لماذا تَنهال العُروض السعوديّة والأمريكيّة “السِّرِّيَّة” الحافِلَة بالمُغرَيات على الرئيس الأسد هَذهِ الأيّام؟ وهَل سَيَرُد الرُّوس هَذهِ المَرَّة على أيِّ عُدوانٍ ثُلاثيٍّ جَديدٍ على سورية؟ ولماذا لا نَستَبعِد ذلك؟ وهل سيَجِد ترامب الانتصار الذي يَبحَث عَنه في إدلِب؟
تتكاثَر هَذهِ الأيّام العُروض السعوديّة والأمريكيّة السِّريَّة “المُغرِيَة” للقِيادَة السوريّة، وتتمحوَر حول فَك ارتباطِها مع مِحوَر المُقاومة (إيران حزب الله تحديدًا)، مُقابِل رئاسةٍ مَدى الحياة، وضَخ المِليارات في عَمليّة الإعمار، مِثلَما تَزداد في الوَقتِ نَفسِه الحُشود العسكريّة تَلويحًا بضَربةٍ عسكريّةٍ وَشيكةٍ، والعَودة إلى التَّهديدات بتَغييرِ النِّظام السُّوريّ بالقُوّة، ولكن احتمالات الرَّد الرُّوسيّ على أيِّ عُدوانٍ ثُلاثيٍّ أمريكيٍّ بريطانيٍّ فِرنسيٍّ جَديدٍ سَتكون مُختَلفة، وربّما صادِمَة، في ظِل وجود حواليّ عَشَر سُفُنٍ حربيّةٍ، وغوّاصَتين روسيّة قُبالَة السَّواحِل السُّوريّة.
إذا بَدأنا بالعُروض السِّريّة التي انهالَت على القِيادَة السُّوريّة في الأسابيعِ الأخيرة، فهِيَ تأتِي في إطارِ سِياسَة العَصا والجَزَرة، ويُمكِن حَصرها في عَرضَين أساسِيين مُهِمَّين:
الأوّل: كشفت عنه صحيفة “الأخبار” اللبنانيّة المُقرَّبة مِن “حزب الله” ووكالة “فارس” الإيرانيّة شِبه الرسميّة اليوم الثلاثاء، وحَمله قائِد عَسكري أمريكي كبير وبصُحبَتِه مجموعة من مُمَثِّلي أجهزة مُخابرات أمريكيّة مُتعدِّدة، وَصَل إلى مطار دِمشق على ظَهر طائرة إماراتيّة خاصّة، والتقاه اللواء علي المملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني السوري، وكل من اللواء ديب زيتون، رئيس المخابرات، واللواء موفق أسعد، نائب رئيس هيئة أركان الجيش السوري، واستمرّ اللِّقاء أربَع ساعاتٍ.
العَرض الأمريكيّ تَضَمَّن سَحب جميع القُوّات الأمريكيّة من سورية مُقابِل تنفيذ دِمشق ثلاثة مَطالب: أوّلها: انسحاب إيران من الجنوب السوري المُحاذِي لإسرائيل، وثانِيها: ضمانات لشَركاتٍ أمريكيّة على حِصَّةٍ من النِّفطِ السُّوريّ شَرق الفُرات، وثالثها: تَقديم مَعلوماتٍ كامِلَة عن الجَماعات الإرهابيّة وعَناصِرِها في سورية.
الثاني: كشف عنه السيد نواف الموسوي، عُضو البرلمان اللبناني عن كُتلَة “حزب الله” في برنامَج شارَكَ فيه في قناة “الميادين”، وكنت انا شخصيًّا ضَيفًا فيه، وقال السيد الموسوي أنّ الأمير محمد بن سلمان، وليّ العَهد السعوديّ، أوفَد مَبعوثًا إلى الرئيس الأسد حامِلاً عَرضًا ببقاء الأسد رئيسًا مَدى الحياة، الشَّهر الماضي، ومُشارَكة السعوديّة في إعادَة إعمارِ سورية بسَخاءٍ، مُقابِل التَّخلِّي عن العَلاقةِ مع إيران و”حزب الله”.
***
القِيادَة السُّوريّة رَفَضت العَرضين بشَكلٍ صارِمٍ، وقالت للوَفد الأمريكيّ أنّ قُوّاتكم في سورية هي قُوّات احتلال وسنَتعامَل معكم على هذا الأساس، وأنّها جُزء من مِحوَرٍ استراتيجيٍّ ولا يُمكِن أن تتخلّى عن حَليفِها الإيرانيّ و”حزب الله”، أمّا بشأن تقديم معلوماتٍ استخباريّة عن الجماعات الإرهابيّة فهَذهِ مسألة يُمكِن بحثها بعد إقامَة العلاقات السِّياسيّة، والشَّيء نفسه يُقال عَن إعطاء الشَّرِكات الأمريكيّة حِصَّةً في صِناعَة النِّفط والغاز السُّوريّة.
أمّا إذا انتقلنا إلى عرض الأمير محمد بن سلمان والذي تضمَّن بقاء الرئيس الأسد في السُّلطة مَدى الحياة، ومُشارَكة بلاده في إعادَة الإعمار، فهُو ليس عَرضًا جديدًا، وقَدَّمه الأمير بن سلمان في بِدايَة الأزَمة عِندما التقى اللواء علي المملوك اثناء زِيارةٍ سِريَّةٍ جَرى ترتيبها بوَساطةٍ روسيّة (يونيو عام 2015)، وطَرح المطالب نفسها، أي قَطع العلاقة مع إيران و”حزب الله”، وكان الرَّد صادِمًا للمُضيف السُّعودي، أي الرَّفض التَّام رغم أنّ فصائِل المُعارَضة المُسلَّحة كانت تُسيطِر على حَواليّ 80 بالمِئة من الأراضي السوريّة بدَعمٍ سُعوديٍّ أمريكيٍّ غَربيٍّ.
الآن بعد استعادَة الجيش العربيّ السوريّ أكثَر من 85 بالمِئة من الأراضي السوريّة، يبدو العَرض السعودي غَريبًا وغير مَفهوم، مُضافًا إلى ذلك أنّ قُبول السعوديّة بالأسد رئيسًا مَدى الحياة لا يُقَدِّم ولا يُؤخِّر بالنَّظرِ إلى ما تَقدَّم، أمّا مسألة مُشارَكة الدُّول التي موّلت ودَرَّبت ودَعَمت الفَصائِل المُسلَّحة في الأزَمة السوريّة، وبِهَدف تغيير النِّظام، فإنّها مُلزَمةٌ بالقانون الدَّوليّ، ودَفعِ تَعويضاتٍ بمِئات المِليارات من الدُّولارات، ليسَ من أجلِ إعادَة الإعمار، وإنّما لتَعويضِ أهالي الضَّحايا الذين سَقَطوا بِسَببِ هذا الدَّعم.
هذا الرَّفض السُّوري لكُل هَذهِ العُروض مَع بِدء الاستعدادات والحُشود العَسكريّة من قِبَل الجيش العربي السوري لاستعادَة مدينة إدلب، هو الذي يُفَسِّر تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي قال فيها في خِطابِه السَّنوي أمام السُّفَراء العَرب والأجانب “أنّ عَودَة الأوضاع الطبيعيّة في سورية مع بَقاء الأسد في السُّلطة خَطَأ فادِح”.
***
العُدوان الثُّلاثيّ الأمريكيّ البِريطانيّ الفِرنسيّ على سورية باتَ غير مُستَبعد، إن لم يَكُن وَشيكًا، وأنّ الذَّريعة هي استخدام الِّنظام لأسلحةٍ كيماويّة على غِرار العُدوان الأوّل في نيسان (إبريل) الماضي، لكن الفارِق بين العُدوانيين يُمكِن تَلخيصُه في نُقطَتَين:
ـ الأولى: أنّه قد يَكون عُدوانًا أوسَع نِطاقًا هَذهِ المَرَّة إذا ما تَقرَّر شَنُّه، وربّما يَشمَل أهدافًا استراتيجيّةً، من بينها القَصر الجُمهوري في دِمشق.
ـ الثَّانِية: أنّ روسيا التي فَضَحَت “سيناريو الذَّرائِع” المُتوقَّع لتَبريره، أي استخدام أسلحةٍ كيماويّة، لن تَقِف مَكتوفَة الأيدي هَذهِ المَرّة، وربّما تتصدَّى لَهُ في ظِل عَلاقاتِها المُتوَتِّرة مع أمريكا، وإصرارِها على عَودَة إدلب إلى السِّيادةِ السُّوريّة، و”تَطهيرِها من الجماعات الإرهابيّة”، مِثلَما ذكر نائِب رئيس هيئة أركان الجيش الروسي.
ما يَجعَلنا نُرَجِّح هذا التَّحوُّل في المَوقِف الروسي، ما يَجرِي تَسريبَه هَذه الأيّام من تَزويدِ الجيش السوريّ بصَواريخِ “إس 400″ و”إس 300” الروسيّة المُتطَوِّرة جِدًّا، وكذلك حَشد فرقاطات عَسكريّة روسيّة قُبالَة السَّواحِل السُّوريّة مُزوَّدة بصَواريخ مُضادَّة للطَّائِرات والصَّواريخ.
الرئيس ترامب يَبْحَث عن انتصارٍ صَغيرٍ لتَخفيف الضُّغوط المُتزايِدة داخِل بِلاده الرَّامِية إلى الإطاحةِ بِه وطَردِه من البيت الأبيض ذَليلاً مُهانًا بسبب فَضائِحه التي تَزكُم الأُنوف، ونَشُك أنّه سيَجِد هذا الانتصار في أيِّ عُدوانٍ جَديدٍ على سورية، لأنّ قواعِد اللُّعبة تَغيّرت كُلِّيًّا.. والأيّام بَيْنَنَا.