أعاد فيروس كورونا الموريتانيين لاستخدام اللثام بدل الكمامات واللثام اشتهروا به في التاريخ فقد عرفت بلادهم بأرض الملثمين.
وقل استخدام الموريتانيين للثام والعمامة في العقدين الأخيرين بسبب ما يتطلبه الأمن في الوسط الحضري من ضرورة الكشف عن قسمات الوجه وعدم التخفي وراء لثام لا يظهر من وجه صاحبه سوى عينيه.
فبدلا من الكمامات التي أوصت بها مصالح الوقاية الصحية، عاد الموريتانيون للبس عمائمهم ولثامهم، وتحول المشهد في الشارع العام في العاصمة إلى مشهد قديم مر به الموريتانيون في عصور خلت.
واللثام قطعة قماش مستطيلة متداخلة الخيوط بشكل لا يسمح للغبار بالنفاذ إلى لابسه، ويتم لفها حول الرأس عدة مرات وإخفاء الوجه بالكامل باستثناء العينين، ويمكن لهذه القطعة من القماش أن تتخذ شكل عمامة أو لثام حسب حاجة الشخص.
وعرفت ظاهرة اللثام انتشاراً كبيراً في موريتانيا بفعل ظروف المناخ وعادات المجتمع، حيث فرض العامل الأول على الموريتانيين الالتزام باللثام للاحتماء من غبار الصحراء وحرارة الجو، بينما أثر العامل الثاني على سلوكهم وأجبرهم على التلثم احتراماً لعادات الحياء الاجتماعي الذي لا يزال يفرض سلطانه وطقوسه على الجميع في موريتانيا.
وبفعل انتشار العمامة واللثام في الصحراء الافريقية، أصبح اللثام ميزة ثقافية لشعوب هذه المنطقة، وفي موريتانيا يسود اللثام الكامل، حيث لا يظهر من الوجه سوى العينين، وبينما يلجأ بعض الموريتانيين إلى التلثم حين تسوء أحوال الطقس أو في السفر أو حين زيارتهم لشيخ يحترمونه، يتحول اللثام من حاجة إلى عادة عند بعض الأشخاص الذين يتلثمون بشكل دائم حتى داخل منازلهم، ويعاني أغلب هؤلاء من الصلع أو الخجل الاجتماعي.
وشغل اللثام الباحثين والمؤرخين الذين تناولوه من زوايا مختلفة لا سيما أن الرحالة القدامى والمحاربين وعلماء القبائل الصحراوية كانوا ملتزمين باللثام وحافظوا على هذه العادة مئات السنين حتى أطلق عليهم “الملثمون”.
ويعتبر الباحث الاجتماعي اغظفن ولد محمد عالي “أن اللثام في الصحراء أجبر المؤرخين على تسمية هذا الفضاء الجغرافي باسم صحراء الملثمين” موضحاً أن “اللثام في موريتانيا يختلف من منطقة لأخرى حسب درجة الحرارة وطغيان العادات التي تلزم الوالدين بتربية الأبناء على احترام عادة اللثام لضمان للتواصل بين الأجيال؛ ولأن الإخلال بهذه العادة يعرضهم لكثير من الانتقادات ويجعلهم يعيشون على هامش المجتمع”.
وعن أكثر المناطق انتشاراً للثام، يقول “يطغى استعمال اللثام في المناطق الداخلية، حيث إنه لا يفارق صاحبه في أي ساعة من الليل والنهار يحافظ عليه بشدة؛ لأن محيطه يربط بين اللثام والحياء، ويقيس دماثة أخلاق المرء باستعماله اللثام، حتى أن بعض القبائل تفرض على العريس ارتداء اللثام وتعتبر كشف الوجه وقاحة وفضيحة تدل على سوء أخلاق العريس” مؤكداً أن الكثير من مناطق موريتانيا ما زالت تحافظ بإخلاص على عادة اللثام، حتى داخل المدن. ويقول إن “الحفاظ على هذه العادة التراثية لا يجب أن يؤثر على سلوك المجتمع، حيث يستعمل بعض الشبان اللثام في المؤسسات التعليمية وإماكن العمل وبعضهم يرتكب مخالفات سلوكية ويتخفى باللثام، كما أن من مساوئ اللثام انتشار الخجل الاجتماعي وارتكاب الجرائم”.
ويقول البكريّ وهو من مؤرخي القرن الحادي عشر الميلاديّ “في قبائل الصّحراء يلتزمون النِّقاب، وهو فوق اللِّثام حتّى لا يبدو منه إلا محاجر عينه، ولا يفارقون ذلك في حال من الأحوال، ولا يُميِّز رجل منهم وليّه ولا حميمَه إلا إذا تنقّب، وكذلك في المعارك إذا قُتِل منهم القتيل وزال قناعه لم يُعلم مَن هو حتى يُعاد عليه القناع، وصار ذلك ألْزم لهم من جلودهم”.
ويقول الشاعر أبو محمد بن حامد الكاتب:
قوم لهم شرف العلى من حمير وإذا انتموا لمتونة فهمُ همُ
لمّا حووا علياء كلّ فضيلة غلب الحياء عليهم فتلثّموا
عبد الله مولود -“القدس العربي”