إشكالية العملة الصعبة في موريتانيا

جمعة, 11/17/2023 - 09:48
المختار باباه - خبير مالي

لقد تابعت ما يتم تداوله من أخبار في بعض الأوساط عن عجز البنك المركزي الموريتاني عن توفير الموارد الأساسية من العملة الصعبة لتغطية عمليات الاستيراد الخاصة.

 

لقد تمكنت من خلال الوظائف التي شغلت في القطاع المصرفي الوطني لفترة تقارب ربع قرن من ان أكون على اتصال ومتابعة يومية لما يجري في البنك المركزي الموريتاني هده المتابعة مكنتي من مواكبة كل ما يتعلق بسياسة الصرف وتوفير العملة الأجنبية من قبل البنك المركزي.

 

ما من شكن في ان بلدا مثل بلدا يعتمد على الاستيراد في تغطية جل احتياجاته الأساسية يحتاج لقدر من العقلانية في تسيير موارده من العملة الصعبة، فقد بلغت فاتورة الاستيراد السنة الماضية مبلغا قدره 178,8 مليار اوقية جديدة فيما بلغت نسبة تغطية الواردات بالصادرات 82,8 بالمائة لنفس الفترة في ذات الوقت يعاني بلدنا من شح الموارد المتاحة من العملة الصعبة فمصادرها جد محدودة (الصناعات الاستخراجية وقطاع الصيد البحري) في ظل هده المعادلة الصعبة يجد البنك المركزي نفسه مضطرا لوضع ضوابط ومحددات لترشيد الموجود من العملة الصعبة.

 

لقد شهد بلدنا في الفترة الممتدة من نهاية التسعينيات القرن الماضي وحتى منتصف العقد الأول من هدا القرن مشاكل حقيقة في توفير العملة الصعبة نجم عنها اضطرابات كبيرة في سلاسل الامداد الخاصة ببعض المواد الغذائية الأساسية والمواد النفطية، ففي ظل عجز نظامنا المصرفي أنداك عن تغطية التزاماته الخارجية اتجاه مراسليه في الخارج اضطرت هده الأخيرة الي التشدد في الشروط الضرورية لفتح الاعتمادات المستندية,

 

في ذات الوقت كانت الموارد الموجودة من العملة الصعبة علي قلتها تقسم في اطار الترضيات السياسية فمن خلال الحصول علي إذن للصرف يمكنك ان تتحول الي مليونير في وقت وجيز، كما اتسمت هده الفترة بغياب الشفافية في حصول المتدخلين الاقتصاديين علي حاجاتهم من العملة الصعبة فقد وصل فرق سعر الصرف بين السعر الرسمي المحدد من قبل البنك المركزي وسعر صرف في السوق الموازية في بعض الأحيان الي حدود 50 بالمائة.

 

في حدود منتصف العقد الماضي انتهج البنك المركزي سياسة جيدة أتسمت بالحزم بدأت من خلال اصدار المقرر رقم 001/2007 المنشأ لسوق الصرف كإطار وحيد لتداول العملة الصعبة بين البنوك والبنك المركزي والفاعلين الاقتصاديين من خلال عمليات البيع والشراء وعند الاقتضاء يتدخل البنك المركزي في هده السوق لتلبية رغبات المتعاملين او في إطار السياسة النقدية وسياسة الصرف المتبعة من قبله شراء او بيعا للعملة الصعبة, أي بعبارة اخري جرعة من الشفافية في تسيير الموارد المتاحة, كما قام بحملة شعواء علي المضاربين في السوق الموازية تمثلت في التضييق عليهم ومتابعتهم قضائيا ومصادرة أي مبالغ كبيرة يعثر عليها بحوزتهم, لقد أدت حزمة الإجراءات هده الي عودة الثقة واستقرار العملة الوطنية وتغطية الواردات في حدها الأدنى كما تراجع الفارق بين سعر الصرف الرسمي و سعر الصرف في السوق الموازية الي اقل من 5 بالمائة.

 

لقد ظل الدور المنوط بسوق الصرف خلال فترة العقدين الماضيين يتأرجح حسب النهج المتبع من محافظ لمحافظ فبعضهم يعطيها اهتماما بالغا ويعتبرها هي الوسيلة الوحيدة والوحيدة فقط امام جميع الفاعلين لتداول العملة الصعبة بيعا وشراء وهو بهذا يسهم في ترشيد الموارد المتاحة ويضعها بالتساوي بين الجميع، وبعضهم يحافظ عليها في حدها الأدنى أي سوق الصرف ويضيف لها عمليات البيع خارجها. وتعتبر عمليات البيع خارج سوق الصرف عمليات تتسم بغياب الشفافية وهدر الموارد وخلال العشرية الماضية كانت المبالغ من العملة الصعبة التي تتداول من خلال هده الالية جد معتبرة.

 

ان قانون الصرف المعتمد في بلدنا يتسم بكثير من المرونة والتساهل إدا ما تمت مقارنته بالقوانين المعمول بها في دول من شبه المنطقة مثل تونس والجزائر رغم وفرة مواردها من العملة الصعبة, الا انها تضع كثير من العراقيل امام الاستيراد للحد منه كما تجبر المصدريين علي توطين عائدات صادراتهم لدي البنوك المحلية, اما في بلدنا فهناك فوضي جد عارمة في الاستيراد مما يستزف الموجود من العملة الصعبة الدي يجب ان تعطي الأولية فيه للمواد ذات الطابع الاستراتيجي وليست لشراء الكماليات وشراء العقارات في الخارج وتكديس الأموال في الحسابات الخارجية, لقد حاول البنك المركزي في الأعوام الفارطة ضبط الاستيراد من خلال وضع الية للتأكد من ان كل التحويلات المصرفية الخارجية سيقابلها سلع او خدمات حقيقية ستقدم للبلد وليس أموال يتم تهريبها للخارج او لشراء عقارات في المدن الاوربية, الا ان غياب التعاون والتلكؤ من الأوساط المالية حال دون تحقيق الهدف المنشود الا وهو وقف استنزاف العملة الصعبة علي الرغم من التقدم المنجز في هدا السياق.

 

زد على ما سبق ان بعض رجال أعمالنا يستورد البضاعة من الخارج من خلال موارد البلد من العملة الصعبة ليقوم بإعادة تصدير هده البضاعة لبعض دول المنطقة أي انه بعبارة اخري يستخدم العملة الصعبة المتوفرة لدي البنك المركزي والبنوك الأولية لسداد ثمن حاجيات دول اخري وهو لا يعلم انه ما في المدينة احوج منا والأدهى والامر ان هده البضاعة التي يتم تصديرها لا يوطن ثمنها لدي البنوك المحلية وفي الغالب يتم سداد ثمنها بالعملة المحلية للبلد المستورد أي ان العملية برمتها غير قابلة للاستمرار بشكلها الحالي.

 

في المقابل نجد ان موارد مهمة من العملة الصعبة لا تدخل الي البنك المركزي ولا حتى البنوك الأولية فمثلا تحويلات الموريتانيين في الخارج التي تعد بعشرات ملايين الدولار سنويا في غالبها تتم عبر السوق الموازية هده التحويلات شهدت زيادة مضطردة خلال الآونة الأخيرة، صادرات المواشي التي تبلغ مئات الاف الرؤوس من الأغنام والابقار سنويا هي الأخرى تظل خارج الأطر الرسمية، كما ان التعدين الأهلي وما ينتجه من دهب تتسرب منه نسبة معتبرة عن طريق التهريب.

هده الوضعية المتمثلة في الاستنزاف الممنهج لموارد الدولة من العملة الصعبة خلقت مستفيدين منها مدافعين عنها بكل ما اتو من قوة ولو على حساب مصالح العليا للبلد, وكل من يحاول ان يغير هذا الوضع القائم سيتعرض لحملة شعواء.

 

 في ظل هده الظروف استلم السيد المحافظ الحالي مهامه كمحافظ للبنك المركزي الموريتاني وفي أجواء ما بعد جائحة كورونا والازمة الأوكرانية التي كانت نتائجها على جل بلدان العالم سلبية فعلي سبيل المثال زادت فاتورة استيراد بلدنا للمواد والمشتقات النفطية في السنة الماضية 2022عن السنة التي قبلها بنسبة 65 بالمائة لتصل 40 مليار اوقية جديدة هده الزيادة في اغلبها ناجمة عن صعود أسعار النفط في العالم كما شهدت الواردات من السلع الغذائية في نفس الفترة زيادة قدرها 29 بالمائة لتصل الي 37 مليار أوقية جديدة في نفس الفترة الزمنية السابقة بفعل مشاكل سلاسل الامداد العالمية التي نجمت عن الحرب الأوكرانية.

 

لقد انتهج المحافظ الحالي سياسة تفعيل سوق الصرف لما تمثله هده السوق من شفافية وتساوي للفرص امام جميع المتعاملين الاقتصاديين حيث بلغت المبيعات خلال السنة الماضية 2022 من العملة الصعبة في سوق الصرف مبالغ زادت على 1,2 مليار دولار أمريكي لتلبية حاجيات المتعاملين الاقتصاديين، وفي هدا الإطار ندكر بالبيان الصادر عن الجمعية المهنية للبنوك الموريتانية بتاريخ 23 يوليو 2022 والدي أشاد بتلبية البنك المركزي الموريتاني لجميع طلبات الحصول علي العملة الصعبة المقدمة من خلال البنوك الوطنية و زبنائها بشكل تام وسريع, وما كان لهدا الإنجاز ان يتحقق الا بفعل التسيير المعقلن و الممنهج لموارد البلد من العملة الصعبة خلال هده الفترة علي الرغم من ان بعض دول المحيط الإقليمي شهدت مشاكل كبيرة خلال هده الفترة في تغطية وارداتها.

 

كما بلغت احتياطات الصرف لدي البنك المركزي السنة الماضية 2022 مبلغا قدره 1,5 مليار دولار أمريكي أي ما يكفي لتغطية 5,1 شهر من الاستيراد في حين تبلغ في تونس 3,6 شهر, وحسب معرفتنا بمجريات الأمور فهده الأرقام دقيقة ففي الفترات السابقة كان تعطي تعليمات بعرقلة جميع التحويلات من العملة الصعبة التي لا تتسم بطابع الاستعجال من بداية شهر ديسمبر من كل سنة وحتي منتصف يناير والهدف من هدا الاجراء هو اعطاء صورة عن احتياط الصرف قد لا تعكس حقيقته بكل أمانة.

 

في ذات الوقت أستجاب محافظ البنك المركزي لطلب البنوك الاولية الأساسي المتمثل في اعفائها من إعادة مبالغ العملة الصعبة المتأتية من تصدير المنتجات البحرية، واستخدامها لتغطية بعض التزاماتها الخارجية لقد مكن هدا الاجراء البنوك من موارد جديدة لتغطية حاجيات زبنائها.

 

لقد مكن نهج الصرامة المتبع من قبل المحافظ الحالي للبنك المركزي اتجاه البنوك الأولية والمتابعة الشخصية لموضوع التزامها بالنسبة الاحترازية الإجبارية خاصة ما يعرف بوضعية الصرف من تفادي حدوث انزلاقات قد لا تحمد عواقبها والتطبيق الصارم للعقوبات الرادعة المنصوص عليها في القانون.

 

لعبت سياسة الصرف المتبعة من قبل البنك المركزي خلال السنتين الماضيتين دورا أساسيا في تخفيف الضغوط المسلطة على علمتنا الوطنية الاوقية مما حقق لها استقرار نسبيا مقابل الدولار والاورو، في حين شهدت عملات دول الجوار تقهقرا فقد تخلي الفرنك الغرب الافريقي عن 9,8 بالمائة من قيمته مقابل الدولار الأمريكي خلال 2022 فيما فقد الدينار التونسي خلال نفس الفترة 10,7 بالمائة من قيمته, هدا الاستقرار في سعر الصرف مكن البلاد من تخفيف الاثار السلبية للظروف والمتغيرات الدولية علي حياة المواطن الموريتاني.

 

لقد مكنت التدخلات المتكررة للبنك المركزي الموريتاني من خلال سياسة نقدية صارمة وسياسة صرف ناجعة من سحب فائض السيولة كلما دعت الضرورة لدلك من خلال سياسة السوق المفتوحة هده التوجه ساهم بشكل فعال من محاربة التضخم واحتواء أثاره فمن المتوقع أن تكون نسبة التضخم في حدود مقبولة 4,3 بالمائة مما يعني ان بلدنا ولله الحمد بدأ يتعافى من الاثار السلبية للتضخم والتي مازالت تعصف بكثير من الدول.

 

من خلال ما سبق يتضح الجهد المبذول والمقام به من قبل المحافظ الحالي للبنك المركزي في الموائمة بين الموارد المحدودة والطلبات اللامتناهية على العملة الصعبة والظرفية الدولية التي زادت كلفة الاستيراد في حين بقية الموارد على حالها ودلك من خلال سياسات عقلانية.