هل أتاك ـ عزيزي القارئ ـ نبأ شعب بنى دولة من لا شيء؟
دولة أعلن عن استقلالها تحت خيمة.. لا عاصمة لا جيش لا طرق معبدة لا مستشفيات لا مرافق إدارية لا مواصلات ولا اتصالات...
نعم..
بناها فكانت العاصمة وكان الجيش الوطني وارتفع العلم خفاقا وصار الثامن والعشرون من نوفمبر موعدا سنويا يخرج فيه الشعب مستبشرا يغني: "يا موريتان عليك امبارك الاستقلال"..
لكن مهلا عزيزي القارئ، لا تستغرب فالقصة لم تبدأ من هنا..
ألا تعلم أن هذا الشعب نفسه هو الذي قهر الصحراء فخضعت له وتسمت باسمه: صحراء الملثمين..
ألا تعلم أن هذا الشعب هو الشعب الوحيد الذي حول البادية المقترنة أصلا بالجهل والغباء إلى بادية عالمة عز نظيرها في العالم..
فمباشرة بعد دخول الإسلام هذه الأرض لم يرض قادة الملثمين بإسلام شكلي وأرادوا أن يتضلع شعب الصحراء من علوم الدين والثقافة الإسلامية فينتفعوا وينتفع بهم..
وهكذا أسس الملثمون رباطهم بقيادة شيخهم عبد الله ابن ياسين في مكان غير بعيد من نواكشوط الحالية، ومنه انطلق المرابطون ينشرون دين الله فعمت أنواره هذه الصحراء وامتد إشعاعه جنوبا وشرقا وشمالا، حيث أسس الملثمون عاصمتهم مراكش التي ستكون فيما بعد علما على المغرب الأقصى كله )موروكو( ولم يقفوا عند ذلك الحد بل عبروا البحر لنجدة المسلمين في الأندلس الذين ضعف فيهم الدين فتكالب عليهم الصليبيون وضربوهم بقوس واحد.. فجاء المرابطون الملثمون من الصحراء وكانت معركة الزلاقة فانهزم الصليبيون هزيمة نكراء ومكن الله للإسلام في الأندلس خمسة قرون أخرى، واستحق الملثمون على الأندلسيين الشكر فأنشد الشاعر الأندلسي:
قوم لهم شرف العلا من حمير
وإذا انتموا صنهاجة فهم هم
لما حووا علياء كل فضيلة
غلب الحياء عليهم فتلثموا..
وإذا كانت ثمار الدولة المرابطية قد تم قطفها في الغالب خارج محل الميلاد، على الأقل من حيث الإرث العمراني، بل إنها أنهكت منطقة الصحراء بشريا بنفير أبنائها للجهاد شمالا، فإننا يمكن أن نعتبر أن ذلك الرباط المبارك كان النواة الأولى لتلك المفخرة التي ستتميز بها هذه البلاد لاحقا وترفع ذكرها ألا وهي المحظرة..
ويتأكد هذا الاستنتاج إذا لاحظنا أن اللقب المختار لشيخ المحظرة هو "المرابط"..
ومع أن ذلك الرباط أو تلك المحظرة إنما ولدت في البادية وتكيفت معها متخذة من صهوات الجياد وظهور العيس مدرسة لتبيين دين الله، إلا أن سكان هذه الصحراء شيدوا العديد من الحواضر التي كانت أحيانا تعمر وتزدهر وأحيانا تختفي وتندثر، وكانت في معظمها مراكز إشعاع علمي وديني..
ومن هذه الحواضر أودغست وكومبي صالح وآبير وولاتة وتيشيت ووادان وشنقيط..
وما أدراك ما شنقيط،، ذلك الاسم الذي طارت به الركبان، وأصبح علما على البلاد كلها مع تعاقب الأزمان ، وتلقب به أبناؤها في كل البلدان.
أدرك الشناقطة أن مجدهم مرتبط بالمحظرة فعضوا عليها بالنواجذ واعتنوا بها أيما اعتناء فكانت المحظرة تلك الجامعة العلمية التي لا يحدها مكان ولا زمان، تنتقل مع الأحياء البدوية التي تجوب الصحراء بحثا عن الكلأ لرعي مواشيها في رحلات شتاء وصيف وما بينهما..
ولم يكن شيخ المحظرة أو المرابط مهما بلغ من العلم سوى رجل بدوي بسيط يحل ويرتحل مع حيه، لا يميزه عن الناس إلا مجموعة طلاب تتبعه تحمل ألواحها الخشبية:
هذا يكتب وهذا يقرأ وهذا يصحح وذاك يستفسر..
توفر المحظرة للطالب معارف موسوعية في مجالات:
القرآن رسما وحفظا وتجويدا وتفسيرا
والحديث متنا ورجالا ومصطلحا
والفقه أصولا وفروعا
وعلوم العقيدة والسيرة والتاريخ والأنساب
وعلوم اللغة نحوا وصرفا وبلاغة وشعرا وعروضا
وعلوم الحساب والجغرافيا والفلك والطب
والمحظرة جامعة شعبية مفتوحة تستقبل الصغير والكبير والذكر والأنثى والمبتدئ والمتعلم كما تستقبل الأبيض والأسود والأسمر، ويتعانق فيها أبناء الشيوخ وقادة المجتمع والأغنياء مع أبناء الأتباع والعامة والفقراء..
لقد صغرت الدنيا في أعين أهل هذه الأرض فاكتفوا منها بالقليل، وكان طلب العلم هو الشغل الشاغل لديهم، بينما كان الجهل معرة ومسبة..
وهكذا أقبل شعب هذه الصحراء على العلم فأعانهم الله بملكة في الحفظ عز نظيرها فكان الغلمان يحفظون المدونة وألفية ابن مالك ومختصر الشيخ خليل ودواوين الشعر الجاهلي قبل البلوغ وكان بعض النساء يحفظن القاموس، وحكي أنه كان في قبيلة واحد في فترة من الفترات 300 فتاة تحفظ موطأ الإمام مالك.
ولم يكن غريبا أن يطلق على هذه الأرض بلاد المليون شاعر، فقد نبغوا في الشعر وصاروا يتناولونه كشربة ماء، وكان يبدعون في قرضه حيث ينسجون القصائد التي يمكن أن تقرأ في ثلاثة بحور شعرية: فعلها الشيخ سيديا وفعلها المختار ولد المعلى..
ومن إبداعهم في الشعر أنهم نسجوا على غير منوال عروضي سابق، كما فعل محمد سعيد ولد اليدالي في قصيدته في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم:
صلاة ربي
مع السلام
على حبيبي
خير الأنام
وكانوا لا يقتدون في الشعر إلا بفحول شعراء الجاهلية وصدر الإسلام، فعارضوا شعرهم كما فعل محمد ولد الطلبة الذي عارض قصيدة حميد ابن ثور الهلالي:
ألا هيما مما لقيت وهيما
وويحا لمن لم يلق منهن ويحما..
بقصيدة مطلعها:
تأوبه طيف الخيال بمريما
فبات معنى مستهاما متيما
كما عارض قصيدة الأعشى ميمون ابن قيس:
ما بكاء الكبير بالأطلال
وسؤالي وما ترد سؤالي..
فقال ولد الطلبة:
صاح قف واستلح على صحن جالي
سبخة النيش هل ترى من جمال..
وإذا كان المرابطون أو الشناقطة قد نشروا الإسلام في هذه الربوع وما جاورها شمالا وشرقا وجنوبا بالجهاد، فقد نشروه أيضا بالعلم عن طريق محاظرهم التي أنار إشعاعها إفريقيا السوداء وتطايرت شذراتها في أنحاء العالم العربي والإسلامي.
يؤكد الرحالة الأوربيون الذي جالوا في منطقة غرب إفريقيا في القرن السابع عشر والثامن عسر أن المرابطين البيضان هم من نقلوا الإسلام إلى الزنوج ولهذا كان لهم نفوذ قوي على شعوب غرب أفريقيا التي تنظر إليهم كأساتذة مرشدين في كل ما يتعلق بالدين وتستشيرهم في معظم شؤونها..
ويؤكد المستشرق الفرنسي بول مارتي أن الإسلام دخل السنغال وانتشر فيها بفضل
المرابطين البيضان ومشايخهم وأتباعهم..
يعتبر بول مارتي أن نفوذ البيظان في السنغال كان قويا، ويبرهن على ذلك بكلمة السنغال أو سنغان التي يقول "إنها كلمة عربية فرض علينا البيظان استعمالها للدلالة على منطقة السنغال بدلا من اسمها الولفي "كايور وجولوف".
وما أورده بول مارتي يتفق مع رواية الكثير من المؤرخين من أن نهر السنغال الحالي إنما كان يطلق عليه نهر صنهاجة، ولما وصل الغزاة البرتغاليون إلى المنطقة كانوا إذا كتبوا صنهاجة ينطقونها صنج أو صنغ فتم تحريف الكلمة حتى صارت صنغان.
وهكذا إذن وبفضل علماء الصحراء ومشايخها تغلغل الإسلام في أفريقيا وانتشرت اللغة العربية وصارت لغة المراسلات والمعاملات، ولم تعد مسؤولية نشر الثقافة العربية والإسلامية على البيظان وحدهم فقد تلقفها الأفارقة ونشأت بينهم مدارس انبرى مشايخها لنشر هذه الثقافة منهم على سبيل المثال أئمة فوتة والعديد من المشيخات الصوفية وكان عدد من أمراء دولة فوتا الإسلامية من تلاميذ الشيخ سيديا الكبير.
هذا إضافة إلى أن كل الطرق الصوفية المنتشرة في السنغال إنما هي مأخوذة من شيوخ وعلماء البيظان، فالشيخ أحمدو بمبا أخذ الطريقة القادرية من الشيخ سيديا بابا والشيخ إبراهيم إنيانس الكولخي أخذ الطريقة التيجانية على يد الشيخ محمد الحافظ الشنقيطي، وبدوره عمل الشيخ سعد بوه ولد الشيخ محمد فاضل على نشر الطريقة القادرية الفاضلية في السنغال وغامبيا وغينيا بيساو وغينيا كوناكيري.
ولم يكن المرابطون الرجال وحدهم من ذاع صيتهم وأضاء إشعاعهم إفريقيا السوداء بل إن زعيم دولة الأئمة في فوته الإمام "عبد القادر كان" أخذ العلم عن الشيخة المرابطة خديجة بنت العاقل..
وفي مالي كان مؤسس دولة ماسنا أحمد لبو تلميذا للشيخ سيد المختار الكنتي.
وقد أدرك الاستعمار الفرنسي المكانة الكبيرة للشناقطة في غرب أفريقيا فعمل على مضايقتهم وفرض الإقامة الجبرية على بعض شيوخ البيظان في أفريقيا ونفى البعض الآخر، لكنه اضطر للتعامل معهم فأسند لهم مهمة القضاء في السنغال وتغاضى عن الكثير من أنشطتهم الدعوية.
أما في البلاد العربية والمشرق الإسلامي عموما فحدث ولا حرج عن إشعاع الشناقطة بل إنهم حيثما ذكروا ذكر العلم والنبوغ والحفظ، بدء من المغرب الأقصى مرورا بالجزائر وليبيا والسودان ومصر والأردن ووصولا إلى بلاد الحجاز والعراق وتركيا والهند وغيرها..
ولا ننسى هنا كلمة الدكتور محيي الدين صابر الأمين العام السابق للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وهي الكلمة التي أفقنا عليها مرسومة في أغلفة كتبنا المدرسية، يقول:
"كانت صورة الشناقطة ـ وما تزال ـ في البلاد العربية أنهم الممثلون الأوفياء للثقافة العربية والإسلامية في نقائها وأصالتها، المرابطون في ثغورها حفاظا عليها ونشرا لها وإشعاعا بها."
ويقول طه حسين متحدثا عن شيخ شنقيطي لم يسمه: "كان الطلبة الكبار يتحدثون أنهم لم يروا قط مثيلا للشيخ الشنقيطي في حفظ اللغة ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب.."
ولا بأس أن نورد هنا على سبيل المثال لا الحصر بعض أعلام الشناقطة الذي بزوا أقرانهم في البلاد العربية والإسلامية، فنذكر من هؤلاء: محمد محمود ولد التلاميد الذي انبهر بعلمه أهل الحجاز وعلماء الأزهر فأسندوا إليه مهمة تدريس اللغة العربية، وقد حظي بمكانة كبيرة لدى أمير مكة الشريف عبد الله )ملك الأردن لاحقا( كما قربه السلطان العثماني عبد الحميد وأوفده إلى ملوك أوروبا في مهام علمية.
كمال الدين الملقب المجيدري ولد حبيب الله الذي نبغ في المغرب وفي مصر وقربه السلاطين في البلدين نظرا لسعة علمه وقوة حفظه، وقد أخد عنه عدد من العلماء المغاربة المعروفين مثل الشريف أحمد ابن إدريس السجلماسي مؤسس الطريقة الإدريسية في المغرب..
وجمع له سلطان مصر علماء من بلده لمناظرته ـ كما ذكر المؤرخ المختار ولد حامدن ـ فاقترح عليهم المجيدري أن يكون يوم المناظرة الأول للتعارف ولينتسب كل منهم لعشرة أجداد وفعلها هو، فلما كان من الغد سرد لهم المجيدري كل ما ذكروه من أنسابهم وطلب منهم أن ينسبوه فما استطاعوا وبهتوا..
الشيخ العلامة محمد الأمين الملقب آبه ولد اخطور غادر البلاد في رحلة حج فشاع في أرض الحجاز ذكره وبرز بين الناس علمه، فاستبقاه الملك عبد العزيز آل سعود لتدريس العلوم الشرعية واللغوية حيث سطع نجمه ونال عضوية هيئة كبار العلماء في السعودية، كما كان عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي واشتهر بكتابه "أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن."
الشيخ ماء العينين ولد الشيخ محمد فاضل، وهو من أبرز الشخصيات الدينية الشنقيطية التي اتجهت شمالا فاستقر بها المقام في المغرب، حيث ذاع صيته وانتشر علمه وكثر أتباعه، وقربه سلاطين المغرب بل وتتلمذوا عليه واستعانوا به في حربهم ضد الغزو الإسباني. وأسس الشيخ ماء العينين زوايا تابعة له في مختلف المدن المغربية وخاصة مراكش والسمارة وفاس..
محمد محمود التندغي: تولى منصب الإمامة في مكة ثم انتقل إلى العراق وكان في فترته من أبرز العلماء في بغداد وانتقل إلى الأردن حيث كان مقربا من ملكها عبد الله وتوفي هناك وعين الملك أحد أبنائه وزيرا للعدل..
محمد الأمين ولد فال الخير: كان متجولا بين بلاد الحجاز والهند والبحرين والكويت والعراق وهناك أنشأ جمعية علمية وشارك في مقاومة الاستعمار الإنجليزي محمد الأمين ولد زيني القلقمي: هاجر بمحظرته ابان دخول الاستعمار للبلاد مع مجموعة كبيرة من أهله وتلامذته فتنقل بين ليبيا والأردن وتركيا ينشر العلم بين الناس.
سيدي ولد أحمد بابا اليعقوبي الذي ذهب في رحلة حج ومر بأرض الكنانة فاستبقاه سلطانها فلبث في مصر ست سنين يستنسخ الكتب فأحسن السلطان وفادته ومتعه ب 30 جملا محملة بالميرة والكتب النفيسة.
محمد عبد الله ولد مايابا: ذاع صيته في مصر وكان من كبار المدرسين بجامع الأزهر وله مؤلفات كثيرة أهمها "زاد المسلم في ما اتفق عليه البخاري ومسلم."
وكما أسلفنا فقد عرف الفرنسيون قدر الشناقطة وقيمتهم العلمية الكبيرة واستيقنوا أن ما يروجون له في استعمارهم من جلب للحضارة والقيم لن ينطلي على الشناقطة فعملوا في البداية على محاربة تلك القيم وتلك الثقافة العربية الإسلامية فبدأوا بمحاولة طمس اسم شنقيط عبر استبداله باسم قديم بعثوه من مرقده، حيث يعود لفترة ما قبل الميلاد.
فقد كانت هذه الأرض وما جاورها شمالا تعرف باسم موريتانيا، وهي كلمة نصفها يوناني وهو مور وتعني السمر ونصفها لاتيني وهو تانيا وتعني بلاد، أي بلاد السمر..
وكان الإسبان يستخدمون التعبير نفسه ويقصدون به العرب المسلمين، حتى أنهم لما احتلوا الفلبين ووجدوا بها مجموعات من المسلمين سموهم الموروس.
وهكذا سعى الفرنسيون بإطلاق اسم موريتانيا على هذه البلاد إلى إصابة عصفورين بحجر واحد: طمس اسم شنقيط وما يحمله من دلالات عربية وإسلامية، والبحث عن رابط لهذه الأرض بالغرب عبر إحياء هذا الاسم الذي كان يطلق على أجزاء كبيرة من منطقة المغرب العربي في عهد الإمبراطورية الرومانية.
لكن الفرنسيين في كل الأحوال لم يكسروا شوكة الشناقطة أو الموريتانيين الذين قاوموا استعمارهم بكل ما أوتوا من قوة:
قاوموا الاستعمار بالجهاد فكانت معارك سهوت الماء وألاك ومال وامبود وبوكادوم وتجكجة والنيملان والرشيد وغيديماغة وكندلك والعزلات واكرارت لفرص ويغرف ولكويشيشي وواد سكليل وأماتيل والبيظ وأفام لخذيرات ووادان وتيشيت وولاته والكدية ونواذيبو وكدية الجل ووديان الخروب وأم التونسي وتوجنين وميجيك وغيرها..
قاوموه ثقافيا فانكبوا على تعلم دينهم ولغتهم وقاطعوا لغة المستعمر وثقافته ورفضوا معاملته ونبذوه اجتماعيا وظلوا ينظرون إلى الفرنسيين باعتبارهم كفرة لا يوالون ولا يخالطون ولا يناكحون، وإن حصل شيء من ذلك فهو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، ويبقى فاعله منبوذا في المجتمع..
قاوموه هجرة.. حيث حدثت هجرات جماعية في اتجاه المغرب والمشرق رفضا للاستعمار وخروجا من وصايته وامتثالا لقوله تعالى "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها.."
قاوموه سياسيا فمنذ أربعينيات القرن العشرين انخرط سياسيون موريتانيون في النضال السياسي دفاعا عن مصالح هذا الشعب وسعيا لاحقا إلى إقامة الدولة الموريتانية المستقلة..
لقد فهم الاستعمار ومنذ الوهلة الأولى أنه لا مستقر له في هذه الأرض فحسب لذلك حسابه وطبق القاعدة المعروفة (خذ خيرها ولا تجعلها وطنا) فلم يبن طرقا ولم ينشئ مدنا، بل عمل على إهمال وتهميش المدن التي كانت قائمة سلفا..
وهكذا خرج المستعمر منبوذا كما دخل.. واستقلت موريتانيا..
كان التحدي كبيرا والظروف صعبة والسياق الإقليمي غير مشجع، لكن شعب هذه الأرض كان أحق بها وأهلها فرفع التحدي وتم قبول موريتانيا في المحافل الدولية والعربية..
وبدأ البناء يكبر شيئا فشيئا وبدأت دعامات الاستقلال تتوطد فأممت الثروات وسكت العملة الوطنية وشيدت الطرق والموانئ والمطارات وسنت القوانين وأقرت الدساتير وبات الشعب رويدا رويدا يحكم نفسه بنفسه رغم الهنات والكبوات ـ عبر الانتخابات.. من خلال رئيس منتخب وبرلمان يمثل مختلف أطياف الشعب الموريتاني..
إنها الإرادة القوية والهمة العالية والعزيمة التي لا تلين.. وإنه لتوفيق رب العالمين..
إن أهم إرث تركه المرابطون هو أنهم رسخوا في أذهان أبناء هذه البلاد أن قيمة الانسان مرتبطة بالعلم والتعلم فشمروا عن ساق الجد وتحملوا المشاق والكد من أجل اكتساب العلم وتحصيله.
لقد تعانق القلم والسيف في هذه البلاد فحلقا بها في ذرى المعالي وتركا لأهلها ذكرا في الآخرين لا يطويه النسيان مهما تعاقب الملوان..
وهكذا كان المجد ينحصر هنا في خصلتين: عِلْم يحرس الدين والقيم، وفروسية تحمي الحمى والذمار..
ويروى أن أحد الشخصيات الموريتانية البارزة كان يخاطب أتباعه قائلا: "من ركب منكم فرسه فليجعل لوحه بينه وبين سرجه فإن الجهل هو أقبح ما يأتي به المرء الآخرة"، ويقول المثل الشعبي الموريتاني: "العيش إلا تحت الركاب والل تحت كتاب".
وقديما قال المتنبي:
أعز مكان في الدنا سرج سابح
وخير جليس في الزمان كتاب.