لم يطرُق الأستاذ الدكتور طارق رمضان أبواب موريتانيا قادما من بلده سويسرا بحثا عن ترف أو متعة سياحية، فهما طوع يده في موطنه سيوسرا، التي تعتبر جنة أرضية بكل المعايير الأرضية. ولا أتى إليها بحثا عن الشهرة العلمية، فهو نجم ثاقب في سماء الفكر والسياسة، وقد جمع بين يديه أكثر من لقب ومنصب علمي، رغم زهده في المناصب والألقاب.
فهو أستاذ بجامعة أوكسفورد البريطانية العتيدة، وأستاذ زائر بجامعة حمد بن خليفة في قطر، وبجامعة برليز في ماليزيا، وباحث بجامعة دوشيشا اليابانية. وقد عرفتْه أرقى الأكاديميات العالمية أستاذا، وأكبر المؤتمرات الدولية محاضرا، واشرأبت أعناق ملايين الشباب المسلم في الشرق والغرب إلى التعلم منه، ونشر عشرات الكتب في الفكر الإسلامي بالإنكليزية والفرنسية، ترجمت إلى عشرات اللغات.
وإنما جاء الدكتور طارق إلى موريتانيا حاملا محبته القلبية لبلدنا المسلم، وباحثا عن نفوس مؤمنة فطرية، ليتدارس معها معاني الإسلام، وهموم المسلمين. جاء طارق مترسِّما خُطَى أبيه المرحوم الدكتور سعيد رمضان الذي أسس المركز الإسلامي في جنيف، ومركزا إسلاميا في لندن، وآخر في ميونيخ، فبذر بذرة الإسلام في أوربا بعد أن ضاق به بلده الأصلي مصر.
وجاء الدكتور طارق إلى موريتانيا متتبعا خُطَى جده الإمام الشهيد حسن البنا الذي أحيا الله به روح الأمة الإسلامية، فكان من مجدِّدا عظيما "بعث في الناس الإسلام بعد أن أزاح عنه سدول التاريخ" بتعبير الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي.
ولقد رأيتُ في صحيفة سيريلانكية الصيف الماضي صورة الدكتور طارق رمضان وهو يحاضر أمام المسلمين في سيريلانكا، وجنب الصورة صورة لوالده الشيخ سعيد رمضان في زيارة مشابهة لمسلمي سيريلانكا منذ عقود، فتذكرتُ قول الحطيئة يمدح آل شماس:
أولئك قومٌ إنْ بَنَوْا أحْسَنُـــــوا البُنَى وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدُّوا
وإنْ كانت النَّعْمَاءُ فيهم جَزَوْا بهـا وإن أنعموا لا كدَّروهـــــا ولا كـــــــدُّوا
مَغاويرُ الهيجا مَطاعيمُ في الدُّجَى بَنَى لهُمُ آباؤُهـــــم وبَنَى الجَـــــــــــــدُّ
وكم رأيتُ له من صورة، وتابعت له من محاضرة على مدى عقدين، وهو يحمل رسالة الإسلام وهموم المسلمين أينما حل وارتحل، بضمير حي، وعقل مفتوح، يعْرف العالم، ويعْرف الإسلام، ويعرِّف العالم بالإسلام. ثم أكرمني الله في الأعوام الثلاثة الماضية بالتعرف على الدكتور طارق رمضان عن كثب، من خلال عملي بمركز التشريع الإسلامي والأخلاق في قطر، فوجدتُ فيه شهامة النفس، ولين الجانب، وحبَّ المسلمين ، والحدْب عليهم، من أي عرق كانوا، وإلى أي بلد انتموا.
ولقد رأيتُ من كريم شمائله ما ذكَّرني بما كتبه عبد الله العقيل في كتابه (أعلام الحركة الإسلامية)، عن والده الدكتور سعيد رمضان: "إن الأستاذ سعيد رمضان داعية مرهف الإحساس، كريم الطباع، جيَّاش العاطفة، غزير الدمعة، تغلب عليه الروحانية، وتأسره الكلمة الطيبة، ويتفانى في الأخوَّة الروحية، يَبكي ويُبكي إذا تحدَّث أو خطب، أو حاضر، أو ناظر، ويرجع عن الخطأ إذا عُوتب، ويستسمح إخوانه، ولا يحمل الحقد ولا الضغينة لمسلم، بل يُؤثر الاعتزال إذا ما أخطأ معه أحد، ولا يعاتبه أو يحاسبه على إساءته له". وبمثل هذه الشمائل أرجو أن يقابل الدكتور طارق رمضان ما قوبل به من سوء الأدب على يد السلطة العسكرية الموريتانية.
كان الدكتور طارق رمضان –ولا يزال- من المفكرين المسلمين القلائل الذين جعلوا لمسلمي أفريقيا مكانة خاصة في قلبه وفي نشاطه. فحرص على تنظيم مؤتمرات إسلامية دورية في دول غرب أفريقيا ذات الغالبية المسلمة، كان آخرها في "نيامي" عاصمة النيجر. ولا يشبه طارقاً في هذا من بني بلدنا سوى الأستاذ الجليل والداعية الرباني الخليل النحوي، مؤلف كتاب "أفريقيا المسلمة: الهوية الضائعة"، وصاحب المشاريع الدعوية والتعليمة الرائدة في دول غرب أفريقيا.
ولأنه لا يَعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل، فقد كان الشيخ الخليل النحوي أول من كتب اعتذارا عن سوء الأدب الذي عاملت به السلطة الموريتانية الدكتور طارق رمضان، حين منعت دخوله البلاد، وحشرته في مطار نواكشوط ليلة ليلاء، لتعيده من حيث أتى. وما سطره يراع الشيخ الخليل النحوي يمثل الشعب الموريتاني خير تمثيل، ويعبِّر أبلغ تعبير عن وجدانه الإيماني، وفطرته الإسلامية، التي تحب العلم وأهله، وتتعلق بدعاة الإسلام ووُعاتِه في كل مكان.
لم يكن الدكتور طارق في يوم من الأيام مهتما بالشأن السياسي الموريتاني، ولا نطَق بشيء له علاقة بالحكومة الموريتانية. فلا يمكن فهم المعاملة القبيحة التي عاملته بها السلطة الموريتانية إلا ضمن الحملة الشرسة التي يشنها عليه الإعلام الفرنسي هذه الأيام. وهي حملة مفهومة على "حادي قافلة الإسلام الأوروبي" الذي لا تريد جهات عديدة سماع صوته في القارة العجوز. وقد اعتاد الدكتور طارق على هذه الحملات الغربية عليه، وأدرك كيف يتعامل معها. ولكن مضايقة "جمهورية إسلامية" لأحد أبرز الشخصيات الإسلامية في العالم مثير للاشمئزاز والأسى حقا:
وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضة على النفس من وقْع الحسام المهنَّدِ
ولأن قوانين فرنسا لا تسمح بمنع الدكتور طارق رمضان من دخول فرنسا –لأنه مواطن سويسري وأفراد أسرته مواطنون فرنسيون- فقد تركت السلطة الفرنسية هذا العمل القبيح للحاكم العسكري في موريتانيا، كعادة الحكومات الغربية في إيكال الأعمال القذرة من -تعذيب وسجن ونفي- للحكومات العميلة في العالم الثالث.
لن يضير الدكتور طارق رمضان أن تسيء الأدب معه سلطة عسكرية استبدادية في موريتانيا، كما فعلت معه من قبل سلطات استبدادية أخرى في أكثر من دولة عربية. وإنما أساءت السلطة العسكرية الموريتانية إلى نفسها، وإلى كل مواطن موريتاني حرٍّ، معتز بدينه، منتم لأمته، محب لعلمائها، معاد لأعدائها.
ويدل ما حدث على جهالة الحكام العسكريين في كل زمان ومكان. ففي الوقت الذي كانت فيه السلطة الموريتانية تمنع الدكتور طارق من دخول موريتانيا لإيصال فكرته إلى الشباب المورتاني المتعطش لسماعها، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يفشل انقلابا عسكريا بكلمة وجهها إلى شعبه من هاتفه عبر الإنترنت!! فهل يعجز الدكتور طارق عن مخاطبة الشباب الموريتاني من أي مكان في الكرة الأرضية؟!
لقد انتهى حصار الأفكار، وبناء الأسوار بين الأحرار. فاتحوا أعينكم وقلوبكم أيها الحكام العسكريون البلداء؟!