تعود الثورة الجزائرية في ذكراها السَّبْعين مُحمَّلة بميراث انتصار، تجلَّت فيه إرادة شعب، ودعم أمة، وتجاوب جزء كبير من سكان العالم.. ميراث يؤسس عليه اليوم الموقف من الاحتلال ومن ثورات الشعوب، خاصة في منطقتنا العربية، وتحديدًا في فلسطين.
ثورة الجزائر لم تكن يوما محّل مساءلة، ولن تكون، مع أن الجزائريين دفعوا من أجل التحرر ثمنا باهظا، وجربت فيهم كل وسائل الإبادة، بما فيها التجارب النوويّة، وكان في مقدورهم تحقيق مكاسب كبيرة بتكلفة أقل، إلا أنهم أصروا على الوصول إلى النهايات، وهذا حين كانوا يرون الاستقلال قريبا، ويراه غيرهم مستحيلًا أو بعيدًا.
ولأن الثورة الجزائرية مثلت ميلاد اليقين في زمن الشك، ونور الحرية في عصر الاستعمار، وتثوير الإيمان في ظل تراكم للخرافات والاستسلام، فقد حافظت على مدار العقود السبعة الماضية، أي منذ بزوغ فجرها، على قيمها السامية، وبرؤية المنصفين العقلاء لها تربعت على عرش «المرجعية السليمة»، ولهذا لم ينل منها الزمن لدى قطاع عريض من الجزائريين والعرب وأحرار العالم.
وبالعودة لقراءة جانبها النظري، أي فلسفتها وتنظيرها الفكري، سواء بالرجوع إلى بيانها الأول (بيان أول نوفمبر 1954م)، أو إلى أفكار المنظرين من قادتها، أو حتى الذين جعلتهم يلدون من جديد وينتمون إليها ــ فكرًا نضاليًّا وعملاً جهاديّاً ـ أمثال «فانز فانون»، أو من ناحية تقييم نتائجها، من ذلك اعتبارها الثورة الأكثر عدالة في سياق الصراعات الدولية وثورات الشعوب المستعمرة في القرن العشرين، فإننا سنجد مساحة الاختلاف حولها ضيقة من معظم شعوب العالم، ويستثنى من ذلك «الغرب الأوروبي».
لا يعنينا هنا تقييم الثورة الجزائرية من ناحية نتائجها، فهي معروفة، وقد كُلِّلَت بالانتصار في ظل قوة غير متكافئة، إذْ من أهم نتائجها ميلاد الدولة الجزائرية الحديثة، ثم إن الحديث عنها يمثل عودة إلى الماضي بظروفه المختلفة، إنما الذي يهمنا في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ أمتنا، هي تلك المواقف المستخلصة منها، التي ليس من الضروري تقليدها لأن لكل شعب تجربته الخاصة في المجال الثوري، وهذا لن يحول دون دراستها، إسهاماً لما يمكن أن نطلق عليه «التنوير الثوري».
المُلاحظ أنه من أهم المبادئ، التي تأسَّست عليها الثورة الجزائرية، ومن خلالها حققت انتصارها، والتي يمكن أن يؤخذ بها الثوار في العالم كلّه، ورفضت الدولة الجزائرية تصديرها، هي: استقلالية القرار الجزائري، ورفض التدخل الخارجي، حتى لو كان من الأقربين والأصدقاء، وعدم الاستهانة بالإمكانيات مهما كانت ضئيلة أو قليلة، وهي تذكر اليوم في معظم التحليلات والنقاشات، لكنها مجرد حديث نظري حَوَّلَهُ سوء الفهم إلى نوع من الافتراء، بسبب الخلاف حول المقاومة لدى العرب.
لقد ظهرت الثورة الجزائرية في سياق تشكل الوعي القومي العربي، وانطلاق حركات التحرر، بدءاً من الثورة المصرية عام 1952م، وفي ذلك الوقت كانت هناك رغبة جامحة لدى كل العرب للتحرر من الاستعمار، ولهذا حظيت بتأييد من محيطها المغاربي في بعدها الجغرافي، وأيدتها الحكومات والشعوب في البلاد العربية الأخرى، الأمر الذي أظهر بعدها القومي، كما ساندها كل أحرار العالم، وبذلك حققتها بعدها الإنساني، رغم أن وسائل الاتصال كانت محدودة في ذلك الوقت.
مهما يكن وصفُنا لتلك الثورة، فإنها تحل هذه الأيام في ذكراها السبعين، وهي تتجدد حضورا في خطاب الإعلام كلما ذكرت الأحداث الراهنة في فلسطين ولبنان، مع أن المعطيات الراهنة مختلفة عن تلك التي حدثت على انطلاقتها، حيث انهيار الجبهات الداخلية برفع شعار «أوطاننا عورة» وما هي بعورة، والعدو يحتل صداقة ومودة وتحالفا ـ مكانة في قلوب بعض العرب، ويلقى الدعم الكامل من القوة الأولى في العالم، ناهيك عن خوفنا من أيِّ مواجهة حتى لو كانت قوليَّة.. المدهش أن هذا يحدث الآن رغم أن أحوالنا المعيشية والتعليمية والاقتصادية أفضل مما كانت عليه حين قامت ثورة الجزائر.