طوفان الأقصى: عمق المعاني وبلاغة الدروس

أحد, 01/14/2024 - 11:19

تفرض ملحمة طوفان الأقصى على من يمعن التفكير فيها أن يستخلص منها دروسا بليغة لم تُسجَل في سابق الصولات على مدى الصراع العربي الصهيوني؛ دروس تجسدها معطيات شاخصة للعيان بقوة وجودها الحقيقي لا بوجود لفظي انشائي؛ وأول هذه المعطيات التي ثبتت وترسخت جراء هذه الملحمة هو سقوط معادلة الجيش الذي لا يُقهر والكيان الذي لا يُدحر؛ إذ بهبة باسلة خاطفة انهارت أفواج وألوية وقواعد مترسنة بأفتك وأحدث الأسلحة ولتُسحب عساكر الصهيونية من ياقاتهم وليُنزلوا من أبراج دباباتهم وليُخرجوا من متاريس قلاعهم وليُسحلوا مهانين مذلين؛ لوحة رسمت تفاصيلها أزاميل الثائرين لتخلد في ذاكرة التاريخ ولتمرغ عنجهية الكيان الغاصب في وحل عنصريته الغاشمة.
وثاني تلك الدروس يجسده شعار وحدة جبهات المقاومة فعليا على الرغم من محاولات المتخرصين المغرضين التعكز على موضوع سرية التوقيت والتنفيذ الذي عملت على وفقه المقاومة في غزة، من أجل النيل من هذا الشعار المبدئي، متجاهلين بصلافة تحققه. وفي هذا دليل على وحدة جبهات المقاومة لا في المبادئ والأهداف الاستراتيجية، بل في الأمور التكتيكية والمناورة الميدانية. فلقد انهالت في هبة واحدة المسيرات والصواريخ من كل الأنواع وراحت المدفعية من لبنان وسوريا والعراق واليمن تدك رؤوس الصهاينة البغاة، متضافرة في وقت واحد وفي اتجاه واحد مع مسيرات وصواريخ وبنادق غزة الباسلة في تطبيق رائع لمبدأ وحدة الجبهات لا تقلل من روعته سرية ساعة الصفر التي تم التكتم عليها داخل الجيش الواحد والوحدة العسكرية الواحدة كي لا تكشف مجموعة معينة ما كُلفت به من مهمات إلى مجموعة أخرى.
وثالث الدروس هو بطلان مزاعم الصهاينة في وسم كل من يقاومهم بالإرهاب، فبعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) ما عادت تلك المزاعم تنطلي على أحد. ولطالما تبجح الصهاينة قبل عملية الطوفان بالإرهاب ذريعةً، نالوا بها من المجتمع الدولي تأييدا ومساندة. ولكن اتضح هذا الزيف اليوم بشكل أكثر من ذي قبل، وصار ذاك الكيان لا يقوى على الاستمرار بتلك الصورة التي كان بالأمس يتظاهر بها أمام العالم.
ودرس آخر جديد وجب على المعتدين أن يتجرعوا مرارته، هو فشل اللوبي الصهيوني في الهيمنة على الرأي العام الغربي وكسب ودِّه عبر التعكز على العداء للسامية والمحرقة النازية، مما كان معتادا قبل الطوفان ولكن بعده انقلب السحر على الساحر، وحتى سكنة البيت الأبيض الذين أيدوا عدوان إسرائيل وخرقها للقوانين الإنسانية الدولية طمعا في استثمار مجهود اللوبي الصهيوني في تعزيز فرصهم الانتخابية، أدركوا أن الرياح لا تجري كما يشتهون.
ودرس آخر ممض للصهاينة يتمثل في الرأي العام العالمي الذي دان بشكل غير مسبوق وحشية العسكرتارية الصهيونية، ووقف وقفة تاريخية في نصرة غزة، فامتلأت الشوارع الطويلة والساحات الكبيرة في كل مدن العالم وفي كل القارات تحمل أعلام فلسطين وتنادي بشعارات فلسطين. ليس ذلك حسب، بل قطعت دول في أمريكا اللاتينية علاقاتها مع الكيان الصهيوني. وطرأت تغييرات جوهرية على مواقف دول أوروبية مهمة. مما حدا بساسة البيت الأبيض إلى تخفيف غلواء انحيازهم السافر الذي منحوا بموجبه الضوء الأخضر للكيان الصهيوني كي يفعل أي شيء ويقوم بمجازره في غزة.
ومن الدروس أيضا ما انكشف وبجلاء من قصور المنظمات الدولية الحقوقية -كالمحكمة الجنائية الدولية وسواها من المنظمات قريبة الشبه بها- في القيام بالدور المنوط بها في حين كنا نراها -تحت مزاعم شتى- سريعة في القيام بأعمالها عندما يتعلق الأمر بمصالح دول العدوان.
ومن دروس ملحمة الأقصى أنها أعادت إلى الأذهان سيرة المدن التي وقفت بوجه المحتلين بشكل أسطوري، خطته الشعوب الباسلة بدمائها وكسرت عنجهية النازية الهتلرية والنازية الجديدة كما في هانوي وموسكو ولينينغراد وغزة التي أفشلت محاولات الكيان الصهيوني في أن يحدَّ من قوة أهلها أو أن يحمي نفسه من غضبهم، مهما وفّر من وسائل الاحتماء والاختباء؛ فتهاوت تحصيناته التي بذل فيها كل طاقاته وطاقات صانعيها بدءا من الجدار العازل والسواتر الخلفية للمدن وانتهاءً بالقبة الحديدية، إذ تقوضت في غمضة عين وكأنها علب من كارتون.
ولعل أبلغ الدروس المستخلصة من هذه المنازلة الشريفة تتمثل في هذا الصمود الذي تعجز كل طاقات اللغة عن توصيف أبعاده. صمود شعب غزة الذي ما استطاعت كل وسائل الدمار النيل من إبائه، فمن تحت الأنقاض ومن وسط ألسنة الحرائق يرسل إمارات ثباته وقناعته بنصره وحتى جثامين الشهداء الطاهرة تشدو بعدالة قضية فلسطين فلم يظهر جزع أو هلع أو ضعف حتى لدى الأطفال على الرغم مما يتساقط عليهم من أهوال القصف الهمجي الممنهج بهدف الإبادة الجماعية.
ودرس آخر مهم يتمثل في انكشاف ازدواجية معايير الغرب أكثر من أي وقت مضى في التعامل مع القضية الفلسطينية من أجل تمرير المخطط الاستعماري الرامي إلى توسيع الاستيطان الصهيوني في فلسطين. ففي الوقت الذي توصد فيه أوروبا وكندا وغيرهما أبواب اللجوء أمام العرب والمسلمين، فإنها تفتحها بكل رحابة صدر أمام أهل غزة في محاولة لتكرار سيناريو نكبة 1948، فوزير الهجرة الكندي يعلن أن برنامجا للهجرة سيطبق اعتباراً من يناير المقبل يتيح لكل شخص يغادر قطاع غزة الإقامة في كندا، ورئيس الوزراء الاسكتلندي يؤكد أن اسكتلندا مستعدة لتوفير اللجوء للاجئين من قطاع غزة، وتزويد الذين وقعوا تحت وقع القصف والتجويع بالمساعدات الطبية اللازمة والأمن والمأوى عبر ما سماه (خطة إعادة توطين اللاجئين لسكان غزة) وتفتح أستراليا باب الهجرة لفلسطيني لبنان، وتستعد مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لاستقبال طلبات الفلسطينيين، وتكثف ألمانيا نشاطاتها في التعامل مع ملف اللجوء في ضوء ما تسميه «التهجير القسري» لسكان قطاع غزة. بيد أن هذه المواقف تمثل الحكومات، ولا تمثل مواقف شعوبها التي -على اختلاف فئاتها- رفضت العدوان وشجبته ووقفت موقفا إنسانيا مع صمود أهل غزة.
وهناك دروس أخرى رائعة كشفت عنها ملحمة طوفان الأقصى، والأولى بالإفادة من هذه الدروس هم المجرمون الصهاينة ومعهم أولئك العرب المطبِعون والمركَعون، كي يعيدوا حساباتهم وليضعوا في حسبانهم أنّ حقوق الشعب الفلسطيني لا يمكن هضمها، فالشعوب لا تموت وستبقى حكمة أبي القاسم الشابي خالدة (إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر) وليظل صداها هادرا في كل ساحات النضال.
*كاتبة من العراق

 

د. نادية هناوي