لم تكن المظاهرات التي انطلقت اليوم في القاهرة، والعديد من المدن المصرية الاخرى احتجاجا على اتفاق تنازلت فيه القيادة المصرية عن السيادة على جزيرتي “تيران” و”الصنافير” في مدخل خليج العقبة للمملكة العربية السعودية، مقابل استثمارات مالية ضخمة، على الدرجة نفسها من الضخامة بالمقارنة مع نظيراتها التي اطاحت بالرئيس المصري الاول، حسني مبارك، او الثانية، التي مهدت لتدخل الجيش لعزل الرئيس الثاني محمد مرسي (30 حزيران/ يونيو عام 2013)، ولكنها على درجة كبيرة من الخطورة، ليس لانها تحدت الحظر الرسمي على المظاهرات، وانما لانها كانت “نوعية” ايضا بالنظر الى المشاركين فيها، والداعمين لها.
عندما نتوقف هنا عند “نوعية” المشاركين فيها، فاننا نقصد انها لم تأت بتحريض من معارضي النظام التقليديين مثل حركة “الاخوان المسلمين”، وانما ايضا من النخبة الليبرالية في البلاد التي وقفت مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، في مواجهة حكم الاخوان المسلمين الذي مثله الرئيس المعزول مرسي، ووفرت له بالتالي مظلة “شرعية” كان بحاجة ماسة اليها.
***
نشرح اكثر ونقول، ان جبهة المعارضة للاتفاق المتعلق بالجزيرتين، ضمت شخصيات موالية للنظام ومن الوزن السياسي الثقيل جدا، مثل حمدين صباحي، واحمد شفيق، وعمرو موسى، ابرز ثلاثة مرشحين في انتخابات الرئاسة في مواجهة الرئيس مرسي، بالاضافة الى عدد كبير من الاكاديميين والاعلاميين البارزين، مثل الدكتور حسن نافعة، استاذ العلوم السياسية، والاديب علاء الاسواني، والسفير ابراهيم يسري، وابراهيم النجار، رئيس مجلس ادارة مؤسسة الاهرام الحكومية، وابراهيم عيسى، ويوسف الحسيني، وباسم يوسف، والعديد من ضباط القوات المسلحة الكبار المتقاعدين… والقائمة تطول.
لا نجادل مطلقا بأن هناك نسبة كبيرة من الاعلاميين والاكاديميين والسياسيين يقفون في خندق الرئيس السيسي، ويؤيدون “الاتفاق”، ويؤكدون على سعودية الجزيرتين تاريخيا، ويدعمون اقوالهم بالحجج والوثائق، لكن الجبهة المعارضة تستمد اهميتها ونفوذها، من كونها ظلت من الداعمين للرئيس السيسي، والمعادين بشراسة لحكم الاخوان، وانتقالهم هذا لم يات وليد اللحظة، وانما نتيجة تراكمات واخطاء، ابرزها الانهيار الاقتصادي، وتدهور سعر العملة الوطنية، وتغول الاجهزة الامنية ضد المعارضين، وتراجع مكانة مصر الاقليمية والدولية، والفشل في القضاء على الارهاب في سيناء خاصة، وتقليص اخطار سد النهضة الاثيوبي، بعد ان تعذر منع اقامته.
الرئيس السيسي ومنذ انتخابه، وبنسبة تزيد عن التسعين في المئة في ايار (مايو) عام 2014، لم يواجه مطلقا معارضة “نوعية” على هذه الدرجة من الخطورة، ويعود ذلك الى ان التنازل عن الجزيرتين مسّ عصبا مصريا وطنيا شديد الحساسية يتعلق بـ”قداسة” الارض لدى المواطن المصري، وجاء في التوقيت الخطأ، وقبل ان يراكم النظام انجازات اقتصادية او سياسية ضخمة توفر له الرصيد الشعبي الذي يمكن ان يستند اليه لتقديم تنازلات كبرى في هذا المضمار.
وسائط التواصل الاجتماعي التي اطاحت بنظام الرئيس حسني مبارك بعد اكثر من ثلاثين عاما من الاستبداد والقبضة البوليسية الحديدية بدأت “الحراك” ضد الرئيس السيسي، وان كان بدرجة اقل حتى الآن، بالمقارنة بتحركها الذي ساهم بدور كبير في تفجير ثورة يناير عام 2011، ولكنه حراك مرشح للتسارع في حال فشلت السلطة المصرية في تجاوز الازمة الحالية وبسرعة، فانضمام قطاع عريض من الليبراليين، ورجال النظام، وبعض قادة الجيش المتقاعدين وشخصيات اعلامية مؤثرة، الى جبهة المعارضة الاسلامية الاخوانية، وان اختلفت المعتقدات والايديولوجيات، تحول محوري لا يجب التقليل من اخطاره المستقبلية على النظام الحاكم.
شرعية النظام في مصر بدأت في التآكل، وبشكل متسارع، ونختلف كثيرا مع الذين يقولون ان الازمة الحالية مؤقتة، وسيتم تجاوزها مثلما تم تجاوز الازمات السابقة، فعندما تطالب شريحة كبيرة من رحم النظام باسقاطه ورحيله في حال عدم تراجعه عن القرار، مفجر الازمة، اي التنازل عن الجزر، ويهتف المتظاهرون المعبرون عن توجهاتها هذه “يسقط.. يسقط.. حكم العسكر”، فهذا تطور يجب ان يقلق “المؤسسة العسكرية المصرية” التي اوصلت الرئيس السيسي الى قمة الحكم، وقدمت له كل الدعم الذي يريد.
***
في العالم الثالث، او معظمه، المؤسسة العسكرية (الجيش) هي الوحيدة التي تحفظ امن البلاد واستقرارها، وتسقط الانظمة، او تبقيها في السلطة، هذا ما حدث في تركيا وباكستان وتونس ومصر ايضا، وهذا ما يفسر ان يكون اول قرار اتخذه الحاكم العسكري الامريكي الاول للعراق المحتل بول بريمير، هو حل الجيش العراقي، لقتل الهوية الوطنية الجامعة، وتفكيك الدولة ومؤسساتها.
المؤسسة العسكرية المصرية هي التي اغتالت الرئيس محمد انور السادات، وهي التي اطاحت بالرئيس حسني مبارك، وومن بعده الرئيس المنتخب محمد مرسي، وهي التي اجهضت عملية التوريث، ومن المؤكد ان هذه المؤسسة تراقب الوضع الراهن في البلاد عن قرب، ولن تتردد في التدخل اذا احست ان الدولة تفقد هيبتها، وتتجه نحو الانهيار.
الاحتقان يسود الشارع المصري مجددا، مع فارق واضح وهو انه احتقان ممزوج بالغضب، وبدأ دخانه يخرج الى السطح، ويمكن مشاهدته بوضوح، ودون عدسات مكبرة، وهذا امر يدعوا الى القلق فعلا، قلق المؤسسة العسكرية، وقلق السلطات الحاكمة المنبثقة عنها، فهي الحاكم الفعلي، وان من خلف ستار، واكثر شيء يستفزها، ويثير حنقها، ان يخرج احدهم ويطالب باسقاطها، ويجرح هيبتها بالتالي.