
لست وفيا لأي مقهى في نواكشوط. ربما لأن هذه المدينة تنحاز لخيام الشاي أكثر من ساحات المقاهي. لكن بين المقاهي مقهى له رائحة القهوة، ولأن رائحة البن أحبّ إليّ من البن نفسه، كنت هناك قبل يومين.
خرجتُ من المقهى، وخرجت هي من العيادة المقابلة - عيادة تصفية الكلى - وجه شاحب، وابتسامة متمردة على الحزن والمرض. كانت لتوها قد صفت دمها بعد أن خانتها كليتاها.
تحدثت معها دقائق، لكن ذاكرتي عاندتني فلم أتعرف عليها، رغم نبرتها المألوفة وممازحاتها الطفولية عن الشيب الذي غزا وجهي ولحيتي.
أنهيت الحديث بدبلوماسية لا يمتلكها هنري كيسنجر، ثم افترقنا. وبعد ساعات، في عز حر أكتوبر، توقفت الذاكرة عن عنادها! إنها قريبة لي وزميلة قديمة من أيام الثانوية.
كنا نهابها في القسم ونتفادى الشوارع التي تمر منها لفرط جمالها.
انقطعت أخبارها بعد زواجها من قريب لنا، يكبرها بثلاثين عاما في السن، ويكبرنا بقرنين من الرزانة والتحضر.
أتذكر يوم صدور نتائج البكالوريا، حين نجحتْ بتفوّق في شعبة الآداب، بينما كنت أنتظر نتائج البكالوريا العلمية.
ثم التقينا بعد ذلك في قاعة الإركاب بمطار محمد الخامس. كانت أكثر جرأة، وأعلى صوتًا.
أخبرتني أنها خالعت العجوز وتزوجت برجل آخر، وأن دراستها توقفت عند البكالوريا. حينها، أخبرتها بزهوٍ طفولي أنني أحضر للماستر المتخصص.
ثم غابت مجددا عن المشهد، حتى جاء ذكرها ذات مساء، ونحن نسمع سدوم ولد ايده يغني لنزار قباني في مقام لبياظ:
"وقد كنتُ أيامَ البساطةِ أجملا".
في تلك اللحظة، بدأ صديقي يتحدث عنها كما يتحدث عن أغنية قديمة: عن زيجاتها التي صارت أكثر من أصابع اليد، ومراهقتها المتأخرة، ومطاعم الفاست فود، والسيارات التي تغيّرها كما تغيّر الأزواج.
طبعا، لم أكن لأنقل إليك، أيها القارئ المحترم، هذه القصة لولا أن الراديو في سيارتي بدأ يبث برنامجا في إذاعة RFI، يتحدث فيه خبراء عن الاحتباس الحراري واحتمال غرق مدن، من بينها نواكشوط.
لا أدري بالضبط كيف تشابكت في ذهني حكاية قريبتي — التي سنتفق على تسميتها "توتو" — مع حكاية مدينة نواكشوط.
لكن حين بدأت لعبة البحث عن الخيوط، وجدت ما يلي:
- نواكشوط وتوتو مهددتان بالغرق والفشل الكلوي.
- بعد الانقلاب على المختار، تعاقب على نواكشوط أنظمة عدة، لكل نظام سياسته وأولوياته، تماما مثل عرسان توتو.
- نواكشوط تتوسع بفوضوية وتعيش بفوضوية، كما تسهر توتو وتتزوج بفوضوية.
- نواكشوط تغير خططها التنموية كما تغيّر توتو مطاعمها وسياراتها المستعملة.
- نواكشوط لم تكمل صرفها الصحي ولا مساحاتها الخضراء، وتوتو لم تكمل تعليمها.
- نواكشوط تغص بمخيمات بيع المشوي وقاعات الأفراح، وكثير من مشاهيرها ليسوا قدوة، وتوتو تغرق في مراهقتها المتأخرة.
- نواكشوط اليوم تعاني أزمة أولويات: تنفق الملايين على نصب تذكاري، بينما تفتقر بعض مستشفياتها لأجهزة التصوير الطبقي، وتوتو — رغم مرضها — تنفق على سهراتها ومكياجها أكثر مما تنفق على علاجها. فكلاهما ينفق على المظاهر أكثر من العلاج.
- نواكشوط لا تنام، وتوتو عاشقة للسهر
- نواكشوط تبتسم رغم تهديد الغرق، وتوتو تبتسم رغم فشل كليتيها.
كلتاهما جميلة… لكنه جمال يحتاج إلى عناية، قبل أن يأتي الطوفان.