كثر الحديث بين أمس واليوم عن "الأجانب" و"المقيمين"، و"الخارج" واحتمال التدخل في شؤوننا الداخلية. وانقسم الناس ما بين مؤيد للفكرة ومعترض عليها. وقد يفوتُ على هؤلاء وأولئك أن موريتانيا تشكل منذ زمن بعيد منفذا على البحر وممرا سهلا للهجرة السرية نحو أوروبا، واليوم مع اكتشاف الغاز وبداية التعدين الأهلي واستغلال الذهب أصبحت وجهة مقصودة لذاتها، وتضاعف فيها عدد الأجانب. ولا شك أن موقعها الاستراتيجي هذا من شأنه أن يضيف إلى مشاكلها العادية والكثيرة مشاكل تسيير جاليات أجنبية كبيرة وتجمعات واسعة من المهاجرين والعابرين الشرعيين وغير الشرعيين. وهي مثل غيرها من الدول، تعيش فى عالم متشابك يجعل الخارج، شئنا أم أبينا، عاملاً مؤثراً فى شؤونها الداخلية كما يجعلها هي تؤثر أيضا في الشؤون الداخلية للغير. وقبل أن يقال بأني أبرر التدخل الخارجى، أسارع فأفرق بين أعمال السيادة التى لا تقبل مساومة أو تدخلاً، وأعمال السياسة التى لا ينبغي الحسم فيها داخليا دون النظر في تأثيراتها المحتملة على الخارج عموما والجوار خصوصا.
من واقع تجربتي الخاصة، أزعم أن لا أحد في الظروف الحالية من دول الجوار وشركائنا الدوليين يسعى لزعزعة الأمن والاستقرار في بلدنا أو انهيار اقتصادنا أو انفجار القلاقل في داخلنا، وذلك ليس حبا فينا، وإنما لحاجته هو في الاستفادة منا، و من دورنا بمنطقة الساحل الملتهبة، و إسهاماتنا في محاربة الهجرة السرية والعنف والغلو والاتجار بالبشر والمخدرات. لا أحد يريد لنا السقوط، خاصة منذ أن بدأ فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني يرسم دبلوماسية جديدة على أساس خمسة مبادئ، هي: الاستقلالية في القرار، والتعايش السلمي، والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والتعاون المثمر... مقتضى القول في نظري أن المجتمع الدولي بأسره، القريب والبعيد، يدرك خطورة زعزعة أمن موريتانيا على أمن واستقرار المنطقة برمتها، ويعي أهمية أن تبقى موريتانيا واقفة وقادرة على أداء أدوار إقليمية يصعب على الآخرين تأديتها في الحاضر والمستقبل المنظور… أعتقد أن الكلّ عونٌ لنا، لا علينا.
ومهما يكن من أمر، على الدولة الموريتانية أن تعتمد على نفسها وشعبها وخيراتها، وأن تطور وتعزز مكاسبها في مجال الحريات وحقوق الانسان، وترسم مساطر قانونية واضحة تحدد شروط الدخول إلى أراضيها والمغادرة منها والإقامة والشغل فيها، إلخ. وتبادر بإمضاء ما يخدمها من معاهدات واتفاقيات قنصلية ثنائية أو متعددة الأطراف تضمن للأجانب حقوقهم ولمواطنيها في الخارج التعامل بالمثل. والأهم من ذلك كله، إعطاء الأولوية المطلقة لنظام "الجدارة" و"الإنجاز" (mérite, achèvement, performance) في تسيير الموارد البشرية والمادية، ومحاربة الفساد. الجدارة هي الحل! بدءا بمراجعة النصوص والقواعد والمعايير الإدارية المعمول بها والمتعلقة باكتتاب وترقية الموظفين والوكلاء في أي مجال من المجالات، ثم التكوين والتدريب الدائم والتأهيل المستمر، وانتهاءً بمراقبة ومحاسبة المسؤولين بلا هوادة. ذلكم هو السبيل الأوحد للحفاظ على هيبة الدولة وفعّاليتها، والرّابطة الأقوى والعروة الوثقى التي تجعل المواطن يخاف من الدولة ويخاف على الدولة خوف "ثقة" و"خشية" و"احترام"، لا خوف "رعب" و "إرغام" كما كان لعقود طويلة؛ خوفٌ يتجلى في امتثال أحكام القانون والامتناع عن التعدي على المرافق العامة.
والله ولي التوفيق