الحاج بن فحفو: الصحابي الذي لم ير الرسول ( ص )

أربعاء, 07/17/2019 - 21:47
أ.يحيى ولد بيب

  هو شيخ زهاد هذا العصر سيد محمد بن السالك بن الشيخ بن فحفو، سليل هؤلاء الفقهاء الثلاثة الذين كان لكل واحد منهم محظرة معروفة.

 

ولم يأخذ سيد محمد لقب الحاج من رحلته المشهورة إلى الحج، خلافا لما يعتقد الناس، وإنما هو لقب كانت تطلقه عليه من الصغر والدته (لمباركية) تيمنا بالمجاهد الحاج عمر الفوتي.

 

ولد الحاج على الأرجح سنة 1911م. وهنالك روايات تقدم تاريخ الميلاد قبل هذا الموعد بسنتين أو ثلاث، لكننا رجحنا التاريخ السابق، معتمدين على مقابلة أجريناهامع الفقيد عام 2002 أتبعناها باستقصاء شمل بعض المسنين العارفين بالموضوع.

 

نشأ الحاج نشأة لاتختلف كثيرا عن ظروف نشأة اقرانه في حي أهل المختار ولد الحبيب الذي ينحدرمنه.

 

درس في المحاظر كما كانوا يدرسون، وأخذ نصيبه من مجالس الأقران كما كانوا يأخذون.

 

كل ذلك قبل أن تقع الفاجعة التي قلبت حياة الرجل رأسا على عقب، وأتحفت البشرية بتلك الشخصية الفذة التي عرفناها للحاج فيما بعد.

 

أشياخه

أخذ الحاج القرآن وعلومه على يد كل من خاله حدمين بن سيدمحمد ولد أوبه وسيد محمد ولد ديده ولد عبد الفتاح.

 

كما درس ألفية إبن مالك على احمد فال بن آدو . وكان يقول عنه" من عرف ابن آدو وتركه فقد سفه نفسه".

 

بينما تنبأ ابن آدو للسالك ابن الشيخ بأن إبنه (الحاج)سيصبح "عويلما".

 

وكان هذا الشيخ يدعو طلابه إلى الاستنجاد ب" بوكرين" كلما استعصت عليهم إحدى المسائل اللغوية. وهذا اللقب يشير إلى مايؤكده الحاج نفسه من أنه أخذ هذه العلوم وهو مايزال يحمل "شعر الصغر " إشارة إلى القرون كما هي عادة الحاج في تجنب سوقي الألفاظ.

 

كما درس الحاج على والده السالك وعلى كل من محمد محمود بن احمد الهادي واحمد اداده.

 

لكن الشيخ الذي احدث الانقلاب الجذري في حياة الرجل هو محمد بن احمل ابات, ليس في حياته وإنما بموته المفاجىء.

 

فقد كان ابن احمل أبات هذا عالما في عنفوان مجده العلمي والاجتماعي ، ذائع الصيت، مزحم الطلاب،  باغتته المنية بلدغة أفعى ليترك الدنيا لأهلها، ولتبتلع طلابه الآفاق.

 

الانقلاب الحاسم

ومنذ ذلك اليوم طلق الحاج الدنيا ونعيمها، وتحول من الشاب العادي،إلى الشاب العابد المتبتل.

 

وهذا مااكده لنا الشيخ نفسه سنة 2002.

 

كما أن الروايات تتواتر على ارتباط زهد الحاج في الدنيا بهذه الحادثة الأليمة، حيث استخلص الرجل أن نعيم الدنيا سريع الزوال وأن سهم المنية متربص بالمرء في كل حين فاختار طريق الاستعداد للرحلة ،وهو القائل: يانفس قومي فارعوي وانزجري** وفجأة الحمام منها فاحذري

ولذة الدنيا جميعا فاهجري**

لاسيما الهجوع وقت السحري.

 

ويقول احد زملائه في المحظرة خلال تلك الأيام، إنهم لم ينتبهوا إلى التحول الذي حدث للحاج إلا لنحول جسمه ، ودوام "صيامه للشمس".

 

والذي يتتبع المتون التي درسها الرجل في مختلف المحاظر كالألفية وخليل يفاجأ بأنها لاتزيد على مايدرسه طالب محظري متوسط، وهذا ماجعل إبن عم الشيخ وابرز طلابه العالم الجليل حدمين بن الشيخ يقول إن أهم أشياخ الحاج "أتقوا الله ويعلمكم الله".

 

وكان الحاج نفسه يعلق على هذه الآية بقوله :"لقد خبرنا صدقها في أنفسنا.

 

بعد الوفاة المفاجئة لمحمد ولد احمد لبات دخل الحاج مرحلة "كانت الأموات فيها أكثر إيناسا له من الأحياء" كما يقول هو نفسه.

 

وكانت هذه المرحلة أصعب مراحل حياته على نفسه وعلى جسمه.

 

لقد اهانهما أيما إهانة، ليؤدبهما ويحكم السيطرة على لجام هواه.

 

فر الرجل من الناس، وخصص وقته للتعبد في الخلاء، لايكاد يدخل حي قومه إلا إذا أشتد عليه حصار الجوع أو العطش، فيدخل دخول مكره لايلبث أن يعود إلى معتزله متى أصاب مما هيأت  له والدته من مأكل أو مشرب.

 

وكان طلاب محظرة والده السالك يبحثون عنه في الغابات،وكهوف الجبال ليدرسوا عليه، فإذا أعجزهم عادوا إلى السالك ليدرسهم، مشتكين ماأصابهم من عناء البحث ، فيرد عليهم الوالد بقوله" أصبروا. الحاج الآن يجاهد نفسه، ومتى اطمأن إلى أنه سيطر عليها فسيجلس لتعليمكم ".

 

يقول أحد طلاب الفقيه الصالح صدفه بن ديه:"بينما كنت أسير خلف شيخي في خلاء، لاحظنا أثر شخص على الأرض مرة يجلس، ومرة يقف وثالثة يتمدد على الأرض فسألني شيخي أتعرف أثر من هذا؟ قلت لا

 

قال: إنه أثر الحاج بن فحف.

 

ولم تمض إلا لحظات، حتى خرج إلينا الحاج من تحت شجيرة مرتديا ملحفة، وقد غطى (إنيتي) بعض شعر رأسه ، ثم سلم على الشيخ الذي دعاه للذهاب إلى حيه المجاور. لكن الحاج أشار إلى أنه صائم ووعد بزيارة الشيخ ليلا.

 

وفعلا أتاه وقت الفطور.

 

الرحلة إلى الحج

بعد فترة قضاها الفقيد في هذه الوضعية الصعبة شد الحاج الرحال إلى الديار المقدسة سيرا على الأقدام في رحلة شاقة، أخذت منه نحو ثلاث سنوات كما يقول هو نفسه.

 

وقد مارس الحاج التدريس خلال هذه الرحلة وخاصة في السودان.

 

وكان ممن اخذ عنه كما يقول إبن حامدون العالم الليبي التواتي شارح نظم نوازل الشيخ سيد عبدوالله ولد الحاج ابراهيم.

 

وإذا ماصحت استنتاجات تلميذ الحاج خطري بن بيبه، فإن عودة  لمرابط الحاج من الحج كانت في حدود 1941م. وهذا يعني انه بدأ رحلة الحج وهو مايزال في عمر السابعة والعشرين.

 

زواج واستقرار

بعد العوده من الحج تزوج فقيدنا السيدة مريم منت بيبه التي انجبت له ثلاثة أبناء ذكورا إثنان منهما فقيهان، بينما عمل الثالث ضابطا سابقا في الدرك.

 

كما انجبت له بنتين تزوج إحداهما تلميذ الحاج الموهوب، العالم الحالي الجليل لمرابط احمدفال ابن احمدن شيخ محظرة عين الخشبة المعروفة الآن، وانجبت له الفقيه الحالي عبدو الله بن احمدفال.

 

وبما أن والدة عبدوالله توفيت عنه وهو رضيع، فقد تعلق به جده لأمه أيما تعلق.

 

وعندما أرسل لمرابط أحمد فال من يحضر إليه عبدو الله ليزوره تأثر الحاج تأثرا كبيرا، مخافة أن تكون تلك بداية بقاء الغلام مع والده، وبعده عنه، فقال مستشهدا بالشاهد الشعري المعروف :

بنونابنو أبنائنا وبناتنا** بنوهن أبناء الرجال الأباعد.

 

وماكاد لمرابط احمدفال يسمع بتأثر شيخه حتى أقسم -أوعزم- على ألا يرسل إلى الغلام ماحيي.

 

وهكذا ظل عبدوالله في بيت جده إلى يومنا هذا، حتى بعد أن كبر وتزوج وأنجب الأبناء.

 

وهو الآن يشارك في اعباء التدريس بالمحظرة إلى جانب فضيلة الشيخ حدمين.

 

اما البنت الثانية  من بنات الحاج فقد قضت صغيرة، وكان لكاتب هذا المقال حظ إرضاع أمها له معها، وهو إرضاع نرجو أن ننال به من بركة أبيها الولي الصالح ماينفعنا.

 

وبرغم الزواج وانجاب أوائل الأبناء فقد ظل الحاج وفيا لعادته في الهروب إلى الخلاء للتعبد.

 

كما ظل طلاب العلم على عادتهم في البحث عنه بين كهوف الجبال، ومجاهل الغابات، مرة ينجحون وطورا يخفقون.

 

وعندما نصحه أحد زملائه في الصغر بالسعي في سبل الرزق لأنه أصبح له أولاد، رد بقوله:"وأي علاقة بيني وبينهم ؟ لقد خلقهم الله وهو الذي يرزقهم".

 

لدغة أفعى تخرجه ،ولدغة أفعى تعيده

وإذاكانت الوفاة المفاجئة بلدغة أفعى ، لمحمد بن احمل أبات هي التي أخرجت شيخ الزهاد من الحي إلى الخلاء فإن الوفاة المفاجئة أيضا بلدغة أفعى، للمرابط صدفه بن ديه هي التي فرضت عليه الاستقرار في الحي، والتفرغ للتدريس، بعد أن لجأ إليه طلاب هذا الشيخ الجليل المجاور لحيه، وذلك بعد أشهر من لجوء طلاب أحمدو بن مود إليه إثر وفاته هو الآخر.

 

وقد كان هذان العالمان الجليلان ملجأ طلاب العلم والمستفتين والخصماء في ذلك الركن القصي من " سن تكانت".

 

وكان الحاج يجلهما أيما إجلال، ولاينطق باسميهما مجردين, إنما يلقب ابن مود " بسيف الحق"

 

ويصف ابن ديه بالولي.

 

ولم يقبل أبدا أن يفصل في خصام إلا بعد وفاتهما، لأنه يراهما الأكفأ لتلك المهمة الشرعية .

 

أما وقد قضى الموت على هذين العالمين فلم يعد أمام الحاج مفر  من تحمل مسؤولياته الشرعية من الإفتاء  وفض الخصام وتدريس طلاب العلم، وهي مسؤوليات تحملها بكفاءة وصبر نادرين لايختلف عليهما إثنان.

 

ولاتفصل بين قبري الحاج وصدفي الآن إلا بضعة أمتار من مقبرة " ابياظ اشكوكة" على بعد نحو ثلاثة كيلومترات من قرية اتويمرات، مقر محظرة الحاج.

 

ويظهر أن الحاج جلس متفرغا للتدريس مكرها، بحكم واجبه الشرعي نحو الطلاب الذين ضاقت بهم السبل في تلك المنطقة بعد وفاة عالميها الجليلين وخاصة بعد وفاة الأخير منهما.

 

وهكذا أصبح سكان الحي المحظوظون يستمتعون كل ليلة مع طلاب المحظرة بتلك التلاوة المميزة أثناء قيام الحاج لليل، وهي تلاوة تغلب على صوت صاحبها نبرة بكاء وخشوع تلين صخور القلوب.

 

 زهده في الدنيا

ليس أبرز مايميز الحاج عن أجلاء علمائنا علم أو ورع على جلال علمه وشدة ورعه. فقد بلغ الكثيرون منهم في هاتين الصفتين شأنا أي شأن ، إنما يميز  الرجل هو مدى ماوصل إليه من زهد في هذه الدنيا ونعيمها،وترويض للنفس عن هواها .فهو الذي يلخص وصاياه لأحد زواره, وهو عمر الفتح, في عبارة(مخالفة الهوى).

 

ويحذر تلميذه الآمريكي حمزة بقوله:" ياحمزة، هذه الدنيا بحر، والغارقون فيه كثر، فلاتكن من الغارقين".

 

ويقول حمزة هذا :" لو كنت أزور الحاج من أجل طلب العلم لما تجاوزت انواكشوط إليه, فالعلماء هنالك كثر.لكنني أقصده لزهده في الدنيا وشدة ورعه ".

 

وبرغم مرحلة الفاقة التي عاشها أغلب سنوات عمره المديد فلم يطلب الحاج حاجة من أحد، ولم يقبل إسناد أي مهمة إلى أي مسؤول حكومي، على كثرة من زاروه من وزراء وولاة ومدراء عارضين بإلحاح خدماتهم ,بل إن ابن الطايع أرسل إليه مبعوثا رسميا عارضا عليه القيام بمايراه مناسبا من مطالب أو احتياجات. لكن الرسول عاد خالي الوفاض لأن الحاج يرى أن على المرء ألا يطلب من العباد وإنما من رب العباد.

 

وعندما علم لمرابط في أوائل الثمانينات، أن رئيس الدولة يتهيأ لزيارة حيه ,أيام بن هيداله ,قال مستاءا، مخاطبا تلميذه المخلص الناجي بن داهي:" مالي ولهم؟! لقد لجأت إلى هذه الجبال الوعرة لتجنبهم، وأقسم بالله الذي لاإله إلاهو على أنه لن يصل إلي".

 

فماكان من ابن داهي إلا أن توجه إلى المتحمسين من سكان الحي لزيارة ولد هيدالة قائلا: "لاتتعبوا انفسكم بالتحضيرات، فلن يزوركم الرئيس.

 

وفعلا ألغيت هذه المحطة من زيارة الرئيس, وأبر الله قسم شيخ الزهاد.

 

ولم يكن الحاج يستظل بظل في صلاة، إنما يصلي في الشمس الحارقة، مهما كانت درجة حرارة النهار ،وهو مادفع أحد المصلين خلفه إلى الأحتجاج عليه بعد أن اكتوت قدماه بنار الرمال الحارقة أثناء الصلاة: 《 ياحاج إنما نصلي خلفك حتى لاتحرق النار اجسادنا، وهاهي حرقتهافي الدنيا.

 

وقد ظل الرجل هكذا حتى لدغته أفعى، فاصبح جسمه لايقوى على التحمل، مما فرض عليه مكرها الصلاة تحت ظلال الأشجار.

 

 كما أن الرجل يتعمد قيام الليل في العراء، في ليالي شتاء تكانت الشديدة البرودة .

 

وقد زار رجل الأعمال الليبي المقيم في كاليفورنيا عبدالرزاق,الحاج بعد أن سمع به فعرض عليه أن يبني له دارا في مكانه، لكنه رد عليه: "الخيمة تكفينا".

 

فعرض عليه بناء مسجد لكنه قال:" نصلي في ظل هذه الشجرة وهي كافية".

 

وقد هبت عاصفة مطرية اثناء وجود الضيف الليبي مع لمرابط وألقت بالخيمة بعيدا. ثم بدأ المطر في التساقط دون أن يحرك الحاج ساكنا.

 

وأمام تجاهل لمرابط لمناشدة الحاضرين له بدخول سيارة عبد الرزاق المجاورة عن المطر، رفض عبد الرزاق بدوره ترك الحاج جالسا في المطر والأحتماء بالسيارة.

 

عندها نبه أحد الحاضرين الشيخإلى أن ضيفه يرفض مغادرة المجلس بدونه، فانصاع الحاج المعروف بعنايته الشديدة بضيوفه، وقام يصحب ضيفه إلى السيارة.

 

قضى عبد الرزاق أياما مع هذا الشيخ منبهرا بما يرى، لايكاد يصدق عينيه، حتى عاتب تلميذ الحاج الناجي بن داهي الذي كان  يحدثه عن فضائله قبل أن يراه:" سامحك الله ,لقد قصرت في حق الشيخ كثيرا..! إنما هذا صحابي لم ير الرسول صلى الله عليه وسلم ".

 

ولم يعرف عن الحاج سعي في سبيل الرزق. كما أنه لم ير واضعا نقدا في جيبه. فمايصله من هدايا يوزع في الحال على المحتاجين من حوله، إلا ماتفرضه الحاجة الماسة الآنية للأسرة، ومن تعيله من الطلاب.

فإن بقيت دريهمات وضعها في طيات هذا الكتاب أو ذاك.

 

وقد أثارت ظاهرة وضع النقود في الكتب استغراب تلميذ الشيخ خطري بن بيبه، فسأل أخته ,أم أولاد الحاج ، عن سبب ذلك، فكان الجواب أنه يفعل ذلك لعل أحد التلاميذ الذين يطالعون هذه الكتب من حين لآخر يعثر على النقود فتدفعه الحاجة إلى أخذها فتكون صدقة سر.

 

نظام المحظرة

وينقسم طلاب محظرة الحاج إلى قسمين:

قسم يملك إمكانية الإنفاق على نفسه ،فهو يعيل نفسه.

وقسم يفهم الشيخ أنه لايملك تلك الإمكانية يضمه إلى عياله فيصبح حاله من حالهم. وقد يستمر بتلك الوضعية عقودا حتى تنتهي دراسته .وماتزال هذه هي العادة في المحظرة إلى اليوم.

 

 ويبدأ يوم لمرابط الحاج التعليمي قبل صلاة الفجر، ولا ينتهي إلا بين الحادية عشرة والثانية عشرة عند منتصف الليل, وذلك بدون انقطاع.

وكل أيام الأسبوع سواء.

 

يقول الناجي بن داهي الذي درس على الشيخ عشر سنوات :" لم أر الحاج يوما واحدا صلى الفجر قبل أن يدرس عليه عدد من الطلاب يتراوح بين السبعة والعشرة.

 

وبعد أن يصلي الفجر تتواصل دروس الطلاب حتى منتصف الليل لايقطعها إلا للفريضة.

 

فإذا اشتدعليه النعاس أثناء النهار أخذ يشد شعر لحيته أو رأسه.

 

فإن لم ينفع ذلك يقوم ، إن لم يكن صائما، ليأخذ تمرات أو حبات بسكويت يأكلها واقفا أثناء التدريس حتى يتغلب على النعاس".

 

وحتى أوقات الأكل لاتستثنى من التدريس.فقد كان الرجل يبدأ تناول طعامه وهو يقول للطالب الأول في الطابور "(مشي). لقد كان شيخي (يقصد أحمدفال بن آدو) يقول : إثنان إن لم يأكلا أمام الناس ضاع عملهما (امرابط اتلاميد، ولمعلم) أي الصانع".

 

والأولوية المطلقة عند شيخ الزهاد هي للتدريس، لايستثنى من ذلك إلا الفريضة.

 

فهو يوقف صلاة التهجد إذا حضر إليه بعض الطلاب حتى يفرغ من التدريس. ولايغادر الشيخ المحظرة إلا لأمر جلل ، حتى لايفوت على الطلاب درسا.

 

ويعتقد بعض طلابه أنه، خلال السبعين سنة الماضية، لم يبت خارج مقره إلانحو إثنتي عشرة ليلة لأسباب مختلفة، كإصلاح ذات البين أو العلاج.

 

وهذا السلوك يذكرنا بما ورد في كتاب "الزمن عند العلماء" من شدة الحرص لدى هذه الصفوة على استغلال الوقت ، حتى إن أحدهم كانت تلقمه أخته طعامه

 

على مدى اربعين سنة وهو منشغل في التأليف ضنا بوقته على طعامه.

 

ولايستطيع طالب في محظرة الحاج أن يدعي أنه سمع الرجل يقول لطالب: حان وقت نومي، أو أنا متعب. كما لايستطيع أن يقول  أنه سمع احدا من أهل الشيخ يقول للطلاب: دعوا الشيخ ينام أو يستريح، كما يؤكد ابن داهي.فوقت الشيخ كله للطلاب حتى يسقطه النوم حيثما اتفق.

 

وإذاما عرفنا أن الناجي يقدر عدد طلاب الحاج، أيام كان في محظرته، بما بين مائتين وثلاثمائة طالب ,بينما يقدرهم آخر بنحو ستمائة  فسندرك ماعاناه الشيخ من إرهاق جسدي لتلبية الاحتياجات التعليمية لطلابه الكثر.

 

وثمة حادثة معروفة تبين شدة ازدحام هؤلاء الطلاب على الشيخ روتها زوجته السيدة الجليلة مريم بنت بيبه.

 

تقول مريم إنها ذات ليلة فوجئت، في ساعة متأخرة بطالب جالس عند رأسيها هي ولمرابط . ولم ترفع رأسها في أي ساعة من تلك الليلة إلا والشاب ثابت في مكانه لايريم.

 

 وكعادة أفراد اسرة (الطلبة) التي رباها كبيرها على دماثة الخلق، وتقبلها ربها بقلول حسن، لم تسأل السيدة الطالب المقتحم, ولم تعلق على الحادثة الغريبة.

 

وفي اليوم التالي تقدم الطالب ذاته إلي السيدة الجليلة كسير الخاطر ،خفيض الصوت، حزين النبرة، وهو يقول:" يامريم، إني أعلم أنني فعلت البلرحة فعلا لاينبغي بجلوسي عند رأسيكما نائمين، ولكنني لم أجد فرصة لدرسي اليومي أمس نتيجة ازدحام الطلاب على الشيخ حتى نام، فعقدت العزم على ألا تفوتني فرصة اليوم أيضا. ولم اجد أمامي إلا هذا الفعل لأضمن أن أكون أول الدارسين على لمرابط عند استيقاظه".

 

ولاشك أن هذا الطالب يعتمد على عادة معروفة عند الشيخ، وهي أنه لايعود إلى النوم أبدا متى استيقظ ليلا، إنما يدخل في صلاته للتهجد أيا كان مابقي من الليل، لايهمه أكان الثلث أم الثلثين أم النصف .

 

ولايقطع صلاة التهجد إلا لتدريس من يحضر من الطلاب في ذلك الوقت العسير إلا على من علت همته وقويت عزيمته. وما أكثر من تعلو هممهم من طلاب الحاج الذين يعترف الناس بأن لهم مسحة تميزهم، لاتخلو من بعض مظاهر الورع والعبادة والزهد،وإن أختلفوا في نصيب كل منهم من ذلك.

 

أما عن المعارف التي تدرس في المحظرة فهي تتضمن جميع العلوم المعروفة في المحاظر الموريتانية، وفي مقدمتها علوم التفسير والحديث والفقه واللغة.

 

فلم يحدث منذ عقود أن غادر المحظرة أي طالب لأنه يريد تعلم فرع معرفي محظري لايستطيع الشيخ تدريسه.

 

فر من الدنيا ففرت إليه

وإذا كان الحاج قد هرب من الدنيا، وهو في ريعان شبابه، لايلوي على شيء من مفاتنها فإن الله قد منحه خصلتين من أهم مايسعى إليه المتكالبون على الدنيا، ألا وهما العمر المديد، والمجد الخالد التليد، وهو مجد ستجني ثماره أجيال من أبنائه من بعده. ونشر الله حبه بين الناس في مشارق الأرض ومغاربها، سواء في ذلك من رآه ومن سمع به ،وضربت إليه أكباد (لبوينك )و(الأير باص) من أوروبا والولايات المتحدة والهند والدول العربية، ليصدق الله فيه قول رسوله صلى الله عليه وسلم:" إذا أحب الله تعالى العبد نادى جبريل إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض".

(متفق عليه).

 

مؤلفاته واعماله

لايتناسب حجم مؤلفات الحاج مع مكانته العلمية الرفيعة .

 

ويعود ذلك إلى سيطرة التواضع المعرفي عليه، حتى إن اعماله الأهم إنما تمت تجاوبا مع إلحاح بعض طلابه.

 

وهذه أهم أعماله:

-- تنوير الحوالك على ألفية ابن مالك

وهوشرح قيم للألفية نال إعجاب شيخ الأزهر الحالي الذي تلقى نسخة منه هدية من سفير موريتانيابالقاهرة آنذاك سيد محمد بن بوبكر.وقد أرسل شيخ الأزهر هدية رمزية إلى المؤلف تعبيرا عن تقديره.

وقد طبع هذا الكتاب من غير تحقيق.

--دليل الطلاب على ماقصدوا من ظاهر الإعراب.

 وهو شرح لنظم الأجرومية في النحو. وقد طبع .

--شرح المقصور والممدود لابن مالك.

--مفيد القارئ والسامع على الدرر اللوامع

        شرح ابن بري

--لباب النقول في متشابه الآيات وأحاديث الرسول(ص)،وهو رسالة صغيرة في الدفاع عن عقيدة الأشاعرة في التأويل.

--شرح نظم الشرنوبي في العقيدة.

--شرح قصيدة صلاة ربي لمحمد اليدالي

--شرح قصيدة بانت سعاد

--مجموعة فتاوى

 

وهنالك عملان ضائعان على الأسرة مازال بعض الطلاب القدماء يذكرونهما، وهما:

--نظم ديباجة القاموس

--مختصر في النحو