تصاعدت حدة الكثير من النظريات التآمرية في وسائط الاعلام التقليدية، او غير التقليدية، اي وسائط التواصل الاجتماعي التي تشكك في مدى صدقية الانقلاب العسكري الذي حدث ليلة الجمعة السبت في تركيا في محاولة فاشلة لاسقاط نظام حزب العدالة والتنمية، بزعامة الرئيس رجب طيب اردوغان، الذي وصل الى الحكم اربع مرات منذ عام 2002 في انتخابات شفافة وحرة.
نحن لا نستطيع ان نجزم بمدى صحة هذه النظريات، ليس لانها جاءت في معظمها من جهات تعارض حكم الرئيس اردوغان، وانما لان المعلومات المتوفرة حتى الان عن هذا الانقلاب، والذين يقفون خلفه، والظروف المحيطة به ما زالت قليلة وغير واضحة، ومتضاربة في معظم الاحيان، ومن جهة واحدة غير مستقلة، ولكن هناك بعض النقاط نجد لزاما علينا التوقف عندها ومناقشتها.
اطلاق توصيف “انقلاب عسكري” ينطوي على مغالطة كبيرة في رأينا، وسواء كان حقيقيا او مشكوك فيه، مثلما قال الداعية فتح الله غولن، الخصم الرئيسي للرئيس اردوغان، والمتهم بالوقوف خلفه، فالمؤسسة العسكرية التركية لم تتورط فيه، وانما مجموعة من الضباط لم تكن لها قيادة واضحة محددة، ولم تسيطر على وسائل الاعلام باشكالها المتعددة، ولم تعتقل الرئيس اردوغان او رئيس وزرائه، او اي من الوزراء، وقادة الامن والمخابرات، او حاجبا في القصر الجمهوري، وتضعهم تحت الاقامة الجبرية، ناهك عن قتلهم، ولم تعطل شبكات الهواتف، ووسائط الاتصال الاجتماعي من انترنت و”تويتر” و”فيسبوك” و”سكايب” و”واتس آب”.
فاذا كان انقلابا فعليا، ومن غير المستبعد ان يكون كذلك، فإنه انقلاب يكشف عن غباء اصحابه، ويؤكد انهم مجموعة من “الهواة”، ولهذا تمت السيطرة عليه وتفكيكه في ساعات معدودة، والقاء القبض على جميع المتورطين، او المتعاطفين، معه داخل القوات المسلحة وخارجها.
***
الشعب التركي لعب دورا كبيرا في افشال هذا الانقلاب لانه لا يريد العودة الى الوراء، والى اربع تجارب من حكم العسكر، ويتمسك بالدولة المدنية، والحكم الديمقراطي، الذي حقق الاستقرار والطفرة الاقتصادية، ورفع مستواه المعيشي بمقدار الضعفين، وعندما يكون خيار هذا الشعب بين الديمقراطية السيئة وحكم العسكر الديكتاتوري، فإنه يختار الاول، رغم تحفظاته العديدة، وهذا ما يفسر وقوف جميع احزاب المعارضة التركية ضد الانقلاب، وخلف الرئيس اردوغان وحكومته، لانه اقل شرا من العسكر بكثير.
نجاح “الانقلاب” كان سيؤدي الى الحاق كارثة على تركيا، وفوضى دموية، وقد يقود الى نزول انصار اردوغان من الاسلاميين المسيسين الى الشوارع بالملايين، وتكرار المشهدين السوري والليبي، واندلاع حرب اهلية قد تستمر لسنوات، وربما لعقود، تنتهي بإنهيار تركيا وتقسيمها، ولكن هذا لا يعني القبول دون شروط بديكتاتورية الرئيس اردوغان المتزايدة، واعطائه تفويضا للمضي قدما في توسيع صلاحياته الدستورية، وتغيير نظام الحكم من برلماني الى رئاسي، وتكريس كل القوى بيده، والمضي قدما في سياساته الحالية التي اوصلت تركيا الى هذه المنزلقات الخطيرة، على الصعيدين الاقليمي والدولي.
تركيا باتت منقسمة الى “فسطاطين” بالنسبة الى الرئيس اردوغان، الفسطاط الاول من الاخيار وهم مؤيدوه، والثاني من الاشرار الذين يعارضونه، او لا يؤيدون طريقه ادارته لحكم البلاد، ومن المؤكد ان هذا الانقسام سيزداد ويتوسع في الاشهر، وربما السنوات المقبلة، بالقياس الى ردود فعله، اي الرئيس اردوغان في اليوم التالي للانقلاب.
نشرح اكثر ونقول ان المؤشرات الاولى تفيد بأن الرئيس اردوغان يريد اعادة تشكيل الدولة التركية، حسب مقاساته وحزبه، فقد بدأ السيطرة على المؤسسة العسكرية باعتقال ستة آلاف جنرال وضابط وجندي، وفصل حوالي ثلاثة آلاف قاضي، بما في ذلك قضاة في المحكمة الدستورية الذين لا يجوز اعتقالهم الا بقرار من المحكمة نفسها، حسب النص الدستوري المؤسس لها.
افشال الشعب ومؤسسته العسكرية للانقلاب العسكري، ونصر على دور الاخيرة لانه عامل مهم، يجب ان يكون فرصة ذهبية يستغلها الرئيس اردوغان لتحقيق المصالحة الوطنية، وردم هوة الانقسامات، وتعزيز الجيش التركي وتثبيت دوره كمؤسسة لتركيا وكل ابنائها، وليس للحصول على تفويض بالانتقام، ونصب المشانق، واعادة العمل بعقوبة الاعدام الملغاة دستوريا منذ عقود.
نشعر بالخوف والقلق على تركيا من جراء ما نراه من شواهد تعكس نزعات انتقامية دموية، وهذا لا يعني مطلقا اننا ضد معاقبة كل المتورطين في الانقلاب، فهولاء يستحقون اقصى العقوبات، ولكن بعد محاكمات عادلة شفافة.
مصدر خوفنا هنا، هو التغول في الانتقام، فما ذنب هؤلاء القضاة المسرحين من وظائفهم بالآلاف، وهل حملوا السلاح، او قادوا الطائرات الحربية، او الدبابات اثناء حركة الانقلاب التي لم تستمر الا لساعات، وكيف جرى التعرف عليهم وتواطئهم في اقل من نصف يوم؟ الا توحي هذه الخطوة بأن هناك نوايا مسبقة لفصلهم، وجرى توظيف الانقلاب، والمعارضة الشعبية الواسعة له كغطاء وضوء اخضر؟
***
كنا وما زلنا اشد المعجبين بالتجربة الديمقراطية التركية، وتزاوجها الناجح بين الاسلام والديمقراطية، وعلى ارضية نهضة اقتصادية اعجازية، ولكن بعد اقدام الرئيس اردوغان على سياسات تتسم بالغرور والغطرسة، وسوء التقدير في قضايا عديدة، حيث فشل في اطاحة النظام السوري بعد خمس سنوات من التدخل العسكري المباشر، وغير المباشر، وما ترتب على ذلك من مآسي وسفك دماء، ثم اقدامه على التطبيع الكامل مع اسرائيل، وما ترتب عليه من تنسيق امني وعسكري، دون رفع الحصار عن قطاع غزة، وهو تطبيع مرفوض ومدان، مهما كان الثمن المقابل، واعتذاره المهين للروس، وسياساته الداخلية الاوتوقراطية، وقمعه للصحافة والصحافيين.. نعترف بأن هذا الاعجاب تراجع كثيرا ان لم يكن قد تبخر.
نقف في خندق مئات الآلاف من الاتراك الذين تظاهروا، ويتظاهرون، انتصارا للدولة المدنية وضد حكم العسكر، ولكننا لن نكون مطلقا مع حكم ديكتاتوري باسم الديمقراطية، ويطبع علاقاته الكاملة مع اسرائيل، مع تسليمنا المطلق بأن صندوق الاقتراع الذي اتى بحزب العدالة والتنمية، ورئيسه اردوغان الى السلطة هو الوحيد الذي يجب ان يزيله منها.
فشل الانقلاب لن يكون نهاية المشاكل وعدم الاستقرار في تركيا، وربما بداية اكبر لها، اللهم الا اذا تحلى الرئيس اردوغان بالحكمة وضبط النفس، واجراء مراجعات جذرية للكثير من سياساته ومواقفه، التي وضعت تركيا على حافة الهاوية، وعدم الاستقرار، وما نراه حاليا من مؤشرات لا يوحي بذلك.