...الجناح المهيض

اثنين, 04/22/2019 - 01:44
أ. د. أحمد وعبد الدائم أيدي - كلية الحقوق بجامعة نواكشوط، محام لدى المحاكم

عودتنى تجربتى ـ المريرة ـ أن أتقبل رزء الحياة بصدر رحب... إذ الحياة مسرات وأحزان... وما الرزية إلا فقد حر يموت لموته بشر كثير... عودتنى الحياة أن أتصدى لهمومها، متفردا، بعزيمة وتجلد:

 

فإنّما رجلُ الدُّنْيَا وواحدها *** من لَا يعوِّلُ فِي الدُّنْيَا على رجل

 

غير أن وفاة أخي الأكبر أحمد بن امين بن أيدي الملقب الرفاعي ـ وهو اللقب الذي أطلقت عليه والدتنا، طيبة الذكر، توت منت أحمد التي كان برا بها وبوالديه ـ غيرت مناح كثيرة... وقلبت موزين شتى... فصار الجناح مهيضا.

 

أعلم أن الموت حقيقة، غير أننا أمامه بأمسِّ الحاجة لأن ننظر المرئيِّ؛ ونحكم حكما موضوعيا، على المسموع. فلا يكتفي أن يكون الشخص شخصا، بل لا بدَّ أن يكون مُجسِّداً بسلوكه الشخصيِّ، والأسريِّ، والاجتماعيِّ، أفكارا إيجابيّة، في عصره وهو يعيش، وفي العصور اللاحقة بعد أن يُغادِر الحياة... مأسوفا عليه.

 

حتما يموت الإنسان، لكنَّ عطاءاته تبقى، وتمتدُّ من خلال المُتلقين من حوله؛ وقد وَرَدَ في الحديث الشريف: (إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم يُنتفـَع به، وولد صالح يستغفر له))... وهنا أذكر أن طيب الذكر أحمد امين أيدي الملقب الرفاعي كان معلما ومفتشا تربويا، متفانيا في خدمته الوطن قبل أن يكون تاجرا صادقا...

 

عندما أتحدَّث عن أخي الأكبر أحمد امين أيدي الملقب الرفاعي بعطاءاته أجده علامة مُتميِّزة في طريق الصعود المناقبي منذ أن نشأ، وترعرع، فأعطى ما استطاع أن يُعطي...

 

الكثير من الناس يمشون بيننا أمواتاً؛ لأنهم بلا عطاء، بلا بناء، بلا صدق، ولا مصداقيّة. إنـَّهم ميِّتو الأحياء، فهو يأكلون، يشربون وكذلك الحيوان يأكل ويشرب...

 

كان يرحمه الله ويسكنه فسيح جناته رجلا وقليلون هم الرجال... كان يتصدى للهم الخاص والعام... برباطة جأش وبذل لا يخشى صاحبه فقرا...

 

إن أنس لا أنسى كم كنت أشفق عليه وأعاتبه عتاب محب، حادب، لكثرة ما يتحمل من هموم ويصد من نوائب... فيجيبنى بصبر وأناة... بحججه الدامغة المختصرة، المفيدة التي يلقى في روعى...

 

إن أنس لا أنس حين زرته في مشفاه بتونس شهر دجنبر الماضي كم كان يسألني عن دقائق الظروف المعيشية لكل أسرة من أسرنا كأنه قيومها... المسؤول عنها في مجتمع جل رجاله لا يهمهم الجائع إلا إذا كان ناخبا...

 

أعلم علم يقين أن أحدنا سيترك الآخر في يوم مغبر من أيام هذه الدنيا... رغم ذلك كنت أتأمل بذل... أخلاق... صبر هذا الأمة... كان مثلا يحتذى في ظرف ضاعت فيه قيم واندرست أخرى... كانت حياته، يرحمه الله، تجسيدا لكل معاني الحياة النبيلة... كان الأخ الأكبر والأب الحنون...

 

الحزن يعتصر القلب ألما على فراقه، غير أن رحلة العمر القصيرة التي عشت معه تحمل أجمل معاني الحياة... عزائى أن الموت ليس فناءً وإنما خلق، ووجود، فالإنسان عندما ينتقل من هذه الحياة، الفانية، تبقى الحياة الخالدة... وله فيها بشهادات ألسنة الخلق ـ أقلام الحق ـ نصيب.

 

النظرة إلى الموت باعتباره فناء مجرد نظرة مُتشائِمة، بائسة، خاطئة، إنـَّما المُهـِمُّ هو كيف نـُواجـِه الموت، وكيف نصنع مصيرنا بعد أن نموت، وننتقل إلى تلك الحياة الأبديّة... وقد كان يرحمه الله بصلواته، بتراتيله القرآنية بعيدة الغور الخالية من التكلف... بصومه الدائب وسؤالي إن كنت من الصائمين... بعمله بيده... بصدقه وأمانته مثلا يحتذى...

 

سامحنى، أخي الفاضل، أحمد، إن كنت ضعفت مرة أو مرتين أو مرات، وبكيت سرا وعلانية فالصدمة كانت أكبر من تحملي... رغم حرصي على التجلد للشامتين "أريهم أنى لريب الدهر لا أتضعضع...".

 

سامحنى فقد كنت القدوة والمعلم... عرفتك إنسانا بسيطا...عظيما... مضحيا... صبورا...

 

اطمئن ونم قرير العين... فلن تموت أبدا لأنك ستعيش في قلوب محبيك ولأن أفكارك العظيمة باقية إلى الأبد... إذ:

ما مات من مات محموداً خصائله *** بل مات من عاش مذموماً من الكذبِ

 

فكيف تموت الفكرة... كيف يموت المثل... رغم جناحي المهيض...

 (...) (...) إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون

 

نواكشوط مساء 21 إبريل 2019