لا يمكن فهم الموقف الأميركي من ثورات الربيع العربي عموما، والثورة السورية خصوصا، دون الاطلاع على نظرية "منْح الحرب فرصةً" التي صاغها الكاتب الأميركي أدوارد لُوتْوَاكْ عام 1999. ولوتواك –لمن لا يعرفونه- مفكر إستراتيجي أميركي يهودي، ولد في رومانيا وتربَّى بين إيطاليا وبريطانيا، وخدم في الجيش الإسرائيلي، ثم انتقل إلى أميركا فتحول مستشارا في عدد من المؤسسات الأميركية الحساسة، منها مكتب وزير الدفاع، ومجلس الأمن القومي، ووزارة الخارجية، وقيادة الجيش الأميركي.
وقد ألَّف لوتواك عددا من الكتب في شكل أدلَّة إرشادية للعمليات العسكرية الأميركية، كما ألَّف كتاب: "الانقلاب العسكري: دليل عملي" الذي تحول دليلا إرشاديا لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (السي آي أي) في انقلاباتها العسكرية بدول العالم الثالث، وكتاب "الجيش الإسرائيلي" (1983) بالاشتراك مع دانيل هورويتس، فضلا عن كتبه العامة في الفكر الاستراتيجي، مثل كتاب "الاستراتيجية الكبرى للإمبراطورية البيزنطية" (2009) وكتاب "الإستراتيجية: منطق الحرب والسلام".
وفي خريف عام 1999 نشر لوتواك –مقالا في مجلة فورينْ أفيرز (شؤون الخارجية) الأميركية، بعنوان: "امنحوا الحرب فرصةً" Give War a Chance دعا فيه القوى الدولية المتنفذة -خصوصا أميركا- إلى الكفّ عن السعي إلى وقف الحروب في العالم الثالث! وشرح لوتواك نظريته الدموية في العلاقات الدولية في صدر مقاله قائلا: "رغم أن الحرب شرٌّ مستطير، فإن فيها فضيلة عظيمة، وهو أنها يمكن أن تحل الصراعات السياسية، وتقود إلى السلام. ويمكن أن يحدث هذا حين يصبح المتحاربون مُنهَكين، أو حين ينتصر أحدهم نصراً ساحقاً. وفي الحالتين يجب أن يستمر القتال حتى التوصل إلى حل. فالحرب تجلب السلام فقط حين يتجاوز العنف المتراكم ذروته." وعاتب لوتواك منظمة الأمم المتحدة لأنها –بزعمه- لا تسمح للحروب بين الأمم الصغيرة "باستكمال مسارها الطبيعي"!
وربما يظن البعض أن نظرية لوتواك نظرية متماسكة مطَّردة تندرج ضمن ما يسمى النظريات "الواقعية" في العلاقات الدولية. لكن المتأمل في الأمثلة التي يوردها لوتواك لتزكية نظريته يجدها مقصورة على الحروب بين "الأمم الصغيرة"، كما أنها نظرية انتقائية، غايتها استنزاف بعض الأمم دون بعض. فتحيزات لوتواك الدينية والثقافية والسياسية -خصوصا خلفيته الصهيونية- هي الفيْصل بين الحروب التي يجب تركها على أعنَّتها والحروب التي يجب وقفها فوراً. ولذلك فإن من الأمثلة التي ذكر لوتواك أن القوى الدولية كان يجب أن لا توقفها الحرب بين الدول والعربية وإسرائيل عام 1948 التي كانت ستنتهي بانتصار حاسم لإسرائيل حسب تقديره، ثم حرب الإبادة ضد المسلمين في البوسنة في التسعينات التي عاتب الحكومة الأميركية على التدخل لإيقافها.
على أن ما يهمنا اليوم هو تطبيق لوتواك نظريته الدموية على الثورات العربية، خصوصا الثورة السورية. ففي بدايات تحول الثورة السورية إلى الخيار العسكري –ردًّا على همجية الأسد- كتب لوتواك مقالا في صحيفة (نيويورك تايمز) يوم 24 أغسطس 2013 دعا فيه إلى تطبيق نظرية "منْح الحرب فرصة" على الثورة السورية، لكنه لم يكتف هذه المرة بالدعوة إلى إبقاء الحرب مستعِرة، بل دعا دعوة صريحة إلى زيادة تسعيرها، وتحويلها مَصْهرةً دمويةً عدَمية، وكأنَّ ضحاياها ليسوا بشرا!
جاء مقال لوتواك في نيويورك تايمز بعنوان معبِّر هو: "في سوريا: تخسرُ أميركا إذا كسبَ أيٌّ من الأطراف" In Syria, America Loses if Either Side Wins وفيه كتب لوتواك: "إن الاستنزاف الطويل الأمد في هذه المرحلة من الصراع هو المسار الوحيد الذي لا يضرُّ المصالح الأميركية"، ثم ختم بنصيحة لصانع القرار الأميركي قال فيها: "سلِّحوا المتمردين كلما بدا أن قوات السيد الأسد في صعود، وأوقِفوا دعمهم كلما بَدَا أنهم سيكسبون المعركة". ولم يكن لوتواكْ مجرد ناصح للإدارة الأميركية ومنظِّرٍ لها، بل هو يؤكد في مقاله –مُحقاًّ- أن ما أوصى به هو واقع الموقف الأميركي في سوريا تحت حكم أوباما (وهو كذلك تحت حكم ترامب من باب أوْلى).
ليست نظرية "منْح الحرب فرصة" جديدة على الاستراتيجية الأميركية في هذه المنطقة المنكوبة بالاختراق الاستراتيجي المعادي لشعوبها، ولا كان لوتْواكْ أول من فكَّر في هذه النظرية. فقد سبق هنري كيسنجر لوتواك إلى هذه النظرية، وكان ممن دفعوا أميركا إلى تطبيق منطق الحرب العدمية على الحرب العراقية الإيرانية. فقد كان كيسنجر يقول فيما نقلته عنه صحيفة (لوس أنجيلس تايمز) يوم 16 فبراير 1986: "إن المصلحة العليا لأميركا في الحرب [العراقية-الإيرانية] هي أن يخسر الطرفان". ومن الواضح أن دعاة "إعطاء الحرب فرصة" –من كيسنجر إلى لوتواك- يعبرون عن الهوى الإسرائيلي أكثر مما يحملون همَّ المصلحة الأميركية، وما "المصلحة الأميركية" التي تتردد على ألسنتهم سوى غلاف شفَّاف تتستر وراءه مطامع الدولة اليهودية. ومطامحها إلى إبقاء هذه المنطقة في حالة تمزق أبديٍّ.
وحين كانت أميركا في الثمانينات تزود العراق بالسلاح علنا، وإيران بالسلاح سراًّ (صفقة إيران-كونترا مثلا) لم تكن تفعل سوى تطبيق هذه النظرية الدموية، بتعاون مع إسرائيل، ومع السائرين في الهوى الأميركي من حكام العرب، الذين دفعوا ثمن تلك الأسلحة. فقد دفعت القيادة السعودية ثمن الأسلحة التي كانت تصل إلى متمردي نيكارغوا وإلى الجيش الإيراني الذي كان يقاتل العراق (كما كشفته نيويورك تايمز عام 1986) رغم أن السعودية كانت داعما علنيا للعراق! وقد انتهت الحرب بين العراق وإيران بخسارة الطرفين بالفعل كما أراد كيسنجر، رغم كل الدعاوى الجوفاء بالانتصار التي أطلقها النظامان الغبيَّان في ختام الحرب، وكان بحر الدماء الذي سال من زهرة شباب البلدين، والأحقاد العميقة التي ترسخت بين العرب والفرس، وبين السنة والشيعة، هي الثمرة المريرة لتلك الحرب العدمية المديدة.
وحين دعا لوتواك إلى تطبيق نظرية "منْح الحرب فرصة" على الثورة السورية عام 2013، كان متَّبعا أميناً لسلَفه كيسنجر، وإن كان لوتواكْ أكثرَ فجاجة في التصريح بما يريد من الثعلب الدبلوماسي العجوز كيسنجر. لقد وجد لوتواك أن الثورة السورية يمكن تحويلها فرصة لاستنزاف عدد من خصوم أميركا الذين اجتمعوا على صعيد واحدٍ يذبح بعضهم بعضا: روسيا، وإيران، وحزب الله اللبناني، والسلفية الجهادية، وتركيا الجديدة الساعية للخروج من بيت الطاعة الأميركي. وكل ما يستلزمه الأمر هو تسعير الحرب باستمرار، مع التحكم في مسارها حتى تخسر كل الأطراف، تماما كما حدث مع العراق وإيران في الثمانينات. وكان السائرون في الهوى الأميركي مستعدين لتمويل الحرب المستعرة تحت شعار محاربة نفوذ إيران، رغم أنهم يحاربون الثورة السورية وغيرها من الثورات العربية أكثر مما يحاربون إيران.
وبينما كان أحرار سوريا يبذلون الدم مدراراً للتخلص من عسْف بشار الأسد ونظامه الطائفي الدموي، كان صائغو الاستراتيجية الأميركية-الإسرائيلية يحولون تلك التضحيات العظيمة مصهرةً دمويةً، وحربا عدمية لا غالب فيها ولا مغلوب، تطبيقا لنظرية "منْح الحرب فرصة". والمؤسف أن كل الأطراف المتحاربة على الأرض السورية وقعتْ في شِراك هذه النظرية الدموية، حتى الأطراف الداعمة للثورة السورية عن تعاطفٍ صادق وموقفٍ مبدئي.
وربما يكون الاستثناء الوحيد من الوقوع في هذا الشراك هو إصرار القيادة التركية –ذات التمرس الطويل بخبايا القرار الاستراتيجي الأميركي والنفاق الغربي- أن لا يدفع بها الأميركيون إلى مواجهة مباشرة مع إيران على الأرض السورية، لأن ذلك يعني توسُّع الحريق في الإقليم كله، وتمدُّد المصهرة الدموية بطريقة مجفعة، تُنسِي فظائع الحرب العبثية بين العراق وإيران. أما إيران فلا يبدو أنها تعلمت أي شيء من حربها العدمية مع العراق في الثمانينات، فيما يتعلق بفهم الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، فظلَّت غارقة في أوهام السيطرة الإسراتيجية والمذهبية، في الوقت الذي يستنزفها الأميركيون كما يستنزقون جيرانها العرب.
منذ أكثر من مائة عام كتب المفكر السياسي السوري عبد الرحمن الكواكبي (1849-1902م) عن الفرق بين الثورة المحكومة بقوانينها الذاتية، والثورة التي يستغلها "طامع أجنبي" لتحقيق مآرب على حساب الأمة الثائرة، فقال: "إما أن تغتنم الفرصةَ دولةٌ أخرى فتستولي على البلاد، وتُجدِّد الأسْر على العباد بقليل من التعب، فتدخل الأمة في دور آخر من الرِّق المنحوس، وهذا نصيب أكثر الأمم الشرقية في القرون الأخيرة. وإما أن يساعد الحظ على عدم وجود طامع أجنبي، وتكون الأمة قد تأهَّلت للقيام بأن تحكم نفسها بنفسها... يمكن لعقلاء الأمة أن يكلفوا المستبد ذاته بترك أصول الاستبداد، واتباع القانون الأساسي الذي تطلبه الأمة. والمستبد الخائر القُوَى لا يسَعه عند ذلك إلا الإجابة طوعا، وهذا أفضل ما يصادِف. وإن أصرَّ المستبد على القوة، قضوا بالزوال على دولته" (الكواكبي، طبائع الاستبداد).
لقد أدرك الكواكبي –وهو السابق على عصره في عدد من أفكاره السياسية- أن الطامع الأجنبي يستطيع تحويل الانشطار الاجتماعي والسياسي المصاحب لكل الثورات إلى فرصة ذهبية لهيمنته، لتكون بديلا عن الهيمنة المحلية، وبذلك "تدْخُل الأمة في دور آخرَ من الرِّق المنحوس" حسب تعبيره. وما حدث في سوريا من تدخُّل إيراني وروسي مثالٌ بليغٌ على تحقق ما كان يخشاه الكواكبي.
لكن ما لم يتصورْه الكواكبي في عصره -الذي لم تكن القوى الدولية الطامعة قد اخترقت فيه المنطقة تماما- هو أن هذا الطامع الأجنبي قد يسعى إلى ما هو أسوأ من الهيمنة المباشرة، وهو هدْم مقومات الأمة تدميرا ذاتيا، وتدمير عناصر قوتها ومنْعتها بأيديها، من خلال الحرب العدمية الدائمة. فالطامع الأجنبي لا ينحصر في العدو الخارجي الداعم للمستبد، المجاهِر بعداوته للثورة -كما هو شأن إيران وروسيا في سوريا اليوم- بل يمكن أن يكون عدواًّ في ثياب صديق، يتظاهر بدعم الثورة، لكنه يسعى إلى تحويلها حرباً أهلية دائمة، لا غالب فيها ولا مغلوب، وهو ما فعلته أميركا في الثورة السورية، والثورة اليمنية، والثورة الليبية.
منذ أن دعم ملك فرنسا لويس السادس عشر الثورة الأميركية -نكاية في انكلترا- منذ أكثر من قرنين، لم توجد في التاريخ ثورة إلا والدعم الخارجي ضروري لها، وخطرٌ عليها بالقدر ذاته. ومن أكبر التحديات في تاريخ الثورات هو قدرة أي ثورة على الاستمداد من الدعم الأجنبي مع احتفاظها باستقلال قرارها، وسلامة مسارها. من هنا يتعين على الثوار العرب أن يفتحوا أعينهم، ويتأملوا مسيرتهم بإمعان، للتمييز بين أنماط "الطامع الأجنبي" التي يتعاملون معه.
وليس مطلوبا من الثوار العرب الانبتات عن حركة التدافع الإقليمي والدولي، أو الزهد في الدعم الخارجي لغاياتهم النبيلة، فلا توجد ثورة منزَّهة عن الدعم الخارجي، والسياسة هي فنُّ بناء المساحات المشتركة، ومن السذاجة التفكير بأن الثورات العربية يمكن أن تتحرك في فراغ بعيدا عن التحالفات السياسية والعسكرية، ولكن الثوار العرب بحاجة إلى الوعي العميق بكيمياء العلاقات الدولية، في عالم يتداخل فيه دور الفاعل ودور المفعول به بشكل لا نظير له من قبل. أما السائرون في الهوى الأميركي الإسرائيلي –بوعيٍ أو بغير وعيٍ- فهم شركاء في استمرار الحروب العدمية اليوم نكايةً في الشعوب، لكنهم سيكونون أول ضحاياها في الغد حين ينتهي دورهم الوظيفي المَقيت.
نقلا عن مدونة الكاتب على مدونات الجزيرة