«التاريخ يعيد نفسه، في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة». مقولة شهيرة لكارل ماركس. ولو كان ماركس يعيش بيننا الآن لقال إن مقولته تلك تنطبق حرفياً على الصراعات التي يشهدها العالم العربي خصوصاً والإسلامي عموماً بين طوائفه ومذاهبه المتناحرة، وخاصة بين الشيعة والسنة.
من المحزن أن المتصارعين مذهبياً وطائفياً في عالمنا التعيس لم يستفيدوا قيد أنملة من تجارب التاريخ وصراعاته المشابهة. وإلا لما دخلوا أصلاً في صراعاتهم الحالية التي تعتبر نسخة هزلية عن حرب الثلاثين عاماً في أوروبا بين البروتستانت والكاثوليك. صحيح أن المسلمين سبقوا البروتستانت والكاثوليك بقرون في صراعاتهم السياسية المتدثرة بثوب ديني ومذهبي منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن المسيحيين عادوا بدورهم وطبقوا مقولة كارل ماركس أعلاه دون أن يستفيدوا بدورهم من تجارب المسلمين المريرة. وها هم المسلمون يكررون كوارثهم التاريخية الآن دون أن يستفيدوا بدورهم من صراعات المسيحيين في القرن السابع عشر التي اندلعت عام 1618 ودامت حتى 1648.
بعض الجاهلين بحقائق التاريخ، كما يجادل الباحث والكاتب سعد محيو، يعتقدون أن ما تمر به منطقتنا من صراعات وحروب مذهبية وطائفية فريدة من نوعها، بينما هي في الواقع مجرد نسخة كربونية عما فعله الأوروبيون ببعضهم البعض قبل أكثر من أربعة قرون. قد تظنون أن التوصيف التالي هو وصف لحالة العالم العربي الآن. لا أبداً. إن ما ستقرأونه في السطور التالية هو وصف لما حدث لأوروبا في القرن السابع عشر إبان حرب الثلاثين عاماً. لنقرأ أولاً:» إنها منطقة يُمزِّقها الصراع المذهبي بين تقاليد واجتهادات متنافسة في الدين نفسه. لكن الصراع يجري أيضاً بين المعتدلين والمتطرفين، وتُغذيه القوى الإقليمية المجاورة (والقوى الدولية) التي تسعى إلى تعزيز مصالحها الخاصة وزيادة نفوذها. النزاعات تحدث بين دول المنطقة وفي كل دولة، بحيث أصبح من الصعب التمييز بين الحروب الأهلية وبين الحروب بالواسطة، وبين الصراعات الدولية والاقليمية. ولذا فهو أيضاً صراع ديني يختلط بشدة بالتنافسات الجيو ـ سياسية التي تُفقد الحكومات السيطرة على المجموعات الصغيرة ـ الميليشيات ومثيلاتها ـ العاملة داخل الدولة وعبر الحدود، وتغيّر كل الخرائط السياسية. إن الخسائر في الأرواح هائلة وتكاد تبيد نصف سكان المنطقة، وكذلك الأضرار مخيفة على الصعد البيئية والاقتصادية والاجتماعية. الفظائع الإنسانية مروّعة، والملايين باتوا بلا مأوى».
هذا كان وصفاً ليس لمنطقتنا في القرن الحادي والعشرين، كما يقول محيو، بل لأوروبا في القرن السابع عشر، كما لو أن ماضي أوروبا بات حاضرنا الذي قد يعاني الآن من أعراض ثلاثين سنة مدمرة مماثلة قادمة.
الحرب الأوروبية بدأت العام 1618 حين حاول فيرديناند الثاني ملك بوهيميا، الذي أَصبح لاحقاً امبراطور روما المقدسة اللاحق، فرض العقيدة الكاثوليكية المُطلقة على مناطق حكمه، فتمرد عليه النبلاء البروتستانت في كل من بوهيميا والنمسا.
ويعتبر المؤرخون أن هذه الحرب كانت الأكثر دماراً في التاريخ الأوروبي، حيث تم تدمير ونهب وإحراق مدن وقرى وبلدات بأسرها على يد المرتزقة الذين قاتلوا خدمة لقوى مختلفة، ودمروا عملياً كل القارة الأوروبية. ما بين 30 إلى 40 بالمئة من سكان ألمانيا أُبيدوا، والتهجير والتنظيف الطائفي والعرقي طال ملايين البشر، والنسيج الاجتماعي تمزّق بعنف ووحشية، ومعظم البنى الاقتصادية والتحتية دُمِّرت.
حرب الثلاثين عاماً انتهت بسلسلة من المعاهدات التي وقعت في العام 1648 وعرفت بسلام وستفاليا، الذي أقام نظاماً سياسياً جديداً في أوروبا في شكل دول ذات سيادة متعايشة مع بعضها البعض على أساس: السيادة، واحترام وحدة الأراضي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. هذا السلام لم يكرّس حرية الانتماء الديني ولا حرية المعتقد، بل منع كل دولة أو فئة من فرض دينها على الآخرين، وأسس لبروز سيادة الدولة ـ الأمة.
لماذا لا يتعلم المسلمون المتناحرون الآن على أسس مذهبية من محنة الثلاثين عاماً أوروبا القرن السابع، خاصة وأنهم اطلعوا على نتائجها الكارثية؟ ألا يعلمون أن مشاريع الدويلات المذهبية والطائفية التي بدأت تشق طريقها رويداً رويدا نحو التنفيذ ستكون كارثة على أصحابها وشعوبها؟ لن تكون تلك الدويلات قادرة، مهما فعلت، على تجنُّب الحروب الدائمة بين بعضها البعض، ولا على إقامة طبعتها الخاصة من الدولة ـ الأمة، ولا على توفير مقومات البقاء الاقتصادي والأمني والاستراتيجي، كما يجادل محيو في تحليله الدقيق. وحتى لو نجحت هذه الدويلات في البقاء، في ظل إعادة انتاج صيغ الحماية الدولية على الأرجح، ستكون مضطرة في مرحلة ما إلى البحث عن صيغ اتحادية في المنطقة لتوفير ظروف الحياة لها، سواء في شكل نظام إقليمي مشرقي جديد، أو حتى في شكل تكتلات إقليمية.
في مرحلة ما أيضاً، حين ستوغل الهويات ما قبل الوطنية في المشرق في تغوّلها وتوحشها وحروبها، وفي اسقاطها لكل مقومات السيادة والكرامة بفعل استتباعها لإرادة وأوامر السيِّد الدولي الجديد، ستبرز مرة أخرى، وبقوة، الحاجة الماسة إلى أنموذج فكري ـ استراتيجي جديد، يستند إلى التعاون والتضامن الإقليمي المشرقي، بوصفه المنقذ الوحيد من جهنم حروب الدمار الشامل، وبكونه الجامع المشترك الأول بين مكونات مجتمعات المشرق.
ويضيف الكاتب، حين تتكشف أمام أفراد «الهويات القاتلة» ما قبل الوطنية والقومية أي أتون جهنمي دخلوا فيه، وحين يشعرون بالتعب من الحروب العبثية والقتل والدمار الشامل، وحين يبدأون بتلمّس الاثمان الباهظة للغاية للصفقة الفاوستية مع القوى الخارجية، وحين تتقطع بهم سبل الأمن والعيش، سيجدون أن المنقذ الوحيد من الضلال هو هذا الأنموذج الفكري- الاستراتيجي الجديد في المشرق، التعاوني والروحاني (في مقابل التكلّس الديني العصبوي) والمسالم.
هذه اللحظة ستأتي أيضاً حين تصل السعودية وإيران وتركيا والأكراد إلى حالة الانهاك، أو حين تصل ألسنة اللهب التقسيمية الطائفية والإثنية إلى عقر دارها (وهي ستصل حتما)، فتتوقف عن استخدام وإشعال الورقة المذهبية في المنطقة كعنصر أساسي في سياستها الخارجية، سواء الثورية أو المحافظة، وتبدأ البحث عن القواسم المشتركة لأمن مشترك، واقتصاد مشترك، ونظام إقليمي مشترك في الإقليم، ونزعة روحانية- ثقافية مشتركة.
الفاهمون للتاريخ يدقون ناقوس الخطر لكل المتورطين بالصراع المذهبي والديني والطائفي والعرقي في المنطقة بأعلى أصواتهم؟ الحوار أو الانتحار. فهل يصغي المتناحرون ويتداركون ورطتهم التاريخية قبل فوات الأوان؟
٭ كاتب وإعلامي سوري
[email protected]