التحقت موريتانيا بركب البلدان التي تمنح رخصاً لمواطنيها من أجل التنقيب التقليدي عن الذهب، وقد سبقتها إلى ذلك بلدان الجوار الأفريقي من مالي والسنغال إلى بوركينافاسو وغانا، حيث تعيش آلاف الأسر الفقيرة على التنقيب عن الذهب، وظهرت تجمعات سكانية جديدة في بعض المناطق أصبحت تعرف بـ"مدن الذهب".
مع مطلع شهر أبريل الجاري بدأ إقبال الموريتانيين على صحراء إينشيري، شمال غربي البلاد، للتنقيب عن الذهب باستخدام أجهزة "كشف المعادن النفيسة"، وبدأ الحديث عن العثور على كميات من "الذهب النقي" وبجودة عالية في صحراء إينشيري، وتحديداً في منطقة "تيجيريت" ومرتفع "الدواس" و"تازيازت"، وهي مناطق تقع على خاصرة "ظهر الركَيبات"، الممتد على طول الحدود الشمالية لموريتانيا.
كثرت القصص وتضاربت الروايات حول حقيقة "ذهب إينشيري" الذي قيل إن العثور عليه لا يتطلب سوى جهازاً للكشف عن المعادن وسيارة رباعية الدفع وزاداً للجلوس في الصحراء عدة أيام، وفي النهاية ستعود وبحوزتك كميات من الذهب لن تتأخر في بيعها، فأسواق نواكشوط تغص بالمحلات التي تشتريها على الفور بأكثر من 11 ألف أوقية للغرام الواحد.
من جهة أخرى ورغم الزخم الكبير الذي أخذه "ذهب إينشيري"، انتهت رحلة الكثيرين بخيبة أمل كبيرة، فبعد أن اقترضوا الأموال أو باعوا ممتلكاتهم لتمويل رحلة الثراء السريع، ابتلعت صحراء "تيجيريت" حلمهم الكبير، وتكسرت عزائمهم على صخور "الدواس"، ولكن شبح الأزمة الاقتصادية ونسبة البطالة (32%) يدفعان الكثيرين لإعادة المغامرة.
رغم تضارب الروايات التقت "صحراء ميديا" بشاب يقول إنه تمكن بعد أسبوعين من البحث والتنقيب ضمن مجموعة تتكون من أربعة أشخاص من العثور على قطع صغيرة من الذهب يصل وزنها مجتمعة لقرابة مائة غرام من الذهب، ويستعد لخوض التجربة مرة أخرى لأنه مقتنع أن العملية مربحة جداً، فقاده ذلك إلى إهمال المحل التجاري الذي يملكه في أحد أكبر أسواق العاصمة، وكان يمثل بالنسبة له استثمار العمر، إلا أن بريق الذهب أقوى من عرق السنين الذي أنفقه في تربية محله.
يقول الشاب الذي فضل حجب هويته إن دافعه الوحيد للعودة هو سماع أخبار متداولة بأن عدة أشخاص حصلوا على أكثر من كيلوغرام من الذهب، وهي كمية تستحق المغامرة وتكرار التجربة عدة مرات، ولكن عندما سألناه إن كان قد وقف على كميات كبيرة من الذهب حصل عليها أشخاص آخرون، أجاب بالنفي فكل ما لديه من معلومات سمعها من آخرين أغلبهم تجار ومعارف في السوق والشارع.
نقطة ساخنة
ينقل الشاب صورة نابضة بالحياة في منطقة تيجيريت التي ظلت لعدة عقود لا يتحرك فيها إلا قطعان الإبل أو قوافل الباحثين الجيولوجيين الذين توفدهم شركات التنقيب بحثاً عن آثار الذهب والفضة والمعادن النادرة؛ وبين عشية وضحاها تحولت هذه المنطقة الواقعة في قلب فضاء "تيجيريت" إلى منجم صغير ينشط فيه مئات الأشخاص، بين من يحمل جهازه وهو يجس الأرض بهدوء وتأنٍ، ومن يحمل معوله لنبش موقع خُيل إليه أن الجهاز رنّ عندما مر من فوقه.
اللثام هو الرفيق الذي لا غنى عنه لجميع العاملين في هذا المنجم الصغير، فعواصف الصحراء لا تتوقف عن الصفير وهي تحمل معها غبار فضاء صحراوي مفتوح جعلته طبيعته الجيولوجية وموقعه الجغرافي واحداً من أكثر مناطق العالم جفافاً، أما شبح العطش فهو الحاضر بقوة في مخيلة الجميع، فأقرب نقطة ماء تقع على بعد أكثر من خمسين كيلومتراً، "إنها مغامرة كبيرة" يقول الشاب وهو يلتفت نحو رفيقه الذي لم يخض التجربة بعد.
على هامش البحث عن الذهب في هذه المنطقة ظهر تجار يبيعون الماء في صهاريج كبيرة، مقابل مائة أوقية للتر الواحد، وكأنهم بذلك يؤكدون للوافدين الجدد والساعين وراء "المعدن النفيس" أن الماء هو أغلى ما يمكنهم أن يجدوا في صحراء مترامية الأطراف.
عديدة هي القصص المشابهة لحالة هذا الشاب، فالتقديرات تشير إلى أن عدد الواصلين إلى صحراء إينشيري تجاوز الآلاف من مختلف الفئات العمرية والطبقات الاجتماعية، فأحد العائدين من هناك يتحدث عن "زحمة وحركة مرور" ومئات السيارات رباعية الدفع تشق بمحركاتها سكون الصحراء، حتى أن المنقبين عن الذهب أطلقوا اسم "نقطة ساخنة" على منطقة في تيجريت تحولت إلى منجم صغير.
الموريتانيون والذهب
لم يسبق أن عرف سكان هذا الحيز الصحراوي عمليات تنقيب عن الذهب بالوسائل التقليدية، على الرغم من قربه من ممالك وإمبراطوريات كانت تعتمد على الذهب في اقتصادها، ولعل من أشهرها إمبراطورية مالي في عهد الحاج مانسى موسى في القرن الرابع عشر الميلادي، وهو الذي يوصف بأنه الرجل الأغنى في التاريخ بعد أن قهر مناجم الذهب وتسبب في أزمة عالمية هددت مكانة "المعدن النفيس".
يفسر بعض المهتمين بالتاريخ ممن التقتهم "صحراء ميديا" ابتعاد الموريتانيين عن الذهب طيلة القرون الماضية بعدد من المعتقدات الدينية والعادات الاجتماعية الراسخة في عقلية إنسان الصحراء، فبعض القبائل الموريتانية ظلت وإلى وقت قريب تتجنب امتلاك الذهب، بل وتعد ملامسته والاقتراب منه أمراً خادشاً للحياء.
المفارقة هي أن الموريتانيين الأوائل نشطوا في أنشطة اقتصادية عديدة في مقدمتها استغلال سباخ الملح الذي كانوا يسمونه بـ"الذهب الأبيض"، ولكن ذلك لم يجعلهم يفكرون في البحث عن الذهب على غرار جيرانهم الأفارقة الذين كانوا يشترون منهم الملح.
يقول خبير جيولوجي تحدثت معه "صحراء ميديا" إن السنغال بدأت منذ عدة سنوات تنظيم قطاع "التنقيب التقليدي عن الذهب" لأن الكثير من الفقراء يعيشون على عائداته، فتمنحهم الدولة رخصاً للتنقيب في منطقة يطلق عليها اسم "ممر تقليدي" لا يسمح للشركات الصناعية بالتنقيب فيه وإنما يخصص للأفراد فقط.
ويضيف الخبير وهو موريتاني الجنسية يعمل في شركة أجنبية، أن ما يجري الآن في موريتانيا سبق أن حدث في غانا منذ أكثر من ربع قرن، وبدأ في مالي قبل ذلك بكثير، وتستخدم فيه أجهزة للكشف عن المعادن النفيسة، ولكنه يمر بعد ذلك بمراحل كثيرة قبل الوصول إلى "الذهب النقي".
حقيقة الذهب
يبقى السؤال الذي يطرحه أغلب الموريتانيين اليوم هو "ما حقيقة الذهب"، في ظل تعدد الروايات عن العثور على كميات كبيرة منه، وتداول صور عبر مواقع التواصل الاجتماعي لحجارة ذهبية اللون على أنها ذهب جادت به صحراء تازيازت على أحد المحظوظين.
يقول الخبير الجيولوجي المختص في التنقيب عن المعادن النفيسة، إن "الصور المتداولة عبر مواقع التواصل الاجتماعي منذ فترة سخيفة جداً، لأنه من غير المنطقي وجود الذهب بهذه الدرجة من النقاوة في الصحراء، إلا في حالات نادرة جداً جداً".
ويشرح الخبير بالقول إن الباحثين التقليديين عن الذهب إنما ينقبون عن "أنواع من الحجارة يكون تركيز الذهب فيها مرتفع أو متوسط، ويوجد هذا النوع من الحجارة بكثرة في المناطق الشرقية من السنغال على الحدود مع مالي، والتنقيب عنها مرخص له في العديد من بلدان العالم كالولايات المتحدة الأمريكية".
ولكن الخبير أوضح أن عملية تصفية الذهب من الحجارة عملية شاقة وطويلة وتتطلب قدراً كبيراً من الصبر والتأني، مشيراً إلى أنها "تتم باستخدام الماء والجاذبية لعزل الذهب عن بقية الحجارة والمعادن المختلطة معه بقدر المستطاع، ولكنه في تلك الوضعية ليس ذهباً نقياً بل هو بعيد عن ذلك"، على حد تعبيره.
الذهب القاتل
على الرغم من أن الموريتانيين ما زالوا يبحثون عن "القطع الذهبية" التي تفرزها الطبيعة وعوامل التعرية، وهي قطع نادرة وتمثل نسبة ضئيلة جداً من الذهب الذي تختزنه المناجم عادة، إلا أنه من الطبيعي أن يصلوا فيما بعد إلى مرحلة تصفية الذهب من التربة، وربما اللجوء إلى مواد كيميائية، فما حل الذهب بأرض إلا أعمى بريقه الأصفر عيون المتعطشين لمعدن لا يزيدك الحصول عليه إلا تعطشاً للمزيد منه.
السلطات الموريتانية استشعرت الخطر المحدق بالطبيعة وبالإنسان من وراء هذه العملية فمنعت استخدام المواد الكيميائية، وسنت عقوبات واضحة لمن يخالف القوانين الجديدة، إلا أن شكوكاً كثيرة تحوم حول تطبيق القوانين في موريتانيا.
بالنظر إلى التجربة في السنغال ومالي المجاورتين يؤكد الخبير الجيولوجي الذي تحدث لـ"صحراء ميديا" أن مناجم الذهب التقليدية عادة ما تكون تحت سيطرة شبكات خفية وقوية النفوذ، تهيمن على العملية في مختلف مراحلها، مشيراً إلى أن المنقبين التقليديين عن الذهب في السنغال بعد الحصول على الحجارة الممزوجة بالذهب يبيعونها لشبكات في مالي تتولى عملية التصفية باستخدام "أساليب يدوية خطيرة جداً، كثيراً ما تودي بحياتهم"، فمن خلال خلط الزئبق والسيانير مع الكربون يحدث تفاعل كيميائي يمكن من عزل الذهب بنسبة قد تصل إلى 85 أو 90 في المائة.
ويوضح الخبير الجيولوجي: "لا بد من عملية كيميائية دقيقة جداً كما يحدث في المصانع الكبيرة التي تديرها شركات عملاقة، وفي ظروف بيئية وعلمية مناسبة، لا تتوفر لدى هذه الشبكات التي تعمل خارج القانون".
ذهب المجانين
عندما عرضنا على الخبير الجيولوجي بعض الصور التي تداولها الموريتانيون على أنها لقطع ذهبية كبيرة الحجم تم العثور عليها في صحراء إينشيري، قال إن العثور على قطع ذهبية بهذا الحجم قد يحدث ولكنه "نادر جداً".
وأضاف: "هنالك معدن كبريت الحديد ويسمى (البايرايت)، كثير جداً في منطقة تازيازت، وقد وقفت على كميات كبيرة منه في نفس المنطقة، وهو معدن لماع ولونه ذهبي ويطلق عليه اسم (ذهب المجانين)، ومن المعروف تاريخياً أنه خدع الكثير من الأمريكيين الذين ظنوه ذهباً".
يشتهر معدن (البايرايت) لدى الخبراء باسم "الذهب الكاذب" لأن هواة البحث عن الذهب يخلطون بينه والذهب للشبه بينهما في اللون والشكل؛ ويؤدي انصهاره إلى ظهور أثار من الذهب والفضة.
وتشير الموسوعة العلمية للمعادن النفيسة إلى أنه "لا توجد طريقة عملية للتمييز بين كبريت الحديد (البايرايت) والذهب الخالص، سوى أبحاث علمية دقيقة تستمر لقرابة أسبوع للتأكد من أن حجراً أصفر هل هو ذهب خالص ثمين أم كبريت حديد رخيص".
الذهب في موريتانيا
بدأت قصة الذهب في موريتانيا عندما منحت أول رخصة للتنقيب عنه لصالح "شركة نحاس موريتانيا MCM" عام 1968 على مساحة تصل إلى 81 كلم مربع في صحراء إينشيري، ولكن القصة الحقيقية بدأت مع منجم تازيازت عام 2004 عندما حصلت شركة "لاندين" البريطانية على رخصة تنقيب قادتها إلى اكتشاف "احتياطات هائلة" من الذهب في تازيازت، إلا أنها فضلت أن تبيع أنشطتها لشركة "ريد باك ماينينغ" الكندية مقابل 600 مليون دولار، التي استثمرت بدورها مبلغ 210 ملايين دولار لتطوير المنجم وبدأت أنشطتها عام 2008، إلا أنها قررت أن تبيع المنجم عام 2010 لشركة "كينروس" الكندية مقابل 7 مليارات دولار أمريكي.
تخطط شركة "كينروس" لتحويل منجم تازيازت إلى ثاني أكبر منجم للذهب في العالم، من خلال مشروع توسعة سيكلفها 920 مليون دولار أمريكي.
يوضح الخبير الجيولوجي في حديثه مع "صحراء ميديا" أن الحديث عن مناجم كبيرة لاستخراج الذهب أحدث نوعاً من اللبس لدى الموريتانيين، قبل أن يضيف: "المعلومات المتوفرة حتى الآن تؤكد أن الذهب الموريتاني موجود بمنطقة جيولوجية تسمى (غريين شيست)، وهي منطقة غنية بالذهب ولكن لا تمكن رؤيته بالعين المجردة".
وأضاف أن شركة تازيازت يتوجب عليها أن تعالج طناً من الحجارة لتحصل على 2 إلى 2.5 غراماً من الذهب، ولكن غرامات الذهب هذه ليست معزولة وإنما مندمجة بشكل تام في الصخور والحجارة ولا تمكن رؤيتها بالعين المجردة إلا بعد المرور من منظومة صناعية وتفاعلات كيميائية معقدة جداً، على حد تعبيره.
وتصل قدرة المعالجة لدى الشركة إلى 8 آلاف طن من الحجارة يومياً، ما مكنها عام 2015 من إنتاج 602 طناً من الذهب؛ إلا أنها تطمح في إطار مشروع التوسعة الجديد إلى رفع قدرة المعالجة لتصل إلى 30 ألف طن من الحجارة يومياً، رغم تضررها من انخفاض أسعار الذهب عالمياً وارتفاع كلفة الإنتاج.
الحكومة والذهب
التقديرات الحكومية تشير إلى أن موريتانيا تتوفر على مخزون من الذهب يصل إلى 25 مليون أونصة من الذهب، وأونصة الذهب تعادل 31.1 غراماً، ولكن أغلب هذا الذهب وكميات أخرى غير معلن عنها، ما يزال مخفياً في خرائط سرية وأخرى لم تنشر بعد.
ولكن الخبراء يؤكدون أن الذهب الذي تتحدث عنه التقديرات ليس صالحاً للتنقيب الفردي وبالطرق التقليدية، وإنما ذهب ممتزج مع الصخور والمعادن الأخرى ويتطلب الحصول عليه مصانع وآليات متطورة، وقد استغرب الخبراء حجم الاندفاع الكبير الذي طبع استجابة الموريتانيين للحديث عن ذهب صحراء إينشيري.
ولكن رجل أعمال مهتم بالموضوع التقت به "صحراء ميديا" كان له تفسير آخر لما يجري، حين أكد أن القصة بدأت بالصدفة ولكن عوامل عديدة سعت إلى تضخيمها وجر المواطنين إلى لعبة سيكتشفون في النهاية أنهم أكبر الخاسرين فيها، على حد تعبيره.
ويضيف رجل الأعمال الذي يتمتع بشبكة علاقات واسعة، أن الدولة هي المستفيد الأول مما يجري فمن خلال جمركة أجهزة التنقيب عن الذهب جنت حتى الآن -ومن دون عناء- أكثر من ثلاث مليارات أوقية، بالإضافة إلى أنها كسبت مليار أوقية من منح رخص التنقيب عن الذهب، ولكم أن تتصوروا -يقول رجل الأعمال- أن هذه الرخص ستجدد بعد أربعة أشهر والإقبال عليها ما يزال مرتفعاً في ظل تقديرات تشير إلى تسجيل أكثر من 16 ألف راغب في الحصول عليها.
العامل الآخر الذي سعى إلى تضخيم الوضع، يضيف رجل الأعمال، هم تجار أجهزة التنقيب عن الذهب الذين يتعاملون مع شركات اشتهرت في العالم بمثل هذه الحيل، حيث تمول حملات إعلانية تنتهي برواج أجهزتها لتبيع أكبر كمية ممكنة قبل أن يكتشف الضحية حجم الكذبة التي انطلت عليه.
وبين هذا وذاك يقول أحد الناشطين الشباب إن الاستفادة الكبرى تلك التي أحرزها نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز، بعد أن خطف بريق الذهب أنظار الموريتانيين عن ملفات تعديل الدستور والأزمة الاقتصادية والبطالة وارتفاع أسعار المحروقات وحبس الصحفيين، وأشياء أخرى كثيرة كانت حديث مجالس الموريتانيين، والآن لا صوت يعلو على قصص العائدين من رحلة البحث عن الذهب.