نتحدث كلنا عن فساد الحكومات وكبار المسؤولين ونحملهم مسؤولية فساد الدولة بالمطلق.. وهذا أمر واضح ومفهوم لأنهم هم الذين يتصدرون الواجهة ويتولون مهمة التسيير.. والكلام عن فسادهم وارد، ولكنه لا يكفي للإحاطة بموضوع فساد الدولة، لأنه يلامس البناء العلوي أو الجزء الظاهر فقط من المعضلة، ويغفل البناء التحتي أو الجزء الغاطس منها، وهو المجتمع.. فالحكومات وكبار المسؤولين ما كان لهم أن يفسدوا إلاّ لأن المجتمع الذي أوجدهم تركهم ليفسدوا، أو لأنه هو نفسه مجتمع فاسد ومفسد.. هذا الكلام قد يبدو منافيا لمقولة أن "السمكة تفسد من رأسها" .. وهي مقولة - رغم كونها صحيحة - غير كافية أيضا واختزالية جدا. في العمق، نجد أنّ المجتمع شريك الحكومة وكبار المسؤولين في صناعة الفساد أو إنجاز الإصلاح، بل إن دوره يسبق دورهم باعتباره المنشئ والمؤسس والحاضن لهم. وهذا ما يلخصه الحديث "كما تكونوا يُولّى عليكم".
نعم ستبقى الحكومة وكبار المسؤولين يتحملون نصيبهم الهائل من اللوم، لكنه لوم على سوء الإدارة. أما المجتمع فيتحمل اللوم على أنه هو من يحتضن الإدارة ويسمح لها بالتراخي والترهل .. وهذا ما أشار اليه الكاتب والفيلسوف الفرنسي المعروف "دو توكوفيل" بمقولته الشهيرة: "كل شعب ينال الحكومة التي يستحقها". نحن شعب يمجد الفساد والمفسدين. نحب التبذير والمبذرين. نتعامل مع المفسدين على أنهم هم الأبطال (آفگاريش) والأذكياء والشطّار والعقلاء والقادة والمثال الحسن.. المال العام يعطي "الشعبية" التي تعطي "الترقية" التي تعطي المال العام الذي بدوره يعطي "الشعبية" .. وهلم جرا!
أعتقد أن محاربة الفساد تحتاج إلى أن تكون قضية المجتمع بأسره والحكومة معًا. لا تتم إلاّ بنهضة شاملة تتضافر فيها جهود الأحزاب والحكومة والاعلاميين والمدونين وجمعيات المجتمع المدني .. وينزل الجميع إلى البيوت والشوارع في المدن والأرياف والأسواق وداخل المدارس والإدارات لتغيير العقليات وتوعية النخب والعامة وغرس ثقافة الإصلاح والمحاسبة، وخلق بيئة رافضة وطاردة للفساد والمفسدين.. وإلاّ فإن متابعة مفسد هنا أو إثنين أو ثلاثة أو عشرات المفسدين - رغم أهميتها وحاجة البلاد إليها - قد لا تكفي، لأن السمكة في مياهنا هنا لا تفسد من رأسها فقط، بل تفسد من جذعها وذيلها وفتحة أنفها أيضا.. يُروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: "لو كان الفقر رجلا لقتلته".. ولكن الفقر نظام اقتصادي يعيد إنتاج الفقر.. والفساد مثل الفقر نظام اجتماعي يعيد إنتاج الفساد! ونحن في منطقة "آفطوط" نقول إن قتل البعوض واحدة واحدة أو قتله بالعشرات والمئات لا يجدي نفعا ضد لدغاته ما لم يجفّف المستنقع..
* أرشيف