وأكثر قراءتي للغة على عبد الله بن حمين وعلى المختار بن المعلى وجميع مشايخي ما عدا عبد القادر المجلسي من تلامذة محمد بن حنبل، وكانوا يحضونني على حفظ الشعر، وقصائد ابن حنبل كالغرابية واللوحية والبائية، ومن الغرابية:

 

كل فتى شب بلا إعراب :: فإنه عنديّ كالغراب

 

وأول اللوحية:

 

عم صباحا أفلحتَ كل فلاح:: فيك يا لوح لم أطع ألفَ لاح

 

والبائية أولها:

 

أضرم الهم سحيرا فالتهب :: لمع برق بربيات الذهب

 

وصارت لي ملكة في الشعر في الجملة إلا أن قريحتي في نقده ومعرفة حسنه من رديئه أحسن منها في إنشائه، ولذلك لم أكثر منه لأن الذي تسمح به قريحتي لا يرضيني من كل وجه وما ليس بمُرض لا ينبغي الإكثار منه.

 

ولم أزل منذ بلغت عازما على التغرب لطلب العلم في الأمصار وذاكرت بعض من لهم معرفة فلم يُشر عليّ وقال لي اطلب العلم في قبيلتك والقبائل المجاورة لهم، ولا تبعد فإن بلادك هذه على علاتها هي اليوم أحسن البلدان، فثبطي ذلك برهة من الزمن إلى أن حان الوقت الذي أراد الله تعالى فأزمعت السفر أول سنة 1318 هـ،

 

فدخلت بعض مدن المغرب كالصويره ومراكش والدار البيضاء ورباط الفتح وطنجة، ولم أمكث في شيء منها إلا مراكش فإني أقمت فيها أشهرا ولم يحصل لي اختلاط بأحد علمائها وإنما كنت أخالط أناسا من أهل بلادنا وفيهم علماء.

 

وكاتبت الشيخ ماء العينين الشنقيطي الحوضي من مراكش وكتبت له قصيدة مدحته بها ومنها ما كان يعجب بعض تلامذته:

 

وحباك بالنصر الإله وبالهدى :: وكفى بربك هاديا ونصيرا

ثم إنه قدم مراكش وأنا فيها فاجتمعت به وأنشدته مادحا:

زارتهُ مخلافُ وعدِ الحب مخلابُه :: والفجرُ منصدع في الأفق كذابُه

 

واعترض علي عبد الله بن الأديب اليعقوبي من تلامذة الشيخ بأن الشعراء لا يستعملون الالتفات في المطالع إلا بضمير الخطاب نحو: طحا بك قلب في الحسان طروب ..

 

فقلت له لعل ذلك في الأغلب، وأما كونه لايكون إلا كذلك فلا أسلمه إلا بنص من كلام أهل الفن، ومع أني الآن لا أستحضر في شعر نصحاء المتقدمين إلا مثل الذي ذكرت، ولكنني أعرف استعماله بضمير الغيبة في شعر أناس من أهل الصنعة والخبرة ينشدونه وينشد بحضرتهم ولم يعترضوا عليه بشيء،

 

من ذلك قول بعض شعراء قبيلتنا المتقدمين وأظنه غالي البعمري في لامية له مشهورة أولها:  

 

ما باله كلما لامته عذاله :: يزيد في طفحات الجهل ما باله  

ومنه قول ابن محمدي العلوي في قصيدة له مشهورة أولها:  

ردته بعد تمام الحلم والنّبه:: إحدى الجواري رهينَ الشوق والوله  

إن امرؤا سفهته بعد كبرته :: بنات عشر لمعذور على السفه

 

فقنع مني بذلك.

 

واجتمعت في مراكش بأناس من أفاضل تلامذة الشيخ ماء العينين فيهم أحمد الشمس القاطن الآن بالمدينة المنورة ومنهم الهيبة بن الشيخ ماء العينين وحصل لي معه مجلس طويل يسألني عن قبيلتي ويستنشدني أشعارهم، وأنشدته من شعر محمد بن حنبل،

 

وقال لي من أشعر عندكم، الأحول أم ابن حنبل؟

 

فقلت له إن محمد بن حنبل نقل عن شيخه الشيخ سيديا أنه فضّل شعره على شعر الأحول في محفل ونظم ذلك بقوله:

 

لا أبالي بمن يذم قريضي :: من ذكي الحجا ومن عريضي

وعلى الأحول البليغ المجلى :: في الملا فضل الكمال قريضي

 

والهيبة هو الذي بايعه أهل مراكش وما حولها سلطانا لهم منذ سبع سنين أو نحوها وتتبعه أمم كثيرة وتجري بينه وبين فرنسا وشاة نسأل الله أن يقيه من شرهم.

 

وكنت أولا قاصدا مدينة فاس لأنها مدينة العلم في المغرب الأقصى ثم بدا لي أن أحج فأصابني الجدري في رمضان وأنا في رباط الفتح وتأخر برئي لبرودة الوقت والقطر فعاقني ذلك عن الحج تلك السنة ثم سافرت من المغرب إلى مصر فدخلتها في ذي الحجة سنة 1318 هـ،

 

وفيها الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي اللغوي المشهور وكان معي رجلان شنقيطيان،

 

وليس منا من له معرفة بالشيخ، فعلم بنا أول يوم فجاء إلى الأزهر يسأل عنا فاجتمعنا به وسألنا من نحن فانتسبنا له فأخذنا وذهب بنا إلى الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية وكان صديقا له وهو في مؤخر الجامع فعرفنا به فسلم عليه ثم ذهب بنا إلى بيته وجلسنا معه مدة حتى العشاء فتعشينا معه ورجعنا إلى الأزهر،

 

ولم يزل يتعهدنا بالاستدعاء إلى بيته للطعام ويرسل معنا من يرشدنا إلى ما نريد من حمام وغيره وأكرمنا غاية الإكرام، وحين جئته كنت مقلدا محضا وكان هو يرى العمل بالحديث فحانت يوما صلاة ونحن في بيته،

 

فصلى بنا صلاة مخالفة لصلاة المالكية في بعض الهيئات وكنت سمعت أن أكثر علماء مصر يتركون مذاهبهم لمذهب أبي حنيفة لأجل التوظف،

 

فلما سلمنا قلت له كأنك تركت مذهبك لمذهب أبي حنيفة أو لشافعي؟

 

فقال كيف عرفت ذلك؟

 

قلت لأنك فعلت كذا وكذا، قال علي أن أفعل ما ثبت عندي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،

 

فقلت له إني سألت بعض علمائنا عما إذا وجدت حديثا مخالفا لما أعرفه من أقوال الفقهاء وكيف أصنع وأنه قال لي:

 

اعمل بقول الفقهاء، فقال: هذا لايقوله عالم لا يقوله إلا جاهل فكبرت كلمته في نفسي لما وقر في نفسي من تعظيم ذلك الرجل الذي قال لي ذلك،

 

ثم قال لي أتعجب من المالكية في تركهم وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة مع أن أصحاب مالك رووه عنه، قلت فمن رواه عنه؟،

 

قال كل من روى الموطأ رواه عنه، قال وأخد برواية ابن القاسم وحده في السدل، قلت ذلك لأنه أفضلهم،

 

قال ليس بأفضلهم، محمد بن إدريس يعني الشافعي أفضل منه، قلت له ذلك مجتهد قال وإن كان، هذا الشيخ حاد المزاج حار الطبع كثير الاعتراض على العلماء،

 

إلا أنه غزير المادة يغرف من جم، له غرائب يشذ بها عن الجمهور وأشهرها صرف عمر،

 

ورد عليه صاحبنا الشيخ أحمد بن الأمين العلوي الشنقيطي وصنف في ذلك رسالتين صغيرة وكبيرة وأجاد فيهما، ومما سمعته يقول في هذه المسألة غلط فيها سيبويه إمام البصريين والكسائي إمام الكوفيين وتبعهما أناس كثيرون فقلت له وهل تنبه أحد العلماء لهذا الغلط؟

 

فقال نعم قلت من هو؟

 

قال محمد محمود يعني نفسه، وكان يحفظ من أغلاط العلماء شيئا كثيرا وددت أني كنت قيدت بعضه لأن الكثير منه مفيد، قال لي ثاني يوم:

 

ابن عمك عبد الله ول أحمد دام ذهب يُغلط العلماء فغلط هو، قلت في أي شيء؟ قال في قوله:  

 

هي العرب تأتي أوجها في كلامها :: يفوت مدى ميدانها كل قاصر  

هي العرب تأتي من وجوه كثيرة :: يتيه بها بعض النحاة الأكابر  

لذلك أمسى بعض أشياخ معشري :: يقولبون ماذا لا ترى في الأواخر  

وألف لماذا في النوادر كررت ::وهل تجهل الأشياخ ما في النوادر  

 

فقلت ما وجه الغلط ؟

 

قال في تسمية الكتاب النوادر،و إنما هو الأمالي قلت بلغني أنه يعني نوادر محمد بن أبي زيد فقال لي هذا غير صحيح لأن نوادر أبي زيد لاوجود لها في القبلة والقصة موجودة في أمالي أبي علي القالي وأهل القبلة يسمونها النوادر وهو غلط منهم وتبعهم هو على ذلك،

 

وما كان ينبغي له لأن مثله ينبغي له التحرز من الغلط مطلقا ولاسيما في معرض تغليط العلماء فقلت له عدم وجود نوادر أبي زيد في القبلة غير معلوم وكون القصة في الأمالي لا ينافي وجودها في النوادر ولم يرتض كلامي،

 

قال لي هل تحفظ لوحيّة ابن عمك شاعر الدنيا محمد بن حنبل قلت نعم قال اسمعنيها فأنشدته إياها فلما بلغت قوله:

 

في عقود النضار والدر منها :: جيد جيداء من ظباء رماح

 

قال أعد علي هذا البيت فأعدته فقال ما تقول فيه قلت وماذا عسى أن أقول فيه!، قال فيه غلط قلت وماهو؟ قال نسبة الظباء إلى رماح ورماح إنما تنسب إليه المها قال الشاعر:

 

وفي الأظعان شبه مها رماح ..

 

وأما الظباء فإنها تنسب إلى وجرة، فقلت له نسبة الظباء إلى وجرة لاتمنع نسبة المها إليها فقال هذا ليس بشيء فإن العرب هكذا قالت ولا يترك شيء ثابت النقل لتجويز العقل، فلحقتني عصبية من كثرة اعتراضه على شعرائنا وخالطني غضب وأحمد الله أني ملكت نفسي فلم يظهر علي شيء.

 

قال لي يوما تحفظ لامية ابن عمك المختار بن المحمود قلت لا، تبسم وقال ما مضمونه لو شهدت عندي أوقال عند سوار لما قبلت شهادتك،

 

وقال هذا شاعر من أشعر شعراء قبيلتك والقصيدة من أشهر شعره و لاتحفظها وذكر قصة سوار مع الدارمي،

 

ثم شرع أحد صاحبيّ يذكر طرفا من القصيدة ويغلط وأنا أرد عليه ثم أنشدت أبياتا من أولها.

 

أبانتهم أبينت من جمال::وحاد بها الحداة إلى الضلال  

جمال غادرت هضب الحبارى:: قبيل الصبح مسلوب الجمال  

سلكن السيل لا متريثات::حذارا من معالجة الرمال  

وقد جعلت تدير السيل عنها::يمينا والنفود إلى الشمال  

وكان لهن ربع الرعي أمّا::فأنجاد المُعَكّنَة العوالي  

 

فجعل يلحظني كالمتعجب وقال قلت إنك لاتعرفها!

 

فقلت إنما سألتني هل أحفظها وأنا لا أحفظ منها إلا أبياتا قليلة وهي طويلة ولو سألتني هل أعرفها لقلت لك نعم، فسكت،

 

قال لي مرة هل تقرض الشعر فقلت ربما فعلت ذلك،

 

قال أسمعني فأنشدته قصيدة، وأنشدته أيضا أول الرائية التي قلت في الشيخ ماء العينين:

 

قد حمل الطيف الملم هجيرا:: من ليس للحور الكواعب زيرا  

من فرط حب فتية بالعُقل ما :: يعيى به لو حملته ثبيرا  

 

فقال لي أين فاعل يعيى قلت له ثبير فقال كيف ذلك وهو منصوب قلت له هو منصوب بجملته على أنه مفعول كان لأنه متنازع فيه فقال هذا حسن.

 

ثم ذكر بيتا لمحمذن بن السالم ماكنت سمعت به قبل ذلك وزعم أن فيه غلطا فلم أبحث معه فيه وإنما قلت إني لا أعرفه، وسألني عن أشياء كثيرة من أحوال بلادنا فأفدته عن بعضها وبعضها لم أفده عنه،

 

ولما أردنا السفر من مصر أتاني برسائل وقصائد قالها في أهل المدينة وكانت جرت بينه وبينهم فقلت أعفني من هذا فإني لا أحب أن أقدم على أهل المدينة بهجائهم،

 

ثم إنه أخذ لنا مكتوبا من حكومة القاهرة إلى محافظ السويس ليركبنا لى جدة ثم توجهنا إلى مكة فقدمناها محرمين بالعمرة في أواخر محرم 1319 هـ،

 

وقضينا عمرتنا ورجعنا إلى جدة وركبنا في السفيتة إلى رابغ ثم منه إلى المدينة عن طريق الغائر فأقمنا فيها وأصابتني الحمى وطالت مدتها معي وأقمت سنتي تلك وصحتي ليست على ما يرام وكنت أحضر درس البخاري على الشيخ علي ظاهر الوتري البغدادي الأصل وكان حسن التقرير،

 

وأحضر دوسا فقهية على مشايخ مغاربة وأتردد على الشيخ عبد الجليل برادة أديب الحجاز وشاعره ولغويه في وقته بلا منازع وكان يقربني ويكرمني كثيرا،

 

واتفق لي في هذه السنة وأنا في المدينة أني رأيت رسول لله صلى الله عليه وليتني كتبت تلك المرائي في حينها خوف النسيان لئلا يدخلها نقص أو زيادة،

 

إحداها رأيت كأني أمشي في طريق وأمامي شخصان يمشيان يبعدان عني أكثر من رمية حجر، وفي نفسي أنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر رضي الله عنه يمشي متأخرا عن جانبيه، ورأتني أتحرى أن أضع قدمي على مواطئ أبي بكر،

 

ثم إنهما جلسا على شيئ مرتفع على حافة الطريق حتى لحقتهما فتلقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم والتزمني وهو يبتسم وأدار ذراعه الشريفة من وراء عنقي وقبض يده الشريفة على فمي بشدة حتى كاد يؤلمني ثم أطلفني وقال لي كيف يقول فيّ صاحبكم ..

 

وهي أنه يعني رائية الأحول التي يمدحه بها فأسمعته إياها أو بعضها، ومما استأنست به لصحة هذه الرؤيا أنني حين رأيتها كنت مصابا في كليتي،

 

وكان يخرج منها دم كثير وكان ذلك عقب الحمى التي أصابتني ومن ذلك اليوم بدأت معي العافية بإذن الله ولم يزل المرض يتناقص إلى أن زال بالكلية ولله الحمد والقصيدة أولها:

 

طيف الخريدة زرت طارق مقصر:: فارجع وراءك وامض أيّ مقصّر  

هل تعترى بك أن قدمت مسرة :: قلبي وطيف محمد لا يعترى  

حب إذا طرق الحبيب أفاده :: أشهى محادثة وأحسن منظر  

خير الالى حملوا الرسالة إن هم :: عُدّوا وأجدرهم بعدّ الخنصر  

فهو المقدم والموخّرُ غيرهُ :: شتان بين مقدّم وموخّر  

 

وهي طويلة وكنت إذ ذاك أحفظها برمتها ولما أصبحت قرأتها عند رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم،

 

ولما حان الحج حججنا وسافر صاحباي للمغرب ورجعت أنا للمدينة،

 

وكان في المدينة جماعة من الشناقطة يحاولون إخراج وقف لهم من يد رجل مصري ولاّه عليه بعض القضاة وكانوا يحتاجون إلى حضوري معهم في أكثر الأوقات وشغلني ذلك طول السنة ولم نخرجه من يده إلا في آخر السنة،

 

وكنت أدرس البخاري على الشيخ على طاهر وتفسير الجلالين في رمضان عليه أيضا وحضرت دروسا مختلفة على مشايخ وربما ذهبت إلى الكتبخانة لمطالعة بعض الكتب وكان الشيخ أحمد بن الأمين العلوي الشنقيطي توجه نحو المشرق قبل توجهي بنحو سنتين وحين كنت بالمدينة كان هو في الأستانة وجرت بيننا مكاتبة ومما كتبت به إليه قولي:

 

مِنِّي لأحمدَ في «فَروقَ» سلامُ::عطرٌ عليه من البهاء لِثامُ  

يُزري إذا قرع المسامعَ لفظُه::وتأمَّلتْ مضمونَهُ الأفهام  

بمُدامةٍ قد عُتِّقت في دَنِّها::ما لم تُعتَّقْ في الدِّنان مُدام  

ثُجَّتْ بماء غمامةٍ في أبطُحٍ::بالليل غادَره وسار غَمام  

وبعَرْفِ روضٍ في يَفاعٍ مُشرِفٍ::جادَتْه من نَوْءِ السِّماكِ رِهام  

وعليكَ من بعد السَّلام تحيَّةٌ::ومن الإلهِ تحيَّةٌ وسلام  

 

فأجابني بأبيات من بحرها وعلى رويها لا أستحضر الآن منها إلا قوله:  

 

من ماجد يبني عواليّ فكره:: مبنىً تقاصر دونه الأهرام  

 

ولم أزل على ذلك إلى أن حان الحج فحججت وكان عزمي التوجه بعد الحج إلى الشام ثم المغرب ولكنني التقيت في مكة بشيخنا أحمد سالم بن الحسن الديماني وهو صديق لوالدي أقمت معه لمرضه وطال مرضه وذكر لنا أن الشريف زيد بن فواز من أشراف الطائف من آل عون عنده إبل كثيرة أتيناه فأكرم نزلنا وعاملنا الشيخ بالحليب فعافاه الله تعالى فأردنا السفر ومنعنا الشريف زيد فأقمنا،

 

قرأت على الشيخ جانبا حسنا من أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك ومنظومة المغازي للبدوي وعمود النسب ولم نزل عند الشريف حتى حججنا وكنت عازما على الرجوع إلى المغرب تلك السنة إلا أنه قدم علينا حجاج من بلادنا وذكروا لنا فتنا حدثت في البلاد فصارت سببا لدخول فرانسا إلى شنقيط فتأخرت أنا لأجل ذلك أنتظر انتهاء الفتنة.

 

وابتدأت بطلب العلم على العلامة الشيخ شعيب بن عبد الرحمن الدكالي المراكشي ولازمته وقرأت االمنطق على الشيخ أحمد التكروي، ولما ثبت قدم فرنسا في شنقيط أزمعت المقام وصرفت النظر عن الوطن،

 

وكنت أكاتب أهلي وكانوا يحثونني على الرجوع إليهم وممن كتب إلي بذلك المختار بن المعلى،

 

وفي سنة 1326 سافر الشيخ شعيب إلى بلاد الترك وكان يقرأ عليه طلبة من قازان مقامات الحريري وأمرني أن أتمها لهم ففعلت ثم سافرت إلى الهند ثم إلى عُمان ثم إلى البحرين ولم يتيسر لي الحج وكنت التقيت في الهند بالشيخ عبد الوهاب الزياني من أهالي البحرين فقال قدّر الله مرورك بالبحرين وليكن نزولك عندنا فنزلت عنده فأكرم مثواي غاية الإكرام،

 

وتوجهت إلى الأحساء وكنت أحضر دروس الشيخ عيسى بن عكاس وقرأت نبذة من أقرب المسالك على الشيخ عبد العزيز بن حمد بن مبارك وطلبت من عمه أن يجعل لي درسا فأبى من أجل دراستي على ابن عكاس وكان آل مبارك يبغضون آل عكاس،

 

ثم جاءتني مكاتيب من الشيخ شعيب يأمرني بالتوجه إلى العراق وكان مزعل باشا السعدون بنى مسجدا ومدرسة بالزبير وطلب من الشيخ شعيب أن ينتصب فيها فلم يجبه لذلك ثم طلب منه أن يوجه إليه من يرتضيه،

 

فكتب إلي يأمرني بالتوجه لهذه الغاية ولولا أن الشيخ أخبرني أنه عازم على التوجه إلى المغرب حين كتب إلي لراجعته في المسألة ولسألته أن يعفيني من ذلك لأني في نهمة لطلب العلم وعلي قصور في أشياء كثيرة والتوظف يمنعني من إتمام الباقي علي من العلوم،

 

فتوجهت وأنا كاره في صفر 1327 هـ مع الشيخ عبد العزيز بن حمد آل مبارك الأحسائي من الأحساء إلى البحرين ونزلت أنا على الزياني ونزل هو على ابن عم له هناك،

 

ثم ركبنا جميعا إلى الكويت وحين وصلناه بلغنا خبر وفاة مزعل السعدون فهممت بالرجوع من الكويت ولم يزل بي عبد العزيز حتى سافرت معه إلى البصرة وخرجت من البصرة إلى الزبير وحينما كنت بالزبير طلب مني بعض الطلبة أن أرتب لهم دروسا ففعلت فرغبوا في إقامتي،

 

فأقمت وتزوجت وكنت أدرس في ثمانية مساجد متفرقة في البلد لكل واحد يوم معين وللثامن ليلة معينة والقصد من ذلك تعميم التذكر،

 

وكان الناس يأتون إلى المسجد الذي فيه الوعظ من أطراف البلد ويتساءلون أين الوعظ اليوم ويتسابقون إلى قرب الكرسي الذي أجلس عليه للوعظ إذ ليس ثمة واعظ غيري،

 

وكان المسجد الذي فيه الوعظ يمتلئ حتى يضيق بالناس ويجلسون بالشمس فثقل ذلك على بعض أئمة المساجد فجرت بسبب ذلك محنة حاصلها أن أهل الزبير على جانب عظيم من الجمود على التقليد، وعلوم الحديث والأصول عندهم مفقودة،

 

وكنت في دروسي العامة أورد الأحاديث الحاثة على التمسك بالكتاب والسنة وأقرر حكم المذهب وعدم لزمه ونحو ذلك من الأمور التي لا تلتئم مع مذاهبهم مع ما انضم إلى ذلك من حسد جملة من أئمة مساجدهم وبعض المنتسبين إلى العلم فهم بسب إقبال العامة وازدحامهم على دروسي الوعظية قام عليّ منهم لفيف قومة تعصيب واستعانوا بأناس أهل نفوذ وأنهوا أمري إلى مدير الحكومة،

 

وقالوا له إن هذا المغربي يلزم إبعاده من هذه البلدة فإنه مثير فتن يقدح في الحكومة ويحرض الناس على القيام عليها ويقدح في الأئمة الأربعة ويعترض على مذاهبهم ويسيئ إلى سيدنا الزبير ونحو هذا الكلام،

 

وكنت أنا في دروسي العامة أعترض على الحكومة العثمانية بإحداث القوانين المخالفة للشرع وإهمال الحدود الشرعية وإقرار الفواحش مع التمكن من إزالتها وأكثر الإنكار على مايفعله جهلة أهل البصرة،

 

وغيرهم عند قبر الزبير والحسن البصري وغيرهما ولهذا حاول الخصوم الدخول من هذا الباب ..

 

وعند محنة ابن فال الخير تنتهي الورقات التي كتبها بنفسه عن نفسه ولسان الحال:  

 

وتُسعدُني في غَمرة بَعْدَ غَمرة :: سَبوح لها مِنها عَليها شَواهدُ  

كامل الود

 

        إكس ول إكس إكرك