ولدت موريتانيا ككيان مجهول الصفة وبقيت تدار طيلة فترة التربص من السنغال وعاصمتها سينلوي قبل منحها الحكم الذاتي وبعده الاستقلال على طبق من ذهب رغم تحديات الطامعين من كل فج وصوب وواكبتها قوة الاستعمار حتى وقفت على رجليها كدولة وليدة تواجه بطبيعة الحال تحديات جمة ومتجذرة منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي تم التغلب على معظمها خاصة الخارجي منها بدعم وبرعاية فرنسا القوة الاستعمارية الحامية لها وسلمت لها السلطة بخصوص سيادة البلد وتسييرها لشؤونها.
هنا كانت نقطة البداية الوقوف أمام المحك والرهانات والتحديات الكبرى أسندت فرنسا ملف سيادة الدولة واستقلالها لمجموعة من "أولاد لخيام لكبارات" لإدارة المرحلة الحساسة، تم إبعاد البرلماني سيدي المختار انجاي من هرم نظام الدولة الوليدة بعد أن كان من سنة 1955 حتى 1959 عضوا في البرلمان الفرنسي عن موريتانيا وهو الذي كان يمسك بملفها في تلك الفترة، وجاء مؤتمر ألاك وتم وضع مسار أسس على اعوجاج كبير و مظالم شحيحة لبعض المكونات الوطنية من بينها مكون الحراطين الذي يشكل نصف سكان البلد، تم تحديد نمط نظام الدولة الوليدة وانطلق القطار من حينها، ركابه "أولاد لخيام لكبارات" وحدهم، وولدت أول حكومة على وزن أخوك أبوك أفوك من المنظومة القبلية التقليدية الرجعية الممارسة للرق والنظرة الدونية الاقصائية لغيرهم وما زال الحال على حاله.
جاءت محطة القطار الثانية ليوصلنا لبدء الممارسة العملية للسلطة في نطاق منظومة الدولة ومؤسساتها ورسالاتها الخالدة، وهنا كانت المشكلة، كامنة في ما هو مفهوم الدولة الوطنية وماهي رسالتها، حصل من هذا الارتباك والتخبط والتلكؤ، الأخطاء الفادحة مما دفع البلاد نحو الانزلاقات والأزمات العميقة وإلى انهيار منظومة الدولة لصالح المنظومة القبلية الرجعية والاستعبادية التي لا تؤمن إلا بفكر الفوقية والتعالي على الناس، استولوا على الدولة واستولوا على كل مقدراتها ونظامها ومصالحها وإقصاء كل المجموعات الوطنية الأخرى وبعد ما تغذت وتعززت القبيلة بنظام سياسي أسس نمطه على الفكر الفلسفي الأيديولوجي القومي الضيق من مميزاته: إكسونوفوبيا والشوفنية والكراهية والعنصرية البغيضة.
وكانت من إفرازاته الخطيرة والمستفزة للآخر والمهينة له والمؤثرة على العيش المشترك والوحدة الوطنية، تتجلى تلك العوامل بالانفرادية المطلقة بالدولة ومقدراتها وذلك على النحو التالي:
- غياب عدالة الدولة وعدم تساويها لأفراد المجتمع الواحد؛
- استعباد واستغلال البعض حتى النخاع وإقصاؤه وحرمانه من جميع الحقوق الأساسية، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا؛
ولتوضيح الصورة أكثر لمن اختفت عليه، نوسع الزومzoom :
1. جميع رجال الأعمال والمال كلهم من مجموعة واحدة على أساس اللون والعرق،
2. جميع رخص الصيد أو التنقيب؛
3. جميع المقاولين والموردين،
4. جميع مديري المؤسسات الكبرى وحتى الصغرى،
5. كل المشاريع الكبرى والصغرى لنفس المجموعة،
6. كل الأراضي المفيدة سواء في الحضر أو الريف، احتووا عليها،
7. كل البنوك والمؤسسات الخدمية،
8. كل الناقلين وأصحاب السفن التجارية وسفن الصيد البحري،
9. %99 من موظفي الدولة وأصحاب الرتب السامية (مسؤولين إداريين، ولاة وحكام…)،
10. الجيش الوطني لم يكن جيشا جمهوريا لأن كل أصحاب الرتب السامين من نفس المجموعة مثلهم مثل الشرطة ومدارس الامتياز (المدرسة الوطنية للإدارة، مدرسة الضباط بأطار، مدرسة صغار الجيش مراكز التكوينpolytechniques والمنح والاكتتاب..) محصورة أساسا لبياض البشرة،
11. التعيينات في دوائر الدولة 99% لنفس المجموعة،
12. الصفقات والقروض البنكية أيضا،
13. %99 من السجناء هم من أصحاب البشرة السوداء.
هذه صورة قاتمة عن واقع في هذا البلد، وعما يعيشه البعض من ظلم وتعسف واستهداف في الصميم دون ناه أو منتاه.
أنا أسمي هذا النظام بنظام الميز العنصري البغيض، وأنتم ماذا تسمونه إن لم يكن كذلك؟
أليست هذه الوضعية مهددة للأمن والاستقرار وكينونة الدولة والمجتمع وتسبب في الاصطدامات بين المجموعات الوطنية بل مع الدولة الوطنية غير العادلة وغير المنصفة؟ الدولة التي تسلب الحقوق الأساسية من أصحابها وتقتل وتنتهك أعراضهم وكرامتهم، ألا يؤدي ذلك إلى ردود فعل متعصبة يمكن تفاديها من خلال إرساء العدالة والمساواة وتوزيع عادل للسلطة والثروة الوطنية وإشراك كل أبناء المجتمع دون تمييز في تسيير شؤون البلاد؟
ألا يكفي ظلما وعدوانا وانتهاكا لحقوق البعض!، ألا يكفي من سياسات الغبن والحرمان والإقصاء والاستعباد ونظرة الكراهية التهكمية؟ هذه الممارسات والسياسات الممنهجة التي خلقت العديد من الأزمات والأحداث الأليمة والقاسية وشديدة الخطورة والتي كاد بعضها أن يمزق كينونة الدولة والمجتمع من بينها أحداث: 1966 / 1974/ 1986 / 1989 - 1990 / كل هذه الأحداث وغيرها كثيرة والمليئة بالآلام والأحزان كان بعضها يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية حيث إن أطفالا دفنوا مع أمهاتهم وآبائهم أحياء في مقابر جماعية في عملية تصفية عرقية واسعة النطاق، شرد في نطاقها مئات الآلاف من أصحاب الأرض على أساس العرق وسواد البشرة في بلد كل سكانه يدينون الدين الإسلامي.
هذه الأحداث التي تتواصل بنفس الوتيرة وآخرها أحداث اغتيالات كيهيدي إثر الانتخابات الرئاسية الأخيرة 29/06/2024، التي قتل فيها أربعة من الشباب على يد قوى الأمن، ونترحم على أرواحهم مثل ما قتل الحقوقي الصوفي وآخرين في مخافر الشرطة، والأمثلة تطول، كل هذا خلف دونما شك جروحا عميقة في ذاكرة الأمة، ما زلنا عاجزين على التغلب على آثارها المؤلمة.
وأثرت كثيرا هذه الأوضاع على الوحدة الوطنية والوئام وعلى جو التعايش السلمي والتلاحم بين مكونات المجتمع، ضف إلى ذلك زرع الكراهية والحقد وانعدام الثقة كل هذا بفعل من تولوا على السلطة ولم يحسنوا تسييرها الرشيد واستباحوا دماء البعض بقوة الدولة بدل تسخير تلك القوة في إرساء دولة القانون الضامنة لحقوق الجميع دون تمييز، وتوفير الهناء والاطمئنان والسلم والرفاه للكل على حد السواء، الشيء الذي حدث عكسه مع الأسف من خلال التسيير الأحادي وسياسة الحرمان والإقصاء وممارسة الكراهية والفكر الضيق بشكل ممنهج مع التلاعب بالقيم الإسلامية وبالقيم الجمهورية.
في تصوري أنا، أن هذه الوضعية المتعقدة والمتجذرة والتي تهدد كينونة الدولة والمجتمع، تتطلب حوارا وطنيا جادا يفضي إلى معالجة الاختلالات الهيكلية ومرتكزات الدولة الوطنية المنهارة، حوارا بعيدا عن الحزبية وسياسات التملق والنفاق وديمقراطية موريتانيا المزيفة والعقيمة.
نحن اليوم في بلد غاب فيه العقلاء وغابت فيه النخبة الحية وغاب فيه الفقهاء وغاب فيه أصحاب الدين الرشداء وأصحاب الرأي الحكماء وأيضا أصحاب الضمائر الحرة الوطنيين، الجميع تمت عسكرتهم وتدجينهم، بمعنى أننا بلد جسم بلا روح وبلا ذاكرة، تلاعبه الرياح على أرض أشباح فوق حقل من البؤر.
ونرى أيضا أن قبل تصحيح هذه الأوضاع والاختلالات المخلة في جوهرها، لا فائدة من التطرق لأوضاع البلاد المزرية على كل الأصعدة والشلل الكلي الذي عطل وظائفها ويوقف الحياة العامة للدولة جراء سوء الحكامة وغياب إدراك مفهوم الدولة الوطنية لدى القائمين على شؤونها.