ذكرى النضال بلا سلاح/ الاستاذ محمدن ولد اشدو (*)

جمعة, 06/12/2020 - 01:30

في مثل هذا اليوم 29 مايو سنة 1968 اندلعت انتفاضة عمال الزويرات العفوية التي كان لها ما بعدها.

لقد كانت شركة "ميفرما" الدولية العاملة في استخراج الحديد من كدية اجّل (تزاديت) بالزويرات، وما قامت به من استثمارات كبرى وما شيدته من منشآت وبنى تحتية عملاقة كسكة الحديد الممتدة من الزويرات إلى نواذيبو ليجري عليها عبر الصحراء أطول قطار في العالم ويتدفق خام الحديد إلى الغرب عبر الميناء المعدني على المحيط في نواذيبو، أول وأهم إنجاز استعماري معتبر في موريتانيا شاء الله أن يشكل العمود الفقري لدولة الجمهورية الإسلامية الموريتانية المستقلة الوليدة.

ولكن "ميفرما" نظرا لما كانت تملكه من عوامل القوة، وما عليهموريتانيا من ضعف وهي تحبو وتخطو خطواتها المتعثرة الأولى، لم تشكل دولة في الدولة فحسب؛ بل كانت دولة أقوى من الدولة: لم تكن تعنيها قوانين البلاد في شيء، وخاصة منها ما يتعلق بالشغل، وكانت لها مطاراتها وميناؤها وحرسها، وكانت الإدارة الموريتانية بموظفيها تحت قبضتها، وكانت تمارس أبشع أنواع الاستغلال والقهر والاحتقار ضد العمال. وليس هذا فقط؛ بل كانت تطبق الفصل العنصري الذي ما زال يشهد عليه ما بقي من "الحيط" الذي كان جدارا فاصلا بين الأوروبيين والموريتانيين. ودون مرتنة الأطر خرط القتاد ولمس الثريا.

إنه النموذج الأسطع للنهب الإمبريالي لثروات الشعوب في ظل الاستعمار الجديد. لقد كانت "ميفرما" تحقق أرباحا خيالية من نهبها البشع الوحشي.. ولكنها كانت تحفر قبرها بيدها وتخلق أعداءها بنفس السرعة التي تخلق بها التراكم وتحقق الأرباح.

حاولت الإدارة الموريتانية الفقيرة المسكينة تهذيب "ميفرما" وردها عن غيها فلم تستطع. وتكررت إضرابات العمال العفوية البدائية كتلك التي قادها رواد مثل المرحوم محمد محمود ولد أعمر و ينجى ولد أحمد شلّه و"تطفل عليها" المرحوم سيد محمد ولد سميدع فكان أول حلقة وصل بين المثقفين والعمال، فلم تصغ إليهم "ميفرما" ولم ترعو وظلت مطالبهم هباء.

وفجأة تحركوا وانتفضوا وثاروا على معذبهم فاهتزت المدينة، وجن جنون إدارة الشركة وكادرها الأبيض من شدة الخوف عندما بلغت الثورة عنان السماء وحاصرهم العمال الثائرون يريدون حقوقهم، فطلبوا النجدة والحماية من الدولة. لم يكن من بين العمال الثائرين يومئذ أبيض أو أسود، وانمحت بينهم كل الفوارق الشرائحية التي تطل اليوم بوجهها القبيح من حين لآخر. بل كانوا كلهم عمال موريتانيا المتحدين المطالبين بحقوقهم وحقوق وطنهم.

وتدخلت الإدارة وأطلق الجيش الرصاص على الثائرين وسقط 9 شهداء (ثمانية عمال وتلميذ) وجرحى.. واستتب الهدوء وذهب الروع عن الأوربيين.

تلك هي مجزرة عمال الزويرات يوم 29 مايو 1968 التي ظلت تخلدها القوى الوطنية عشرات السنين وتوشك اليوم أن تكون نسيا منسيا؛ والتي لم تكن النهاية كما أريد لها، بل كانت بداية لعهد وطني جديد. إذ سرعان ما عم النبأ جميع أنحاء موريتانيارغم تأخر وانعدام وسائل الإعلام. وفي يوم 3 يونيو 1968 انطلقت الشرارة التي أشعلت السهل كله. لقد جرت في ذلك اليوم أول ردة فعل غاضبة على مذبحة الزويرات من مدينة لقوارب حيث نظم تلاميذ ثانوية روصو الثمانمائة وكثير من معلمي المدينة وتلاميذ مدارسها الابتدائية وشبابها وتجارها وشعبها مسيرة احتجاج جابت جميع أنحاء المدينة بقيادة الشاعر أحمدو ولد عبد القادر ويحي ولد عمر رحمه الله وعبد القادر ولد حماد ومحمد عبد الله ولد حي وأحمد ولد مبيريك وإبراهيم السالم ولد بو عليبه وبا آدما وديا جبريلرحمه الله وانيان عبدولاي وديا مامادو وديانغ عبد الله وبا عليو وعبد الله ولد محمد محمود وبليل ولد محمد فالوإبراهيم ولد الشيخ ولد أحمد محمود، اشترك فيها لأول مرة منذ أحداث 1966 الأليمة الطلاب من مختلف المكونات العرقية وطالبت بإنهاء الاستعمار الجديد وطرد الأوروبيين وتأميم ميفرما.. ومن الغد تحركت نواكشوط وباقي البؤر الوطنية؛ وكان المرحوم سيد محمد ولد سميدع من ينسق ويقود تلك الحركة الاحتجاجية.. وكان من بين النتائج الفورية لانتفاضة عمال الزويرات والاحتجاجات الوطنية التي أعقبتها الحد من جبروت وطغيان "ميفرما" لصالح بسط سلطة الدولة على الشمال، وتسفير بعض المديرين الذين اعتبروا أشخاصا غير مرغوب فيهم، وتلبية بعض المطالب، وبدأت مرتنة بعض الوظائف وإن بصورة خجولة.. واندلعت الحركة الوطنية الديمقراطية التي انخرط فيها جميع مكونات الشعب وتوحدت حول تلك الأهداف، واشتد عودها ونمت فعمت مختلف أنحاء البلاد. وفي أقل من أربعة أعوام أدى الضغط الوطني إلى إلغاء الاتفاقيات الاستعمارية المهينة بين موريتانيا وفرنسا وأنشئت العملة الوطنية (الأوقية).

وبعد ذلك بسنتين - في 28 نوفمبر سنة 1974 بالتحديد- أعلن الرئيس المختار ولد داداه رحمه الله أمام البرلمان وفي جو من الحماس الوطني الرائع تأميم عملاق الحديد "ميفرما" فأصبحت ملكا للأمة الموريتانية بعدما كانت حصتها منها لا تتجاوز 5 بالمائة، وأصبحت تدعى الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (سنيم) وعين لإدارتها إطار موريتاني كفؤ هو المهندس إسماعيل ولد أعمر.

إن دماء وتضحيات شهداء ازويرات والحركة الوطنية الديمقراطية وكافة القوى الوطنية الأخرى لم تذهب سدى أبدا، وإنما بفضلها استرجع الوطن حقوقه، ونعم العمال بالحرية والكرامة والمساواة، وانتهى عهد البغي والتجويع والفصل العنصري وأصبح الموريتانيون سادة أرضهم وثرواتهم. نعم هناك تناقض وطني قائم بين مصالح العمال وشركة سنيم. وسيظل يحتد تارة ويلين أخرى، ولكنه تناقض غير عدائي، وليس كذلك الذي كان بين العمال و"ميفرما".

وهذا التناقض الوطني يتم حله بالتفاوض والحوار ومراعاة المصالح المرسلة العليا بصفة تضمن مصالح اليد العاملة المنتجة الخلاقة ومصالح شركة "سنيم" زهرة الصناعة والاقتصاد الموريتانيين وأمانة الأجيال والتاريخ في أعناقنا "لا تعار ولا تباع" والعمود الفقري للدولة والوطن.
فتحية إلى أرواح شهداء الزويرات الطاهرة، والمجد والخلود لذكراهم العطرة الخالدة.

(*) مقال سابق للمحامي والأستاذ الكبير محمدن ولد إشدو نعيد نشره فى ذكري تأميم ميفرما.