“النمادي”.. الكلب والطريدة والنساء.. أسرارهم وآثارهم على رمل الصحراء

سبت, 02/24/2018 - 23:59

 الصحراء الموريتانية- من الشيخ بكاي-  تحت سماء بلون الرمل تمتد الصحراء ديمومة أمام ناظريك لوحة شاسعة تمنحها الأعشاب الصغيرة والشجيرات “الحليقة” رونقاً وحزناً مردهما تداخل الأخضر اللوزي بالرمادي الفضي بالأصفر الباهت.

ويقول دليل بعثة “الوسط” في رحلة الـ 3000 كيلومتر بحثاً عن صيادي “النمادى”: “أخشى أن نبيت ضيوفاً على أشباح الصحراء إذا لم نتوقف قبل الليل في مكان مأهول”. ويضيف ونحن نعوم في بحر الصحراء بعيداً عن الطريق الرملي الذي يربط بين مدينتي “النعمة” و”ولاته” في أقصى الشرق الموريتاني: “من الصعب أن نلتقي “النمادى” في هذه المنطقة فهم أناس كثيرو التنقل يرومون الأماكن المعزولة”.

و”النمادى” مجموعتان احتفظت إحداهما بهذا الاسم بينما يطلق على الأخرى “الرويصات”.

كتب “التيه” في الصحراء على “النمادى” منذ مئات السنين. وهم في سفرهم الدائم يتتبعون آثار الظباء والغزلان بكلابهم ، ويحملون أغراضهم البسيطة وأسرارهم وعاداتهم الغريبة في رحلتهم الأبدية داخل النطاق الصحراوي في خمس ولايات موريتانية هي “آدرار” في الشمال، “تكانت” في الوسط،، “العصابة” في الجنوب الشرقي، و”الحوضين” الشرقي والغربي في شرق البلاد. ويعيش بعضهم منذ فترة في أطراف مدن وقرى ريفية.

:“ادوي كلاب“

يحتقن وجه الشمس وتحمر عيونها إيذانا برحيل يوم ساخن وسط صفير الريح وأزيز محرك مجهد يصارع كثبان الرمل “الاخرس”.. وتمر الساعات متثاقلة بطيئة، وفجأة يصيح الدليل: “أرى نارا” وهو يقفز من مقعده جذلاً… وتختفي النار، تظهر، ثم تختفي وتظهر من جديد ونحن نعلو كثيباً أجرد يفضي إلى سهل واسع تكسوه الحشائش والأشجار.

أهلا بالضيوف” يقول رئيس الخيمة. وينطلق في السلام البدوي الطويل في شكل منغم رتيب:”إياك الخير… إياك النعمة… إياك اسلامه… إياك الخير “.. ويهمس في أذن زوجته في شكل مسموع بعد أن يجلسنا في صدر خيمته الصغيرة: “قومي… اثنان يجب الإحسان إليهما: ضيف الظلام وضيف القيلولة”.

يجمع صبية كومة حطب. ويبدأ الشواء وتدار كؤوس الشاي فيما “يطربنا” ثغاء حملان مربوطة في الجوار وهدير جمل أبيض “ماجن” يغازل “بنات” القطيع.

ويضحك مضيفنا حين نسأل عن أحياء “النمادى” ويقول: “ليست لهم أحياء. هم جماعات تطارد الوحوش في الصحارى”. ويسأل بدوره: “لماذا الاهتمام بهم؟”. ثم يجيب نفسه: “لعلكم تريدون لحم الغزال”. ويحذر الشيخ الوقور: “لا تشتروا إلا لحم غزال رأيتموه قبل أن يسلخ فهم يبيعون لحم الخنزير البري على أنه لحم الغزال المجفف”. وتشارك الزوجة في الحديث: “هل هم أدوي كلاب” (بسكون الدال) الذين نسمع عنهم ويقال إن رجالهم كلاب؟”.

وتسرد المرأة قصة الضيف الذي “جاء الى حي رجاله كلاب شاهدها تأتي بالحطب والذبائح لإكرامه”. والقصة خيالية من دون شك، لكنها تترجم جانباً من تصور المجتمع لصيادي “النمادي” الذين يضربون على أنفسهم طوقاً من العزلة. وهي ذات صلة بالواقع لأنها تحيل إلى الفترات التي يخرج فيها الرجال للصيد ويتركون النساء وبعض الكلاب. وكلاب هذه الجماعات مدربة على الكثير من الخدمات إضافة إلى الصيد. وكلمة “أدوي كلاب” هي على ما يبدو تحريف لـ “ذوي كلاب”.

أبناء “سيد الكلاب:

نغادر خيمة البدو مع خيوط الفجر الأولى على وقع إرزام إبل الحي وهدير جمل يحاكي أنغاماً آتية من بعيد تصدر عن طبل “تناجيه” جواري أمراء البادية في مواسم الأفراح والحروب..

وتبتلعنا الصحراء إلى حيث لا نرى إلا خطوطاً عابرة رسمتها حيوانات متوحشة أو أفاع على صفحة الرمل ليلاً قبل أن تمحو رياح الصبح أسرار الليل….. نحن هنا في مملكة “النمادى” التي يعرفونها عن ظهر قلب كثيباً ونقطة ماء كما يعرفون أشجارها وأعشابها “الطبية”… فلا يطأ أرضها إلا رعاة الإبل والغزلان والأشباح.

وتاريخ “النمادى” مزيج من الأساطير والحقائق .. يقول بعض المؤرخين انهم كناريون، ويرى آخرون انهم من قبائل “الفلان” الافريقية التي توقفت في مدينتي “ولاته” و”تيشيت” الموريتانيتين خمسة قرون خلال إحدى الهجرات. ويروي “النمادى” هذا التاريخ بطريقتهم الخاصة. ويقول صيادو الجنوب الشرقي والوسط انهم ينتسبون الى محارب من قبيلة “شراتيت” (واحدة من أهم القبائل الموريتانية) يطلق عليه احمد ولد اياد. ويقولون انه بعد خوض حروب عدة “تعب من شرور الإنسان” وآثر العزلة في الصحراء مقسماً وقته بين التأمل والصيد. وعندما شعر بالوحدة عاد إلى قبيلته ليتخذ زوجة. وقد صحبه رجال من القبيلة إلى الصحراء.

أما “نمادى” المناطق المحيطة بمدينة “ولاته” في الشرق فيقولون ان جدهم أمير “جاء من الشرق” ترافقه مجموعة من الكلاب القوية المدربة. واسم هذا الامير هو “نمادى” أي “سيد الكلاب” بلغة “الآزير” الافريقية القديمة. لكن البعض يرى ان “سيد الكلاب” لم يكن إلا راعياً استأجرته إحدى قوافل الملح فتاه في الصحراء وهو يبحث عن جمل مع كلبته. وعثر عليه بعد فترة وقد اصطاد الكثير من الغزلان وملأ جلودها باللحم المجفف الذي جاء به إلى “ولاته”وباعه ثم نظم عصابة عاد بها الى الصحراء.

والرواية الأقرب إلى الحقيقة هي – ربما- أن “النمادى” أفراد جمعتهم المهنة لا الأصول، وهم عرب هجروا قبائلهم الموريتانية لأسباب مختلفة منها الغضب والجريمة والرغبة في العزلة وحب الصيد.

بيوتهم من شجر ومصيبتهم… “قطر”:

فيما يواصل السائق مناوراته الماهرة وحديثه الصامت مع مقود سيارة “تطير” في نزق من تل الى سهل، الى… كثيب، يقول الدليل: “لم يعد النمادى كما كانوا. لقد تغيرت أحوالهم. فهناك فئة لجأت إلى أطراف المدن النائية لتعيش حياة فقر تجمع بين الاستقرار والبداوة. والفئة الثانية توقفت عن ممارسة الصيد وأصبحت تجري خلف أحياء البدو المتنقلة للحصول على قطرات حليب، ومنهم من أصبح يملك شياه غنم”. وهناك فئة ثالثة، يقول الدليل: “تمارس صيد الغزلان التي أصبحت نادرة وتحافظ جزئياً على نمط الحياة القديم مع الانفتاح قليلاً على العالم الخارجي”. أما الفئة الرابعة “فهي الأغرب والأكثر عزلة وتمسكاً بأدق الأمور في التقاليد القديمة وهي المعروفة بالرويصات”. ويضيف: ” ستقطعون ضعف المسافة في العودة للبحث عن هذه الفئة”.

ويقطع حديث دليلنا المطلع الثرثار نباحُ كلاب ضارية انقضت على سيارتنا وقد أحاطت بها أخبية “النمادى”.

و”النمداوي” أو “النمداي” باللهجة المحلية في العادة صغير مفتول العضلات اكتسب قوته البدنية من تنقله الدائم في الصحراء، فهو يقطع آلاف الكيلومترات متتبعاً وحوش الصحراء.

نمداوية وكلبها

يحمل رجال “النمادى” في رحيلهم الدائم صرر المتاع التي هي في الغالب أكياس من الجلد وبعض الأواني الخفيفة المصنوعة من سيقان الأشجار، فيما تحمل النساء الأطفال وصغار الكلاب وما خف من المتاع، وقد يكون لهم حمير أو يكترون جمالاً في مواسم الصيد بأسعار مرتفعة تصل الى نصف حمولة الجمل من القديد (اللحم المجفف).

ويستريح “النمادى” تحت الأشجار أو في حماية صخرة أو تحت عرائش صغيرة من أعواد الشجر والحشائش الميتة أو في دفيء خرق من القماش منصوبة على أعمدة خشبية.

ينهر أحد رجال الحي كلبة صفراء يتطاير الشرر من عينيها لتتوقف عن “الترحيب” بـ “ضيوف القيلولة” ويدعونا الى خيمته: “مرحبه بِكو امنين جيتو؟ ” (مرحبا بكم من أين جئتم؟)”.

ويتحدث “النمادى” لهجة عربية فقيرة متخلفة مقارنة بالعربية المحكية في موريتانيا. وهم – بخلاف سائر الموريتانيين – لا ينطقون الميم في كلمات مثل “جئتم، بكم، “لكم”…

داخل الخباء تحمل امرأة كأسين وابريقاً يعلوه الصدأ وتبدأ ادارة الشاي… ويسأل رب البيت صدّافه: “هل جئتم للصيد؟”. ونسأله: “هل هناك ما يصطاد هذه الأيام؟” فيقول: “لم يعد الحال على حاله… كنا نصطاد المهاة والظبية ولم يكن يهمنا الغزال الصغير، أما الآن فلم يعد العثور على ظبي أو مهاة أمراً سهلاً فهذا النوع في شبه انقراض ولم يبق الا الغزلان الصغيرة وهي نادرة أيضاً”. ويضيف: “نحن لم نكن نفسد… كنا نحجم عن اصطياد الحوامل وكنا نترفق بالمواليد أما الصيادون الجدد فهم يقتلون كل ما تصل اليه بنادقهم وسياراتهم”. ويقول “مصيبتنا أهل قطر الذين يأتون لمحو ما بقي في هذه الأرض من غزلان” و”أهل قطر” عند صدافه هم كل العرب الخليجيين الذين يأتون بين حين وآخر لصيد الغزال والحبارى.

:“كلبي أفضل من سيارتك“

“النمداوي” فقير وثروته كلابه لأنه يحصل على طعامه بواسطة هذه الكلاب نصف المتوحشة التي لا أصول معروفة لها، والتي يصعب تصنيف قامتها ولونها إلا أنها قوية ومدربة تدريباً جيداً ويطلقون عليها نعوتا محلية مثل: “السلوقي” (بقاف يمنية) أي السريع في مطاردة الهدف، و”راص المراس” وهو أفضلها إطلاقا.

ويقول صدّافه ان “الرجل الغني هو من يملك ما بين 4 إلى 5 كلاب” لكن هذا العدد يصل إلى 30 وأكثر لدى جماعة “الرويصات”.

وتشكل الكلاب سلعة رائجة في السوق لدى هذه المجموعة المتنقلة باستمرار في المنطقة الممتدة من “غوراي” في الجنوب الغربي مروراً بأطراف ولاية “العصابه” وحتى “الطويل” في الحوض الشرقي.

ويدخل “الرويصات” – خصوصا – أراضي موريتانيا تارة وأراضي مالي المجاورة طوراً ويتاجرون بالكلاب في عمليات مقايضة كبيرة”.

وتتلقى الكلاب تدريباً شاقاً إلى أن تتقن شم الأثر وعيونها معصوبة. ومن طرق تدريب الكلب تجويعه، فإذا اشترى أحدهم كلباً جديداً ضيق عليه الخناق حتى يشرف على الهلاك. وهذه الممارسة كما يزعمون تجعل الكلب يحب مالكه ويجري خلفه أينما سار. ولكي يكون ذَكَر الكلاب قوياً وسريعاً يعمدون إلى إخصائه.

ومكانة الكلب لدى “النمادى” من الأمور التي يختصون بها دون سواهم من الموريتانيين. فالكلب لدى الموريتاني “نجس”. ويجب غسل الإناء واليد بعد ملامسته “سبع مرات لكي تطهر”. و”لا يدخل الملائكة أي بيت يوجد فيه كلب”.. وفي المدينة يعتبر من أتى بكلب حراسة إلى داره إنسانا “بخيلاً لا يريد أن يأتيه الضيوف أو الأقارب” وهو “شخص منحرف يقلد الأوروبيين”.

يقول صدافه مباهياً: “كلبي هذا أفضل من سيارتك ولو دفعتها ثمناً له لما قبلت”. ويصف لـ “الوسط” عمليات الصيد فيقول: “نحمل زادنا من الماء لمدة شهر أو اثنين في جلود الظباء على جمال نكتريها ونترك النساء مع الكلاب التي لا تذهب في “القيماره” (الصيد) هذه المرة”.

ويواصل الشرح: “تتبع الكلاب آثار “الوحش” (يطلق على الطريدة: غزلان ظباء، مها…) بواسطة الشم”. ويضيف: “ليس للظباء بصر حاد لكنها حساسة ما يجعلنا نأتيها من الجهة المعاكسة للريح، وعندما نكون على مسافة معينة من الطرائد نطلق الكلاب فيمسك بعضها بالأنف ويمسك البعض الآخر بالقوائم إلى أن نصل.. وحين ترى الكلاب الدم سائلا تتأكد من أننا ذبحنا الطرائد فتنطلق الى صيد آخر”.

ويضيف: “بعد الانتهاء من العملية نشعل النار بسرعة لنأكل ونستريح، ونبدأ بتشريح اللحم لتجفيفه تحت الشمس”.

وتسأله “الوسط”: “ماذا تفعلون بالحصيلة؟” فيرد: “نترك البعض للاستهلاك وندفع أجور الجمال (النصف) ونبيع الباقي لنشتري بثمنه ما نريد.

ويقارن صدافه بين البندقية والكلب: “لحظة يستعد صاحب البندقية للتصويب يكون الكلب بدأ يرقص في أنف “الوحشية”، وحين يناور الصياد نكون نحن ذبحنا ظبيين، وعندما يطلق الرصاصة نذبح الثالث، أي انه كلما اصطاد ظبياً تصطاد كلابنا ثلاثة”.

مهورهن كلاب:

تتجول كاميرا “الوسط” في الحي لتلتقط صوراً فتصادف متاعب: هذا ينهر، وذاك يحذر، وتلك تشيح بوجهها. وتشتبك “الكاميرا” مع فتاة ويستخدم حاملها (الكاميرا) أساليب منها الاستدراج والتلطيف و… “حيلا أخرى” أقنعت أمها بأنه “رجل مظبوط” (طيب). وتعود الكاميرا بصورة شبه “مسروقة”.

وتسأل “الوسط” صدّافه: “هل يمكن الحصول على عروس هنا؟”. يضحك فتبادره : “كم كلباً دفعت حينما تزوجت المومنة؟” فيرد: “الكلاب… آ…” فتقاطعه هي: “مهري لم يدفع من الكلاب فقد كان قماشا” .

كان الكلب مهرا لها

 

وتراجع دور الكلب في المهور والتجارة في الفترات الأخيرة لدى “نمادى” الشرق والوسط، لكنه لدى مجموعة الجنوب الشرقي المعروفة بـ “الرويصات” ما زال يلعب دوراً أساسيا.

ومهر “النمداوية” هو كلب وكلبة وقربة من اللحم المجفف وحبال من جلد المهاة. والعلاقة بين الرجل والمرأة “سهلة” في شكل عام. ولا يخضع الزواج لدى مجموعة “الرويصات” – خصوصا- للقواعد الدينية تماماً فالجماعة غارقة في بحر من الجهل..

وقال مسؤول إداري في المنطقة لـ “الوسط” ان هناك “جهلاً تاماً بالأمور الدينية” مشيراً إلى أنه لمس من خلال متابعة شؤون الجماعة ما يشبه “عدم وجود الطلاق أو ضرورته فالمرأة التي تختلف مع زوجها “تتزوج غيره من دون أن تطلّق شرعا”.

ولا تتزوج بنات “النمادى” بفرعيهما من الأغراب. والفتاة “النمداوية” الرقيقة” جسدياً (النحيفة) والمشهورة بالجمال والحيوية، ظلت دائما محط أنظار الأغراب.

ويذكر التاريخ ان أمير قبيلة “إدوعيش” وهي قبيلة ذات شوكة وبأس بكار ولد سويد أحمد بذل جهوداً مضنية وأموالاً طائلة من أجل الزواج بنمداوية.

وتذكر الروايات ان أميراً اختطف “نمداوية” فائقة الجمال وأسبغ عليها من التكريم والمال ما لا تحلم به امرأة” إلا أنها ظلت تبكي الى أن جاء زوجها “النمداوي” العجوز الذي يلبس مرقعات من جلد الغزال ويحمل في يديه حذائين من جلد المهاة ويجر وراءه كلباً فابتسمت واعتدلت في جلستها، فقال الامير: “عليك اللعنة تبكين مني وتضحكين لهذا القميء؟”. وردت الفتاة: “رغم قوتك وثروتك أحبه أكثر منك، وكلب واحد من كلابه أفضل من كل جيادك”. عندها قال الأمير: “اذهبي معه”. فانطلقت تجري قائلة: “ولد عمي بنعايلو ولا عربي باحمايلو” (ابن عمي ولو لم يملك الا حذاءه ولا عربياً بأحمال جماله). وهذه المقولة أصبحت من الأمثال السائرة في موريتانيا.

رحلة الشتاء والصيف:

كانت المعلومات التي حصلنا عليها في رحلة البحث عن “الرويصات” غير مطمئنة وتشير في معظمها إلى أنهم الآن بدأوا التوجه الى أراضي مالي.

هذه الجماعة تنتقل على الحمير أو سيراً على الأقدام في فصل الخريف داخل المناطق الجنوبية الشرقية لصيد الغزلان وكل ما تصل اليه كلابها، وفي نهاية الخريف وأول الشتاء تتوغل شمالاً لاصطياد الخنازير البرية، وفي نهاية الشتاء وأول الصيف تعود جنوباً حتى أراضي مالي لبيع لحم الخنزير البري المجفف الذي أضر بسمعتها “التجارية” في موريتانيا وحرمها من بيع أي لحم ولو كان لحم الغزال.

ويتعرض هؤلاء الصيادون دائما للمصادرة من طرف حرس الحدود الماليين.

يستقر الرأي في بعثة “الوسط” على الاستمرار في البحث والاستعانة بالبدو لتحديد المكان الذي يمكن التقاء “الرويصات” فيه. وهم هنا لا يعرفون باسم “النمادي”.

“إنهم فعلاً بدأوا رحلة الصيف و”يمكن العثور على بعضهم في المنطقة المحاذية للحدود” يقول أحد الرعاة.

وننطلق في سرعة لا تسمح بها طبيعة الأرض التي هي إما أودية عميقة أو ممرات صخرية ضيقة أو كثبان رملية. وتبقى كلمات: “لا… لا أعرف… من هم؟” أكثر الردود التي نحصل عليها. ونقرر العودة خشية نفاد رصيدنا من البنزين.

ونسأل ونحن نعود رعاة إبل على الطريق فيقول احدهم: “أنظر… أترى من يركبون على الحمير هناك؟” ونسأل في لهفة: أين؟ فيرد: “هناك… أنظر…”.

ويطرح “النمادى” عموماً مشاكل حاول الرئيس الموريتاني السابق المختار ولد داداه التصدي لها من خلال تحويلهم الى بدو عاديين. ورصد أموالاً لهذا الغرض استخدمت في شراء أبقار لهم. وحصلت أسر عدة على “سبع بقرات للأسرة.. لكن هذه الأبقار اندثرت بسرعة”   كما يقول مرزوك ولد بكار لأن “النمداي” لا يتقن الا مهنة واحدة هي الصيد، ولا يرغب الا فيها، ولأن البقر مخلوقات ضعيفة أمام الجفاف ولا تصلح للصحراء”.

ويثني مرزوك على الرئيس السابق الذي “كان يرسل المساعدات الغذائية في أعوام الجفاف”. ومرزوك رب واحدة من خمسين أسرة “نمداوية” أرغمتها الظروف على التجمع في أطراف مدينة “ولاته”. ويشتكي الرجل الذي يقيم مع أسرته وأولاده في كوخ بائس: “هؤلاء الرؤساء الجدد لا يقدمون لنا شيئاً” ويضيف: “قيل لنا لن تجدوا شيئاً قبل أن تستقروا وها نحن فعلنا ولم يتغير الحال”.

ويعمل مرزوك أحياناً في مشاريع عمومية لحفر الآبار ويخرج للصيد نادراً وقال حميمد لـ “الوسط”: “يستغلوننا هنا أبشع استغلال”. وهو مثل غيره من نمادى” ولاته يبحث بأي طريقة عن مصدر للحياة. ويشرح: “انظر إلى غابة الأشجار هذه، لقد غرسها “النمادى” على أمل الحصول على تعويضات، لكنهم كذبوا علينا”.

ويشتغل “نمادى” ولاته في اطار مشروع “الغذاء في مقابل العمل” الذي تقدم بموجبه الحكومة مساعدات غذائية غير مجانية للفقراء. وهو يتركز على إقامة أحزمة من الأشجار حول المدن المهددة بزحف الرمال وكذلك في المشروعات الزراعية الصغيرة.

وتطرح مجموعة “الرويصات” مشاكل من نوع آخر فهي ترفض أي شكل من أشكال الاستقرار. وقال مسؤول  إداري في المنطقة طلب من “الوسط” عدم ذكر اسمه: “عقدت سلسلة اجتماعات مع هؤلاء حينما كانوا يمرون بالمنطقة وطلبت منهم ان يستقروا، ووعدت ببئر ومدرسة ومستوصف، لكن حديثي نزل عليهم كالصاعقة”.

ونلحق بقافلة الحمير… رجل أو اثنان والباقي نساء.. ونسأل “أين الرجال؟” فترد امرأة: “لماذا؟” ونلتقط صوراً وسط الاحتجاج الذي ينتهي أخيراً بالقبول على مضض ونتجاوز بحثا عن الأهم. وعلى مد النظر يتراءى ما يشبه قطيع الغنم ..”لا انها ليست غنماً… انها.. كلاب!” يقول السائق.

نحو عشرين أو ثلاثين كلباً مربوطة بعضها ببعض يتقدمها رجل يحمل على ظهره بندقية..!

تجرّد” الكاميرا” من غمدها ونلقي السلام فيرد بايماءة من رأسه ويواصل الهرولة ثم يتوقف فجأة: “ماذا تفعل؟” وأرد: “سألتقط صورة”…

يتحسس الرجل بندقيته ويقول: “ان فعلت كنت طعاماً لهذه الكلاب”. وفي لحظة تتجه الضواري إلينا وهي تطلق نباحاً يدفعك الى شفير الجنون

و”الرويصات” دون سائر “النمادى” عدوانيون منغلقون يرفضون الحديث إلى الأغراب أو الاختلاط بهم وهم يتكتمون على أسرارهم.

وقال مسؤول خدم في مقاطعات متعددة في المنطقة إن كلاب “الرويصات” تطرح  مشاكل أمنية وصحية فهي “تعتدي على البشر والمواشي وتسرق بعض الممتلكات، وفوق هذا يخشى دائماً من أن تنشر بعض الأوبئة والأمراض”.

تفاصيل النشر:

المصدر: الوسط

الكاتب: الشيخ بكاي

تاريخ النشر(م): 18/3/1996

تاريخ النشر (هـ): 28/10/1416

منشأ: موريتانيا

رقم العدد: 216

الباب/ الصفحة: 44 – 45 – 46 – 47 – 48 – 49 – تحقيق