موريتانيا تشهد جدلا حول تنقية المراجع الفقهية والتخلص من «ميتها»

ثلاثاء, 10/20/2020 - 01:46

يشتعل في موريتانيا لليوم الثالث جدل معرفي وفقهي بين مفكرين إصلاحيين يدعون لمراجعة الفقه وصناعَة الفتوى لتواكب تجدُّد أفهام النَّاس ومعاملاتهم، وفقهاء أصوليين رافضين لأي مساس بالمدونة الفقهية المالكية المعمول بها في موريتانيا منذ قرون والقائمة بالأساس على كتاب المختصر للفقيه المصري المشهور خليل بن إسحاق، وهو من علماء القرن الثامن الهجري.

واندلعت نيران هذا الجدل خلال ورشة تفكيرية نظمها حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم يوم الجمعة حول الوحدة الوطنية والقضاء على كافة آثار الاسترقاق قبل أن تنقل لوسائل التواصل الاجتماعي حيث تشعبت ودخلها غير المختصين وعموم المدونين.
وتدخل خلال الورشة المذكورة النائب خليل النحوي، وهو مفكر إصلاحي وعالم موريتاني مجدد يتولى رئاسة مجلس اللسان العربي في موريتانيا، حيث أكد «أن الموروث الإسلامي الموريتاني في حاجة إلى غربلة وإلى تصحيح الثقافة الدينية والعناية بالمدرسة والقضاء على ما سماه «الفقه الميت».
وسبق للخلِـيل النحوِي أن أكد في كتابه «المنَـارَة والربَـاط» أثناء تناوله لتاريخ المدارس الفقهية الموريتانية «أن مختصَـر (خليل بن إسحاق) دخل في الحيَـاةِ البوميَـة للنَّـاسِ منْ أوْسَـع الأَبوَاب، حتى استعملتْ مصطلَحاتهُ استعمَـالَ مفردَاتِ العاميَة، وجرى النَّـاسُ علَى التَّـخاطبِ بها خارِج حلقاتِ الفقْـه، وعبروا بهِ عمَّـا يختَلِـج في صدُورِهم، واتخذُوا منهَـا أمثالاً ورموزاً وإشارات».
وأكد عبد الرحمن النحوي، في رد على موجة التعليقات التي تلت مداخلات الورشة، أن «الناسَ تحدثُ لهم أقضيَة بقدْر ما أحدثوا، وأنَّ الشَّيخ خليل (الفقيه المصري) علَى فضله وعظَمة شأْنِـه، لم يستوعِب أزمانَ النَّاس ومعاملاتهم، ولو تركَتْ النهضَة البشريَة دونَ مواقف فقهيَة مستوحاة من صلبِ الشريعَة ومقاصدِها الشاملة لظلَّ الناسُ تائهينَ بلا أحكام، ورجعتِ المعاملاتُ البشريَة سيبَة، ولجمدَ في أذهان الناس منبعُ القياسِ الذِي لا ينضب».
وقال: «الشَّيخ الخليل النحوي لم يطلب محو المختصَر وتقديم مختصر جديد، ولم يطلبْ حذفَ آياتِ الرِّق كما أشارَ إلى ذلِك بعضُ الإخوَة، بلْ ظلَّ معظماً للشيخِ خليل محباً له، لكنَّه رأى أنَّ العالَم يحتاجُ إلى الانشغال بفتاويه المعاصرَة وعدمِ الجمودِ على أحكامِ الرقِّ التِي لم يعد لها من حضورٍ في الواقِع، وهذا أمرٌ لا يراهُ الشيخ الخليل بمفرده».ودافع الدكتور والوزير السابق البكاي ولد عبد المالك في مشاركة له في هذا الجدل عن الدعوة التجديدية الذي دعا لها الشيخ الخليل النحوي، وقال: «العالم الجليل والأديب النحرير الخليل النحوي إنما نحا في ذلك القول منحى كبار المفكرين والمصلحين في العالم الإسلامي المتحررين من أسر الجمود والتحجر مثل مالك بن نبي ولو كان لدينا علماء وفقهاء في جرأة العالم الجليل الخليل النحوي في نفاذ البصيرة والقدرة على المجاهرة بالحق دون أن تأخذه في ذلك لومة لائم لا زالت آخر معاقل العبودية وآثارها والتي تتمثل في المظلة الأيديولوجية التي يوفرها أغلب الفقهاء بالمصانعة والمداهنة للحكام والسكوت على الممارسات الخاطئة وآثارها الهدامة على وحدة المجتمع وانسجامه».
ورد الدكتور محفوظ محمد الأمين وهو متمسك بالمدونة الفقهية المالكية، قائلاً: «لا أعتقد أن مراجعة المناهج الفقهية التقليدية تتوفر شروطها وأهمها وجود مرجعية فكرية معروفة بخدمتها للعلم تكون محل توافق من سائر الاتجاهات الفكرية مشهود لها بالدين والاستقامة، ومتسعة مداركها في مجالات المعرفة كلها، لتتولى بمجهود ذاتي هذه المراجعة ثم بعد ذلك تتبناها الدولة وتطبقها».
وكتب المفكر الإسلامي محمد جميل منصور: «لا أفهم كيف يكون التحسس من بعض المباحث الفقهية التي لم يعد يترتب عليها شيء، مثل التحسس من قرآن وسنة وردت فيهما أحكام تتعلق بالرق! كلها تدور بين المعاملة للتكيف، والتجفيف للإنهاء، ولا أفهم أن الداعي لغربلة الفقه، وقد أقررتم جميعاً أنه ليس وحياً، مثل الداعي لإلغاء نصوص من وحي الله العابر لحدود الزمان والمكان، عليكم بالعدل في الحكم والإنصاف في الوصف، فالمبالغة تشين، والتحامل يضر بصاحبه أكثر من هدفه، والوسطية الصحيحة تقتضي الوقوف عند الأصول والاعتزاز بالفروع، وعدم الخلط بين حدود الإلزام وحدود الاسترشاد».
وتدخل الشيخ محفوظ إبراهيم فال، وهو من علماء التيار الإسلامي، وعلق قائلاً: «لم يزل المصلحون يدعون إلى تجديد الدين والمفسدون يدعون إلى تحييده والمتعصبون يدعون إلى تجميده، والمتهيبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء يجبنون عما به يقتنعون».أما الدكتور أبو العباس أبرهام، وهو مفكر معاصر، فقد علق في معمعان المعركة قائلاً: «المحظرة الموريتانيّة (المدرسة التقليدية) كانت دوماً عمليّة في اختياراتها ومُقرّراتها، ففي القرون الماضيّة، عندما كان الحجّ عملةً صعبة، لم تكن تُدرِّسُ أحكام الحَج، وكان الحجيج الشنقيطي يتعلّم الحجّ بفعله لا بحِفظه، والمحظَرة لم تكن تُدرِّس الجِهاد ليس فقط لأنّ الجهاد لم يكن مُقعّداً بل لأنّ الزوايا كانوا يفهمون وضعيتَهم السياسيّة المقلومة، وكانت المحظرة تُدرِّس أحكام الاستعباد لأنّها كانت توجَد في مجتمع استعبادي. اليوم أُلغِيَ التعبيد فوجَب إعادة فرز المُقرّر الدِّيني».
وقال: «عملياً لم يعد «مختصَر خليل» كتاب موريتانيا المُقدّس، ولم يعُد راهِناً قانونياً، ولم يعد أساساً حتّى في رأس المال المعرِفي الدِّيني، التي استحوذت عليه التقاليد الخطابية المشرقية الحديثة، ولكنّه ما زال حِصناً رمزياً قوياً، وأغلَب من يجعله مُقدّساً يخرقُه يومياً، والأسوأ من ذلك أنّه لا يدري بخرقِه معرِفياً لو حصَل ذلك أمامه، فالحاصل أن هذه المعركة معركة سياسيّة بين إصلاحيين وأصوليين، لا معركة معرفية».ويأتي هذا الجدل تالياً لجدل آخر سبق أن أثير حول اشتمال كتب المذهب المالكي على مضامين استرقاقية.
وقد قام الناشط الحقوقي الموريتاني بيرام ولد الداه ولد أعبيدي، يوم 27 نيسان/ إبريل من العام 2012بحرق أمهات كتب الفقه المالكي المعتمدة في موريتانيا.
ومن المراجع الدينية والفقهية التي تعرضت للحرق على يد الناشط المذكور «المدونة الكبرى» لإمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس الأصبحي، وشروح الشيخ خليل وابن عاشر والأخضري.

عبد الله مولود

نواكشوط ـ «القدس العربي»