في يوم الأربعاء الموافق 04 نوفمبر 2020 أعلنت رئاسة الجمهورية أنه بموجب مرسوم صادر عنها، وباقتراح من الوزير الأول، تم تعيين السيد "جا مختار ملل" وزيرا أمينا عاما للحكومة.
ربما تكون هناك "أسباب ما" لا يدركها المهتمون بالشأن العام هي التي دفعت بالوزارة الأولى إلى أن تقترح هذا التعيين، وبالرئاسة إلى تقبل به. أقول ربما تكون هناك "أسباب ما" لذلك التعيين، ولكن يبقى الشيء المؤكد أن تلك الأسباب لا يمكن التوصل إليها، ولا اكتشافها عن طريق أساليب التحليل المعهودة. بل على العكس من ذلك فإن القراءة التحليلية المتأنية لهذا التعيين تقول بأن كلفته على النظام ستكون كبيرة جدا، وسنبين ذلك من خلال هذا المقال.
إن أي تحليل متماسك منطقيا سيستنتج ـ وبلا مشقة ذهنية ـ بأن تعيين السيد "جا مختار ملل" وزيرا أمينا عاما للحكومة ستكون له كلفة ثقيلة متعددة الأبعاد والأوجه، فهناك كلفة سياسية لهذا التعيين، وهناك كلفة إعلامية، هذا فضلا عن الكلفة المتعلقة بالتأثير سلبا على مصداقية الحرب على الفساد.
أولا / كلفة التعيين على مصداقية الحرب على الفساد
في سابقة من نوعها ارتاح لها الموريتانيون كثيرا قال الوزير الأمين العام للرئاسة يوم الأحد الموافق (09 أغسطس 2020) بمناسبة تعيين الحكومة الحالية، بأن : " المبدأ المُوّجِهَ لتشكيل هذه الحكومةِ الجديدةِ ذو ارتباطٍ وثيقٍ بتحقيق اللجنة البرلمانية". كما قال أيضا في نفس الكلمة والتي تم من خلالها الإعلان عن تشكيلة الحكومة الحالية : "لقد ورد ذكرُ بعض أعضاء الحكومة المستقيلة في تقرير لجنة التحقيق البرلمانية. ومع التمسك والإيمان الراسخ بمبدأ أصالة البراءة حتى تثبت الإدانة، فإنه من المناسب، تمكين من تناولهم التقرير من التفرغ لإثبات براءتهم ولذلك كانوا من ضمن من شملهم التغيير."
هذا الارتياح الكبير الذي تولد لدى الموريتانيين بعد سماعهم لذلك الخطاب غير المسبوق، لاشك أنه سيتأثر سلبا بهذا التعيين، فبأي منطق يٌقال وزير لورود اسمه في تقرير اللجنة البرلمانية، ويعين آخر ورد اسمه في نفس التقرير؟
وإذا كان لابد من خرق هذا المبدأ الذي تحدث عنه الوزير الأمين العام للرئاسة عند تشكيل الحكومة الجديدة، ألم يكن الأولى في هذه الحالة الاحتفاظ بوزير ورد اسمه في تقرير اللجنة البرلمانية بدلا من تعيين آخر وزيرا يوجد اسمه في نفس التقرير؟
ثانيا / الكلفة السياسية لهذا التعيين
للكلفة السياسية لهذا التعيين عدة أوجه سنتحدث عنها من خلال النقاط التالية:
1 ـ ينشط الوزير "جا مختار ملل" سياسيا في مقاطعة "مونكل" المنحدر منها، وهناك شخصيات سياسية أخرى محسوبة على الحزب الحاكم والأغلبية تنشط في المقاطعة . بالعودة إلى نتائج الانتخابات الرئاسية الماضية، أي آخر استحقاقات انتخابية، فسنجد بأن الوزير المعين :
ـ كان هو الأسوأ أداءً في الحملة في مقاطعة "مونكل"، فالمكاتب المحسوبة عليه في بلديات "مونكل" و"ميت" و"آزقيليم" كانت نتائجها بالنسبة للمرشح غزواني هي الأضعف في المقاطعة.
ـ كان هو الوحيد من بين الشخصيات السياسية الوازنة في مقاطعة "مونكل" الذي رفض أن يتبرع ماليا لحملة المرشح غزواني خلال الضائقة المالية التي عرفتها الحملة وللأسباب المعروفة. لقد رفض الوزير أن يتبرع للحملة في حين تبرع آخرون في المقاطعة.
ـ يُقال، وهذه ليست معلومة مؤكدة، ولكن لها من الدلائل القوية ما يدعمها، بأن الوزير المعين كان يدعم سرا أحد منافسي المرشح غزواني، وأنه كان من الذين يعملون خفية من أجل جر المرشح غزواني لشوط ثانِ. ويبقى من أقوى الأدلة على ذلك هو أن إدارة حملة المرشح غزواني في "مونكل" ضبطت رئيس فرع حزب الاتحاد من أجل الجمهورية هناك (المحسوب على الوزير المعين)، وهو يعبئ الناخبين للتصويت لمرشح منافس!
فبأي منطق يتم اختيار السيد " جا مختار ملل" لوظيفة سياسية في حين يترك أولئك الذين دعموا بجد وصدق المرشح غزواني في مقاطعة "مونكل" دون تعيين؟
ألن يُصدم أولئك بهذا التعيين؟ ألن يضعف حماسهم في دعم النظام بعد هذا التعيين؟
إن هذا التعيين، ومن هذه الزاوية فقط له كلفته السياسية الكبيرة، وما قيل هنا عن مقاطعة "مونكل" يمكن أن يُقال عن مقاطعات أخرى وجد فيها الداعمون الصادقون للمرشح غزواني أنفسهم على الهامش في حين تم تعيين آخرين لم يبذلوا جهدا يذكر في دعم المرشح غزواني.
2 ـ من الأوجه الأخرى للكلفة السياسية لهذا التعيين، هو أن هذا التعيين يزيد من حضور رجال العشرية في أعلى الهرم الحكومي، وذلك في وقت فُتِح فيه تحقيق ومسار قضائي بخصوص بعض ملفات العشرية.
صحيحٌ أن أغلبية الرئيس السابق هي أغلبية الرئيس الحالي، وصحيحٌ أيضا أنه ليس من الإنصاف أن نطلب من الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يستجلب للوظائف السياسية في حكمه رجالا أو نساءً من خارج أغلبيته الداعمة. كل ذلك صحيح، ولكن الصحيح أيضا هو أن كل رئيس جديد يحتاج لواجهة سياسية وحكومية جديدة، ويتأكد الأمر عندما يتم فتح ملف فساد ضد الرئيس السابق وبعض أركان نظامه.
من المؤكد بأنه يوجد في الأغلبية الحالية الكثير من الرجال والنساء الذين لم تشملهم ملفات التحقيق، والذين خدموا بصدق المرشح غزواني، فهؤلاء أولى من غيرهم بالتعيين في الوظائف السياسية، وبمثل هؤلاء يمكن للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني أن يصنع واجهة سياسية وحكومية خاصة به، قابلة للتسويق وقادرة على أن تخلق أملا لدى الشعب الموريتاني بأن هناك نظاما جديدا يمكن التعويل عليه في حل المشاكل المطروحة.
3 ـ من أوجه الكلفة السياسية لتعيين السيد "جا مختار ملل" وزيرا، هو أن هذا التعيين لا يخرج عن إطار الدائرة الضيقة التي تعودت على أن تتبادل الوظائف السامية في الحكومة. هناك في الأغلبية من أصبح على قناعة بوجود مثل هذه الدائرة الضيقة، والاقتناع بوجود هذه الدائرة لدى الفاعلين السياسيين في الأغلبية سيؤدي حتما إلى غياب التنافس الإيجابي داخل هذه الأغلبية من أجل الحصول على تلك الوظائف، وهو ما ستكون له انعكاسات سياسية سلبية على النظام. فلسان حال القوم يقول ولماذا نتنافس في خدمة النظام ما دام التوظيف والتعيين سيبقى حكرا على دائرة ضيقة تعودت على احتكار وتبادل الوظائف المتاحة؟
ثالثا/ الكلفة الإعلامية لهذا التعيين
حتى الآن ما زال الأداء الإعلامي للنظام القائم دون المستوى، وسيزيد هذا التعيين وأمثاله من التعيينات من ضعف وإرباك هذا الأداء. سيجد المدافعون عن النظام حرجا كبيرا في الدفاع عن مثل هذا التعيين، ولا شك أنهم سيجدون صعوبة كبيرة في تسويق خطاب يرتكز على محاربة الفساد مع وجود مثل هذه التعيينات، وهو ما عبر عنه بدقة أحد نواب حزب الاتحاد من أجل الجمهورية في مداخلة له تم تداولها بشكل واسع في مواقع التواصل الاجتماعي. ثم إن الوزير المعين كان قد عمل سابقا في سفارة موريتانيا في تل أبيب الشيء الذي سيزيد من صعوبة تسويق تعيينه.
ختاما
إن ملف الاكتتاب والتعيينات هو من الملفات الحساسة جدا، وارتكاب الأخطاء في هذا الملف ستكون له كلفة إعلامية وسياسية كبيرة جدا، كما ستكون له كلفة كبيرة جدا على مصداقية الحرب على الفساد، ومن هنا يتحتم على النظام أن يهتم أكثر بهذا الملف، حتى لا تتكرر مثل هذه الأخطاء ذات الكلفة الكبيرة جدا.
تنبيه : الوظائف والتعيينات التي تم الحديث عنها هنا في هذا المقال هي الوظائف السياسية، أما الوظائف الإدارية ذات الطبيعة الفنية فيجب أن تبعد نهائيا عن السياسية، وتلك لها معايير أخرى لا علاقة لها بالأداء السياسي.
حفظ الله موريتانيا..