ما الداعي أصلا لأن يفعلوا ذلك؟ قد يقول قائل وهل من المعقول أن يلقوا جانبا بأقوى وأمضى سلاح يملكونه الآن أي سلاح الحياد؟ لكن هل سيبقى للسلاح الذي ترك في المخازن أكثر من أربعين عاما، من دون أن يفلح الموريتانيون باستخدامه لفرض الاستقرار في منطقتهم، وإقناع الجارتين المتخاصمتين، أي الجزائر والمغرب بالجلوس إلى طاولة الحوار لحل الملفات العالقة بينهما، أي قيمة أو أهمية؟ ليس سرا أن كلا البلدين المغاربيين لا يشعران، رغم ما يبديانه أحيانا من تفهم لموقفها، بارتياح كبير لما تراه نواكشوط حيادا في أكبر ملف يوتر علاقتهما وهو ملف الصحراء. فكلاهما يريد من موريتانيا أن تخرج من منطقة الظل، وأن تدعم موقف أحدهما على حساب الآخر.
لكن هل يقدر الموريتانيون حقا على فعل ذلك؟ قبل أيام وضع حيادهم على المحك، وربما كان السؤال الذي دار في أذهان البعض منهم هو، في أي ظروف أو ملابسات قضى ثلاثة من رعاياهم، وفقا لوسائل إعلام محلية، واثنان منهم فحسب كما صرحت بذلك السلطات، في الحادث الذي تعرضت له قافلة من الشاحنات الأحد قبل الماضي، كانت تعبر منطقة لا تبعد كثيرا عن حدود موريتانيا الشمالية؟ غير أن السؤال الآخر الذي قد يكون دار في الأثناء في الرباط، التي لم تعلق رسميا على ما جرى هو، ما الذي كان يفعله أولئك الأشخاص في مكان يعتبره المغاربة جزءا من ترابهم وساحة لنزاع مسلح بينهم وبين البوليساريو؟
ومن الواضح أن الإعلان عن وجود موريتانيين، وبغض النظر عن الاختلاف في تقدير عددهم من بين ضحايا ما وصفتها الجزائر في بيان شديد اللهجة بـ»عملية الاغتيال الموجهة باستعمال أسلحة متطورة» التي استهدفت ما قالت عنهم إنهم «رعايا ثلاث دول في المنطقة» في إشارة إلى الجزائر وموريتانيا والبوليساريو قد وضع نواكشوط في حرج، فلطالما حاولت أن تنأى بنفسها عن أكبر أزمات الشمال الافريقي وأصعبها على الإطلاق، لكن عوامل عديدة جعلتها تبقى أكثر العواصم تأثرا بأدق مجريات وتفاصيل الملف الصحراوي، وأولها موقعها الجغرافي وروابطها الدموية والعشائرية والثقافية القوية بالصحراء، ولأجل ذلك فقد تعامل المسؤولون الموريتانيون بحذر شديد مع الحادث الأخير، لأنهم كانوا يعلمون جيدا أثر أي كلمة قد يقولونها بشأنه في العاصمتين المغربية والجزائرية. وهذا ما جعلهم لا يصدرون أي بيان أو موقف إلا بعد ثلاثة أيام من وقوع الحادث، حين خرج وزير التهذيب الوطني وإصلاح النظام التعليمي ليقول في مؤتمر صحافي بعد الإشارة إلى أن عدد الضحايا الموريتانيين هو اثنان لا ثلاثة، إن «الحادث وقع خارج ترابنا الوطني» بما يشير إلى الرغبة في خفض حدة التوتر والتطلع في المقابل إلى أن لا يجر ذلك إلى مزيد من التصعيد، ويدفع بالموريتانيين إلى أن يتحولوا إلى طرف مباشر في نزاع كانوا وما زالوا يفضلون البقاء على مسافة منه. غير أن السؤال الآن وبغض النظر عما يمكن أن يتركه مقتل الموريتانيين من تداعيات هو، هل إنه ما زال بإمكان موريتانيا بعد التطورات المتسارعة التي شهدها ذلك الملف، خصوصا في الشهور الأخيرة، أن تواصل التمسك بما أعلنته أكثر من مرة، وبما قاله رئيسها قبل نحو عامين من الآن، من أن موقف الحياد الإيجابي من النزاع الصحراوي الذي تبنته بلاده ليس قابلا للتغيير لأنه «من ثوابت السياسية الخارجية للبلد»على حد ما جاء في تصريح ولد الغزواني؟
حاولت نواكشوط وعلى مدى أكثر من أربعين عاما أن تمسك بالعصا المغربية الجزائرية من الوسط، وأن لا تظهر انحيازا واضحا أو صريحا لأي طرف
لقد سبق لوزيرة الخارجية الإسبانية المقالة أرنشا غونزاليس ليا أن قالت بدورها، ولو في سياق مغاير في يونيو الماضي، وفي عز الأزمة الإسبانية المغربية، أمام البرلمان الإيبيري إن «موقف إسبانيا من نزاع الصحراء لم يتغير مع هذه الحكومة الائتلافية التي يقودها بيدرو سانشيز ولن يتغير في المستقبل». لكن ألم يخرج سانشيز نفسه منتصف الشهر الماضي ليعلن عما وصفه الجزائريون بالتحول في موقف بلاده من تلك القضية، ويقر في رسالة بعثها إلى العاهل المغربي بأن «إسبانيا تعترف بأهمية قضية الصحراء بالنسبة للمغرب، وتعتبر مبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب سنة 2007 بمثابة الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف؟» فما الذي يمنع المسؤولين الموريتانيين من أن يفعلوا الأمر نفسه، حتى إن لم يستنسخوا الموقف الإسباني الجديد بالحرف؟
لا شك بأن المعطيات والظروف، وحتى التوازنات الإقليمية التي تحكم البلدين ليست نفسها، ولأجل ذلك لا يبدو خروج موريتانيا من مربع الحياد هينا، فقد حاولت نواكشوط وعلى مدى أكثر من أربعين عاما أن تمسك بالعصا المغربية الجزائرية من الوسط، وأن لا تظهر انحيازا واضحا أو صريحا لأي طرف من أطراف النزاع الذي كان يدور على مرمى حجر من حدودها. ومع أنها نجحت أحيانا في ذلك، وفشلت في أخرى إلا أنها استطاعت من خلال تلك السياسة التي اتبعتها منذ 1979 في أعقاب النكسة التي منيت بها أمام البوليساريو، أن تحافظ والى حد ما على أمنها واستقرارها الخارجي في محيط كان يضج بالاضطرابات والهزات العنيفة، لكن ما الذي يمكن أن يدعوها إذن وبعد كل تلك السنوات لأن تغير ما ظلت تدعوه الحياد الإيجابي في أزمة الصحراء، إن كان ذلك قد ضمن لها حتى الآن حدا أدنى على الأقل من الأمن والاستقرار، ومن الحفاظ على مصالحها الحيوية مع جارتيها الكبيرتين المغرب والجزائر؟ ثم هل سيكون باستطاعتها إن هي أقدمت على تغيير موقفها أن تتحمل تبعات أي قرار قد تأخذه، سواء لصالح دعم رؤية المغرب لحل الأزمة الصحراوية أو لفائدة المقاربة الجزائرية للمشكل؟
ربما طرح الموريتانيون على أنفسهم خلال العقود الأربعة الأخيرة مثل تلك التساؤلات، لكنها تبدو الآن حاضرة بقوة لديهم بعد الاعتراف الأمريكي ثم الألماني والفرنسي والإسباني بمغربية الصحراء، ليس فقط لما قد يكون لها من انعكاس واضح على مجريات النزاع الصحراوي، بل لأنها اعطت دفعا جديدا وإضافيا للمغاربة والجزائريين على السواء، حتى يكثفوا ضغوطهم على موريتانيا لتخرج من المنطقة الرمادية وتنحاز لتصور طرف دون الآخر لأزمة الصحراء. وبالنسبة لنواكشوط فهي تدرك جيدا وبلا شك بأن حيادها قد يتقوض ويهتز بشدة في حال ما إذا حصل مزيد من التصعيد بين الطرفين، وأنها قد تتحول في تلك الحالة وبحكم قربها الجغرافي من منطقة الصراع والتداخل العرقي والثقافي بينها وبين الصحراء إلى ساحة خلفية للمواجهة بينهما. ولعلها تأخذ هنا بجدية كبيرة ما جاء في البيان الجزائري حول الحادث الأخير لقافلة الشاحنات من تحذير من أن تلك الهجمات قد «تعرض المنطقة برمتها إلى تطورات بالغة الخطورة»، لأنها تعلم جيدا أنها ستكون المعنية أكثر من غيرها بعواقب أي مواجهة قد تحصل هناك، لكن السؤال الذي يؤرقها دائما هو ما الضمانة التي ستحصل عليها إن هي ألقت جانبا بأقوى سلاح لديها وتخلت عن حيادها في ملف الصحراء؟ حتى الآن يبدو الجواب أمامها مشوشا وملتبسا للغاية.
نزار بولحية
كاتب وصحافي من تونس