عندما قام ضباط من الجيش الوطني بانقلاب في العاشر من يوليو سنة 1978 تحت توجيه وقيادة اليمين الموريتاني وحلفائه في الخارج؛ لم تتصدر هموم الحرية، بالتأكيد، أولويات نظامهم. بل كانت لديهم مآرب أخرى! ولعل من دوافع تلك المآرب: ارتباط بعضهم بالفساد،
ومتطلبات المصالح التي تحركوا لحمايتـها، والتركيبة الاجتماعية للجيش يومها، وانخفاض مستواه الثقافي والمهني النسبي، والانتماءات الاجتماعية للعناصر القيادية المدنية والعسكرية التي استولت على السلطة آنئذ.
وهذا ما انعكس على أحداث تلك الحقبة. لقد تم بموافقة وتشجيع بعض شرائح "النخبة" يومئذ حل مؤسسات الدولة، وإلغاء الدستور والميثاق الوطني، وبُعِثت القبلية والجهوية والمحسوبية من مرقدها، وانتـهكت الحريات، ونـهب المال العام، وأهمل وأفسد التعليم، وتدهورت الصحة، وصارت الثقافة نسيا منسيا، واحتل الصدارة السياسية والاجتماعية شرّ الضباط وقرناؤهم المدنيون، ولجان التطوع والهياكل المكونة - في معظمها - من الحثالة ورجال القبائل والطوائف السياسية الطفيلية؛ ووُجّهت آلة قمع الدولة إلى قهر ومطاردة مَنْ مِنَ النخب المدنية والعسكرية يرفض هذا المصير البائس، ويتشبث بمجد وعزة الوطن.
وقد بلغ هذا التوجه أوجه خلال ربع القرن السابق على الثالث من أغسطس 05 حين انتصرت "قيم" الگزرة (الاستيلاء على أراضي الدولة بما فيها الساحات العامة والأماكن والدور ذات النفع العام، واستباحة الأعراض التي شكلت أحد أهداف الكزرة الأساسية: الأرض مقابل العرض) والتبتيب (المضاربة والاحتيال) والترگاع واتفگريش (الرشوة واختلاس المال العام) على قيم التقى والورع والتقشف والمروءة واترزقي (التعفف: نسبة إلى أولاد رزق) التي حكمت مجتمع الزوايا الذي كان سؤله الكفاف والعافية، ومجتمع العرب (بني حسان إدوعيش ومشظوف) الفروسي الذي يحتقر ويلعن الملكية والتنمية والتجارة واتـهنتيت (التلصص والغصب) ويعدها من أبشع وأشنع أنواع الرذيلة والعار. وكانت قيم الزوايا والعرب النبيلة مرتكز الدولة الوطنية التي وضع أسسها الأستاذ المختار ولد داداه - رحمه الله- وصحبـه، ومصدرا من مصادر ثورة الكادحين الاجتماعية.
وفي هذه الفترة ساد أيضا الحبس، والنفي، والتعذيب حتى الموت، والإعدام، والتصفية العرقية، وانتـهاك المساجد، واضطهاد العلماء والأئمة، واحتكار وسائل الإعلام الرسمية وتحويلها إلى أبواق، وخنق وتوقيف الصحافة، وحل الأحزاب، وتزوير الانتخابات، وكبت وتزييف إرادة الشعب، ونـهب أرزاقه وثرواتـه!كما سادت محاباة واتباع أمريكا وإسرائيل التي رفرف علمها البغيض لأول مرة على ربوع بلادنا الحبيبة!
قد يعترض معترض على هذه الرؤية، ويذكّر بأن بعض تلك العهود شهد إصدار دستور، وإقامة مؤسسات، وإجراء انتخابات على كافة المستويات، وترخيص عشرات الأحزاب ومئات الجرائد والمنظمات غير الحكومية، وسن قانونين يلغي أحدهما العبودية، عززا بثالث ينظم الملكية العقارية!..الخ؛ ولكن إجماع المحللين والمراقبين وكافة القوى السياسية والاجتماعية الوطنية والأجنبية، منعقد على أن كل ذلك كان شكلا خَدّاعا يخفي في ثنايا ثوبـه الأبيض الناصع كل آيات القبح والظلم والطغيان واحتقار واستغلال الإنسان للإنسان!
ومع ذلك، لا تعدم هذه الحقب السوداء من تاريخنا متباكين عليها، ومنوهين بـ"أمجادها" وحنانين إلى عودتـها لحد الهوس! ولم لا؟ وهي عصرهم الذهبي، وسبب وجودهم الطفيلي التافه، مفسدين ومترفين ومصاصي دماء ومنافقين ولصوصا، وخونة وأعداء للوطن والشعب!