أقتنع الانسان منذ القدم أن القانون يجب أن يفرض نفسه في مجال الصراعات، متكافئة كانت أو غير متكافئة من أجل الحد من آثارها على المتصارعين أنفسهم ،أو أن تطال الأبرياء والعجزة والاطفال والمرضي.
وقد شهد هذا الوعي تطورًا كبيرًا منذ القرن السادس عشر مع صراعات “العصابات ” أو ما يعرف ب les cartels ” و”اتفاقيات الهدنة” بهدف إضفاء الطابع الإنساني على معاملة ضحايا الصراعات ، وخلق قواعد عرفية،تكرس أخلاقيات معينة لدى المقاتل.
وبدأ تكريس المعايير القانونية الدولية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مستلهما أساسًا من رؤية شخصيات شاهدة على معارك دموية فى أوروبا والحرب الأهلية فى الولايات المتحدة الامريكية.
وتجسد هذا التطور مع اتفاقيات جنيف لعام 1906 واتفاقيات لاهاي لعامي 1899 و1907.
وقد تطور القانون الإنساني وقانون الحرب ليصبحا أكثر فعالية، خصوصا بعد أن أظهرت الحرب العالمية الأولى الطبيعة الغير مكتملة لهذه المعايير والصعوبات التي تواجه تطبيقها من قبل الدول، لتأتي اتفاقيات جنيف 1949 ببنودها ،والتي لا تزال تشكل أساس القانون الإنساني حتى يومنا هذا.
والهدف الاساسي لهذه الاتفاقيات هو حماية ضحايا الحرب، أي المقاتلين الذين تم إبعادهم عن القتال، والسكان المدنيين الذين يعانون من الآثار الضارة للصراعات، إذ لوحظ منذ بداية القرن العشرين أن نسبة ضحايا الحرب المدنيين أكبر بكثير من نسبة الضحايا العسكريين.
وتتمتع النساء والأطفال ضمن السكان المدنيين بحماية خاصة.
بالاضافة إلى حماية الجرحى والمرضى والغرقى والموظفين الطبيين والدينيين وأسرى الحرب والمراسلين الحربيين وموظفي الإغاثة والحماية المدنية والمنظمات واللاجئين، وبشكل أعم، جميع السكان المدنيين الداخلين فى دائرة النزاع المسلح.
وقد نشأ قانون مختلط يضم قواعد تنتمي إلى هاتين المجموعتين القانونيتين، وهما البروتوكولان الإضافيان لاتفاقيات جنيف 1949، والتي تم اعتمادها في 8 يونيو 1977 في جنيف، و اعتماد البروتوكول الإضافي الثالث لاتفاقيات جنيف 2005 من أجل حماية المتدخلين فى ساحة الصراع بإنشاء شارة إضافية – البلورة الحمراء – تتمتع بنفس الوضع الدولي الذي تتمتع به شارتا الصليب الأحمر والهلال الأحمر.
إن العدوان الحالي على غزة ، من منظور القانون الدولي، هو صراع غير متكافئ لا من حيث قوة كلا الطرفين ، ولا من حيث طبيعة رد الاحتلال ، وبالتالي فإن المجتمع الدولي يجب عليه التدخل لفرض قواعد قانون النزاعات المسلحة والقانون الدولي الإنساني المنطبق على النزاع المسلح، الذي قد يكون نزاعاً مسلحاً دوليا، أو نزاعا مسلحا غير دولي.
إن هذا العدوان يظهر مدى خرق بل ودوْسِ المبادئ الأساسية للقانون الدولي الانساني كمبدأ الإنسانية الداعي إلى تجنب الضرر غير الضروري الناجم عن استخدام القوة، قدر الإمكان.
كما يظهر تصرف الاحتلال فى غَزٌةَ عدم مراعاة مبدأ الضرورة العسكرية للهجمات، التي لا يجوز توجيهها إلا ضد أهداف عسكرية تساهم بشكل فعال في العمل العسكري.
كما ينعدم فى جولة العنف هذه إحترام مبدأ التناسب ، الذي يوجب الامتناع عن شن أي هجوم من المتوقع أن يتسبب في خسائر في أرواح المدنيين، أوخسائر أو أضرار قد تكون مفرطة.
ولا شك أن ما نشاهده يوميا من تطورات، ووقائع على مسرح الاحداث فى غزة يظهر مدى ضرورة تفعيل المجتمع الدولي لهذه الآليات بوصفها الاداة الوحيدة التي توصلت إليها البشرية لكبح جماح الحرب وجنونها وهمجيتها، وإلا فستكون إنتكاسة لكل القيم والقواعد التى أنتجها المجمتع الدولي “المتحضر” ودعوة إلى الرجوع إلى قانون الغاب وسلطة الأقوي.
د. محمد عمي / قاض-محاضر فى القانون العام بجامعة انواكشوط