من المفارقات الغريبة و الناتجة عن الاستلاب أن اغلب النخب الإفريقية الفرانكفونية تكاد لا تقوم بأي جهد ذي قيمة للنهوض باللغات و الثقافات المحلية، فيكفيها أن تتغنى بلغة جلاديها و تكتب بها روايات و اشعار بل و حتى بحوث تظل بعيدة عن اختراق المنظومات الشعبية و تبقى دولة بين هؤلاء المستلبين حصرا او بينهم و مستعمريهم السابقين، و يكفي الواحد من الفرانكفيليين الفرانكفونيين من بني جلدتنا أن تستضيفه وسيلة إعلام فرنسية او يتحصل على شرف المشاركة في برنامج او مهرجان فرنسي، و لذلك لم تقطع أي خطوة معتبرة على مدى عقود من الاستقلال، و اقنع الفرنسيون و الإنجليز - بشكل أقل حدة - بأن خلاصهم و مفتاح رقيهم في التخلص من ثقافاتهم و لغاتهم و التحول إلى فرنسيين او إنجليز....، و لا شك أن قوة الإستلاب و " تقليد المغلوب لغالبه " أكثر حدة في مستعمرات فرنسا و خاصة في منطقتنا.
إذا كانت بعض دول شرق إفريقيا قد اختارت منذ مدة تثمين تراثها المحلي و مخاطبة العالم من خلاله عبر ترسيم لغات محلية كالسواحلية و الامهرية و الصومالية، فيجب إلى أن بعض البلدان الشقيقة المجاورة لنا، تشهد منذ سنوات حركة إحياء و وعي بالذات و عمل جاد للنهوض بالثقافة المحلية و تطوير اللغات، و هكذا ظهرت محاولات حثيثة للتحرر من العقدة التي خلقها المستعمر و المستلبون من حملة ثقافته، و التي تقنع الأفارقة بأن ثقافتهم و لغاتهم متخلفة و لا تستحق التثمين و التطوير، و العمل لمواجهة السياسة الاستعمارية و التي تسوقها النخب الفرانكفونية المستلبة، و التي تعمل منذ عقود لإقناع الأفارقة أن لا شيء في تراثهم الثقافي يستحق النشر و التثمين سوى فنون الرقص و الغناء و السحر، و المؤسف ان مساهمة الموريتانيين في هذا الجهد الإفريقي قليلة إلى منعدمة، بينما تشهد مالي و بركينافاسو فاسو مثلا حراكا قويا للعودة للجذور و الخروج من ربقة الاستلاب، و قد باتت هذه الجهود الثقافية و النخبوية الوطنية تجد صدى شعبيا معتبرا، كانت من تجلياته المظاهرات التي شهدتها عدة بلدان في المنطقة للتنديد بالهيمنة الفرنسية، العسكرية و الثقافية و الاقتصادية.
اعتقد أن على نخبتنا المحلية أن تنخرط في هذا الحراك، و ذلك بالترسيم الفعلي للغاتنا المحلية و تطوير و نشر ثقافاتنا، أي باستعادة ذاتنا و كينونتنا و التفاهم بين مكوناتنا دون وسيط اجنبي مغرض، و لن يتأتى لنا ذلك إلا من خلال تعليم نهضوي، ينطق بلغاتنا و يكون وسيلة للنهوض باقتصادنا و الحفاظ على قيمنا الديني، و يزرع في اجيالنا الاعتزاز بتاريخها و بشخصيتها الحضارية و الثقافية المتميزة، فنحن - و مهما تعلمنا من لغات الغرب و ثقافاته و تمثلنا من قيمه و مظاهره السلوكية - سنظل دائما موريتانيين مسلمين، و لن يخرج أحدنا عن أن يكون " سليل عروبة إفريقي " او " سليل إفريقية عروبي " .