يحتاج المرء الى نفس طويل لمتابعة تصريحات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ووزرائه، مثلما يحتاج الى كل ما تيسر من القواميس السياسية لتحليل مضمونها، واستخلاص العبر السياسية منها، وما اذا كانت هذه التصريحات دقيقة ام مجرد “بالونات اختبار”.
حتى لا نغرق في العموميات، نبدأ بثلاثة تصريحات، او مواقف، اساسية تنطوي على الكثير من المفاجآت، واحيانا بالتناقض، في الملف السوري على وجه الخصوص، تعكس انتقال الرئيس اردوغان من النقيض الى النقيض في غمضة عين:
الاول: اتهم الرئيس اردوغان الولايات المتحدة الامريكية يوم امس وفي مؤتمر صحافي مع نظيره الغاني، بدعم الجماعات الارهابية، ومن ضمنها “الدولة الاسلامية”، ووحدات حماية الشعب الكردي، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وقال “لدينا ادلة مؤكدة بالصور والتسجيلات المصورة”.
الثاني: اكد وزير خارجيته مولود جاويش اوغلو انه جرى اعداد مسودتي اتفاق باعلان هدنة ووقف اطلاق النار ليل غد الخميس يتبعها انطلاق العملية التفاوضية بين الحكومة السورية وفصائل المعارضة (غير الارهابية) في الاستانة عاصمة كازاخستان، لكن المتحدث باسم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ديمتري بوسكوف، فوجيء بالتصريح ورفض التعليق، وان كان اعترف بوجود اتصالات مستمرة بين الجانبين التركي والروسي.
الثالث: السيد اوغلو نفسه قال ان اتفاق الهدنة سيطرح على الرئيس السوري بشار الاسد وعلى الفصائل الاخرى للموافقة عليه، واكد في الوقت نفسه انه من المستحيل ان تجري عملية الانتقال السياسي في سورية بوجود الرئيس الاسد لان المعارضة ترفض اي دور له قطيعا فيها، فكيف يشارك الرئيس السوري او وزير خارجيته في مفاوضات الاستانة، ويطلب منه الموافقة على اتفاق الهدنة الذي يسبقها ويمهد لها، اذا كانت هذه العملية السياسية تنفي اي دور له في اي اتفاق حول مستقبل سورية يتمخض عنها.
***
تركيا الرئيس اردوغان تفتقد في الوقت الراهن الى استراتيجية ثابته تحكم تحركاتها السياسية، فاذا كانت فعلا تملك الادلة الدامغة والمصورة حول دعم امريكا للارهاب، فلماذا لا تعرضها على الملأ دون تردد؟
ربما تدعم الادارة الامريكية وحدات حماية الشعب الكردية، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وهذا الدعم معلن وموثق، ولكن ان تدعم “الدولة الاسلامية” التي شكلت تحالفا من ستين دولة لمحاربتها مدعوما بطائرات حديثة متطورة، ومستشارين يزيد عددهم عن 5000 في العراق يشرفون على معركة اخراج “الدولة” من الموصل، فهذا اتهام، اذا ثبت فعلا كما يقول الرئيس اردوغان، فانه يشكل انقلابا عسكريا وسياسيا واستراتيجيا في المنطقة بأسرها.
الاشقاء التوانسة لديهم قول مأثور يكررونه دائما في توصيف حالة مليئة بالتناقضات، مثل مواقف الرئيس اردوغان هذه، يتلخص في “تيجي تفهم تدوخ”، ونعترف ان الرئيس اردوغان دوخنا، وربما الكثيرين مثلنا، في مواقفه الاخيرة.
الرئيس اردوغان كان حليفا وثيقا للولايات المتحدة في حربها على الارهاب، وكان العمود الفقري في سياستها لتغيير النظام في سورية، وفتح قاعدة انجرليك التركية امام طائرات التحالف الستيني لتنطلق منها لضرب قواعد تنظيم “الدولة الاسلامية”، وحوّل ارض بلاده الى ممر للمليارات والمجاهدين الراغبين في القتال في صفوفها، والآن، وبعد ست سنوات، يقول لنا ان الولايات المتحدة تدعم هذا التنظيم الارهابي، اي “الدولة الاسلامية”، ولا تحاربه على الاطلاق؟
***
اذا كانت الولايات المتحدة تدعم هذا التنظيم فعلا، ونحن لا نستبعد اي شيء في زمن الكذب والتضليل الذي نعيشه، فإن هذا الدعم تم بمعرفته ومشاركته وحلفاؤه في الخليج، ونحن نتمنى عليه ان يقدم لنا الوثائق المصورة وسنكون له من الشاكرين والمقدرين، والبينة على من ادعى، وهاتوا لنا برهانكم.
الرئيس اردوغان يقترب بسرعة ضوئية من موسكو، ولا غبار على ذلك، ويدير ظهرة بشكل متسارع الى واشنطن وحلف “الناتو”، وهذا جميل، ولكن هل هذا تحول استراتيجي، ام انه مناورة تهدف الى “ابتزاز″ واشنطن وحلف “الناتو” الذي ما زالت تركيا عضوا فيه؟
السؤال الموجه الى الرئيس اردوغان شخصيا، ونحن في انتظار الاجابة عليه