...{على الله توكلنا، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين} (78 الأعراف).
وتحدث الأستاذ الدكتور محمد محمود ولد محمد صالح فقال ما ملخصه: إن نظرية "الأفعال المنفصلة" ليست وليدة تعديل الدستور الفرنسي سنة 2007 كما ذُكِر؛ بل بدأ الحديث عنها منذ 1958 فتمخض عن آراء كثيرة وفقه دستوري وقضائي غفير، وتم اعتمادها كنص من نصوص الدستور الفرنسي بموجب تعديل 2007.
إنه إذن يكذبنا ويصدقنا في آن واحد! ومهما يكن أمر "الأفعال المنفصلة" في فرنسا، وما تعلق بها، فإنها لا تعنينا نحن في موريتانيا، ولا تسري علينا بحال من الأحوال.
وكنا نربأ بأستاذنا ودكتورنا الكبير عن اللجاج في قضية خاسرة، والتشبث - في غير اختصاصه - بمناط ما اطلع عليه من فقه فرنسي أثناء بحوثه الواسعة المضنية، ومحاولة استنساخه ولصقه في بيئة غير بيئته ومناخ غير مناخه وتشريع غير تشريعه. وذلك من أجل تبييض ردة عن الدولة ومصالح الشعب، ووأد مادة دستورية صريحة لا تحتاج - ولا تحتمل - استيرادَ أو "تَسَلُّفَ" أي تأويل أو تفسير تحت أي طائلة أو مبرر! خاصة إذا علمنا أن الاستشارة التي أعطى الأستاذ الدكتور في مجال القانون الدستوري، والمنشورة في "الأخبار" بتاريخ 17 يوليو 2020 - 10:58 لم تكن بحثا علميا محايدا؛ بل كانت باعترافها "ترتبط بالسياق الحالي الذي يتسم بالبحث المحتمل عن مسؤولية رئيس الجمهورية السابق"! وقال في ديباجتها: "بمقتضى المادة 93 من دستور 20 يوليو 1991 لا يكون رئيس الجمهورية مسؤولا عن أعمال قام بها في إطار ممارسته لوظائفه إلا في حالة الخيانة العظمى.
ولا يمكن اتهامه إلا من قبل غرفتي البرلمان اللتان تبتان عبر تصويت مطابق لأعضائهما في اقتراع علني وبالأغلبية المطلقة؛ وتتم محاكمته من طرف محكمة العدل السامية. ويشكل هذا النص إعادة كاملة لنص المادة 68 من الدستور الفرنسي المعتمد 1958 وقد بقي دون تعديل حتى القانون الدستوري رقم 022 - 2017 الذي بعد إلغاء مجلس الشيوخ أبدل في الفقرة الثانية كلمة "الجمعيتان" بالكلمتين "الجمعية الوطنية" وحذف كلمة "مطابق" (المادة 92، الفقرة 2، في صيغتها المتأتية من القانون الدستوري الاستفتائي رقم 022 - 2017 / ر . ج) المتضمن مراجعة بعض أحكام دستور 20 يوليو 1991) حيث يمكن أن نقول إنه في الجوهر، بقي النص كما هو".
وإني لأرى، والحالة هذه، أن الرأي الذي ختم به الأستاذ الدكتور الفاضل مداخلته في هذه المسألة أمام محكمتكم الموقرة هو أقرب للحق والتقوى، حين خاطبكم قائلا: " أنتم محكمة موريتانية وملزمة بالقانون الموريتاني"! ولا مراء في أن الدساتير أسمى من جميع القوانين والفقه والاجتهاد!
وتطرق الأستاذ الدكتور أيضا لمادة أعطاها رقم 18 من قانون محاربة الفساد ذكر أنها "تتناول وضعية هي الإثراء بدون سبب ولا تتناول أفعالا"! وهذا معناه الاعتراف بأن الاتهام لم يجد بينة على ارتكاب أفعال مجرمة من طرف المتهم، فآثر أن ينطلق من وضعية ثرائه النسبي! وكان حريا بغير الأستاذ الدكتور من بين أفراد فريق دفاع واستشارة النيابة، تبني مثل هذا القول تبييضا للعجز، وإسفافا وإسعافا بما يتحجج به حتى لو كان مخالفا لقوانين السماء والأرض! ولنا على هذا القول الردود التالية:
- أن المادة التي يعنيها من قانون مكافحة الفساد هي المادة 16 وليست المادة 18! وهي لا تُجَرِّم الإثراء بدون سبب كما ذُكِر، بل تجرم الإثراء غير المشروع!
- أن إقحام تلك المادة في هذا الجدل خروج عن موضوعه الذي هو الدفع بعدم الاختصاص وبموانع المتابعة بقوة الدستور! وقد يعني الخروج عن الموضوع إلى غيره الافتقار إلى حجة بالغة فيه!
- وعلى كل حال، فليس من الحصافة إثارة مادة من قانون مكافحة الفساد أو من أي قانون آخر في مواجهة مادة من الدستور!
- أن الإثراء غير المشروع لا بد أن يتم إثباته بارتكاب فعل مُجَرَّم نجم عنه ذلك الإثراء. فقرينة البراءة المنصوصة في المادة 13 من الدستور لا تنتهك إلا ببينة محققة! ولا تملك النيابة ودفاعها "المدني" والعسكري من بينة في هذا المجال سوى تصريح لولد عبد العزيز بأنه ثري افترضوا منه قيام الرجل بفعل مجرم هو الكسب غير المشروع؛ وهذا الافتراض يناقض الثوابت الدستورية التي تقضي بأن الأصل البراءة! والبراءة لا تنتهك بالافتراض والتخمين؛ بل بالجزم واليقين!
- وما دامت المادة - في نظر الأستاذ الدكتور - تتناول وضعية ولا تتناول أفعالا. وهذا يعني أن جميع الأثرياء في موريتانيا يوجدون في وضعية مُجَرَّمَة! فلماذا لا يرفعها إلا في وجه ولد عبد العزيز، ويتعامى عمن هم أكثر منه ثراء؟ وهل يجوز للعلماء اعتماد ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، حتى ولو كان الطرف الآخر خصما سياسيا عنيدا لموكلهم، وكان القضاء مسيسا ومَهينا؟!
- وهب أخيرا، أن تلك المادة منطبقة، وتسمو على الدستور، وأنها أثيرت في محلها، ووجدت عليها بينة، وهذه كلها افتراضات! أولا يعلم أ. د. أن عقابها ليس الحبس، ولا مصادرة الأملاك! وأنهم يحبسون الرجل، وصادروا ممتلكاته وممتلكات ذويه ومحيطه ظلما وعدوانا.. ونهبوا أموال الشعب أيضا!
وهنالك مداخلات وإسعافات أخرى ورد بعضها من خارج القاعة، ونشر بعض في الإعلام؛ منها ما لا عبرة به. ومنها ما هو في منتهى الغرابة، كقول أحد عمدائنا وهو يستخف عقول الناس: "إن الحصانة المذكورة لا يستفيد منها إلا رئيس ما زال في مأموريته وهو يزاول مهامه الدستورية المعتادة. أما المتهم في هذا الملف فلم يعد رئيسا للجمهورية والأفعال المجرمة المتهم باقترافها خارجة تماما عن التسيير الاعتيادي للشؤون العامة"! وكأنه هو الذي يحكم ويفتي في مدى مطابقة أفعال الرؤساء للتسيير الاعتيادي للشؤون العامة، أو لديه بينة على دعواه سوى الإسقاط! ولا يكتفي العميد الفاضل بقوله الغريب ذلك؛ بل ويتهمنا في هيئة الدفاع عن الرئيس السابق بأننا نتمترس خلف مقتضيات المادة 93 من الدستور حتى لا تنظر المحكمة في تفاصيل التهمة الموجهة إلى موكلنا! ونتساءل: أيهما أفضل وأشرف: أهو التمترس خلف مقتضيات مادة دستورية صادق عليها الشعب في استفتاء عام، وتحمي موكلنا من المساءلة والمتابعة والمثول أمام القضاء العادي المسيس والمخترق، وتصون دولتنا ووطننا من الفوضى. مادة يسعى الدبى لالتهامها، ويفتي نقباؤنا وعمداؤنا بوأدها ظلما وفسادا في الأرض وتدميرا لمؤسسات الدولة وتكريسا لفتح أبواب الفوضى المشرعة أصلا، أم التمترس خلف الشيخ الصوفي الـ فاضلي؟!
وجرى تداول آراء أخرى في موضوع المادة 93 نذكر لكم منها أخيرا - على سبيل المثال- رأي عراب دستور 20 يوليو 1991 الأستاذ محمد الأمين ولد داهي، ويقول فيه على شاشة "البرلمانية": "عندما تحصل لجنة التحقيق على حقيقة واضحة فهي لا تملك صلاحيات أي شيء مهما كان، ولا تملك إلا رفع توصيات إلى البرلمان. والبرلمان حسب الدستور الموريتاني، المادة 93 المتعلقة بما يسمى بمسؤولية رئيس الجمهورية. وهذه المسؤولية حافظتها ما يسمى بالحصانة. إذن جميع القضاة وجميع لجان التحقيق وجميع الأمور لا تستطيع المساس به إلا في حالة واحدة؛ وهي الخيانة العظمى. والخيانة العظمى حسب المادة 93 من الدستور تقول: إذا تبين للبرلمان أن هناك خيانة عظمى يمكن اتهام رئيس الجمهورية بهذه الخيانة، بشرط أن تصوت عليها الأغلبية المطلقة من البرلمان. ولا يمكن أن يحاكم إلا من طرف محكمة العدل السامية، وليست المحاكم العادية".