يوميات غوانتنامو" (Guantanamo Dairy) كتاب ألفه المعتقل الموريتاني محمدو ولد صلاحي في زنزانته الموحشة في معتقل غوانتنامو سيئ الصيت. ولدى انتهائه، في أكتوبر2005.
صادرته وزارة الدفاع الأمريكية. وبعد معركة ضارية مع محامي ولد صالحي تواصلت زهاء عشر سنوات دون ملل أو كلل، قبلت الإدارة الأمريكية الإفراج عن المخطوط الأصلي للكتاب بعد أن حذفت منه نحو 2600 مقطعا تراوحت بين كلمة واحدة وعدة صفحات.
وقد احتفت دور نشر مشهورة في مختلف أنحاء العالم بالكتاب فنشر، في مطلع العام الجاري، بأكثر من عشرين لغة ستنضاف إليها العربية قريبا، كما نشرت كبريات الصحف العالمية ملخصات له وتعليقات عليه.
ولم يكن هذا الاحتفاء العالمي اعتباطيا، فالكتاب مثل، بأسلوب مؤلفه الأخاذ وحسه المرهف وعمقه الفكري، ملحمة إنسانية ارتقت به إلى مصاف الأدب العالمي الراقي.
كما ألقى الكتاب، ببراعة ومرارة، أضواء كاشفة على تحكم أجهزة المخابرات في رقاب العباد في كل البلاد، وفضح ما يطبع هذه الأجهزة من ظلم وحيف وغطرسة، وذلك من خلال الصورة المؤلمة التي رسمها لفظائع الإهانة المعنوية والإكراه البدني التي تعرض لها في مونتريال وداكار ونواكشوط وعمان وباغرام وغوانتنامو رغم أن كل هذه الأجهزة لم تجد ما يدينه.
وقدم الكتاب شواهد ساطعة على المنزلق التي تردت فيه الولايات المتحدة، أكبر ديمقراطيات العالم، في خضم حربها على الإرهاب عندما مارست قواتها العسكرية وأجهزتها الأمنية أبشع صنوف التعذيب والتنكيل بمعتقل مدني أعزل بريء كما يحدث في أكثر الدكتاتوريات قمعا وتوحشا.
وبالجملة فإن "يوميات غوانتنامو" هي بمثابة شهادة جريئة ونادرة لمتهم لم تثبت إدانته خضع لاستجوابات عنيفة وكثيفة تواصلت دون انقطاع لمدة عدة سنوات وشارك فيها الجيش الأمريكي وعدد من وكالات التجسس الأمريكية بينها الإف بي آي والسي آي إيه، واضطر صاحبها تحت طائلة التعذيب إلى الاعتراف بجرائم لم يقترفها أصر المحققون على إلصاقها به كالمشاركة في الإعداد لتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 ومحاولة تفجير مطار لوس آنجيلوس في مطلع عام 2000.
ولا ينكر ولد صلاحي أنه التحق في مطلع التسعينيات بوحدات قتالية تابعة للقاعدة في أفغانستان كانت تقاتل وقتها، بدعم ومباركة من واشنطن، حكومة كابول المدعومة من السوفييت، لكنه يؤكد أنه قطع جميع علاقاته بالقاعدة اعتبارا من عام 1992.
ويذكر ولد صلاحي أن الأمن الكندي استجوبه وراقبه ولم يجد ما يدينه به، وأن الأمن السنغالي اعتقله بأوامر من الأمريكيين لكنه بعد التحقيق معه خلص إلى براءته. ويقول إن مدير أمن الدولة بموريتانيا أبلغه في ختام فترة اعتقاله واستجوابه في نواكشوط أنه مقتنع ببراءته لكنه مضطر لتسليمه للأردنيين بناء على طلب من الأمريكيين وإن الأمر أعلى من نطاق سلطته واختصاصه. كما يروي أن الأمن الأردني الذي يعتبر أكثر الأجهزة الاستخبارية العالمية خبرة بالقاعدة انتهى بعد سبعة أشهر ونصف من التحقيق معه إلى براءته وقرر إخلاء سبيله لكن الأمريكيين استشاطوا غضبا عندما أطلعوا على نتائج التحقيق وقرروا نقله إلى معتقل لهم في باغرام بأفغانستان قبل ترحيله إلى غوانتنامو.
وفي عام 2010 حكم قاض فدرالي أمريكي ببراءة ولد صلاحي، بعد فحص متأن لملفه، وأمر بالإفراج عنه، لكن البنتاغون استأنف الحكم ليظل ولد صلاحي رهين محبسه.
وفي انتظار محاكمة جديدة لم تلح بعد مؤشرات على قرب انعقادها، تتواصل منذ قرابة أربعة عشر عاما محنة سجن ولد صلاحي التي سرد في مذكراته تفاصيل مؤلمة عن بعض مراحلها.
فهو يروي كيف عانى من التجويع الممنهج حيث ظل لأوقات طويلة يقدم له طعام بارد رديء ولا يعطى أحيانا سوى نصف دقيقة لتناوله. ويذكر أنه منع من النوم لفترات ممتدة بأساليب مختلفة منها الطرق المتواصل على باب زنزانته وتسليط ضوء قوي على عينيه وإجباره وبث موسيقى صاخبة في زنزانته بصوت مرتفع بدرجة لا تطاق وإجباره على ابتلاع كميات هائلة من الماء بحيث لا يكاد يأتي من المستراح حتى يعود إليه مجددا.
ويذكر ولد صلاحي أنه قضى ليالي محشورا في غرفة باردة كالثلاجة وهو يرتجف دون انقطاع كالورقة في مهب الريح. وهدد مرات بالقتل. أما الضرب المبرح وتعصيب العينين وتغطية الرأس بقبعة معدنية ضيقة تنغرس في الصدغ وتصم الأذنين وتصفيد اليدين والرجلين بالأغلال والسلاسل فحدث ولا حرج.
وكان سجل تعذيب ولد صلاحي النفسي والمعنوي حافلا. فالسب والشتم والتهديد تغلب على لغة المحققين، والسخرية من الإسلام والعرب تهيمن على خطاب الحراس. والتهم الموجهة إليه بأنه أحد أبرز الرؤوس المدبرة لهجمات 11 سبتمبر التي راح ضحيتها آلاف الأمريكيين تهم مخيفة ومرعبة. وقد منع من أداء الصلاة لفترات طويلة واضطر قسرا لإفطار رمضان في إحدى السنوات وتعرض للتحرش الجنسي من بعض المحققات. ومن أقسى ما عاناه إيهامه بأن والدته ألقي عليها القبض وستكون المرأة الوحيدة ضمن معتقلي غوانتنامو.
ويقول ولد صلاحي إن مفرقيه شابا من شدة الهم بعد أسابيع قليلة من إقامته بغوانتنامو وإن الضغوط النفسية آلت به مرة إلى نوع من الهلوسة بحيث بات يخيل إليه أنه يستمع إلى أحاديث أسرته ومقاطع من موسيقى بلاده وتلاوات قرآنية.
وفي ظل استمرار ظلم الأمريكيين الفادح له، يجد ولد صلاحي، في مذكراته، أوجه مقارنة عديدة بين حالته وبين حالة ملايين الأفارقة الذين جلبوا إلى أمريكا في عصر تجارة الرقيق. فالكل هجر قسرا من موطنه الأصلي وسيم سوء العذاب وسلب حريته واضطر في النهاية إلى التكيف رغما عنه مع بيئته الجديدة وسط تجاهل العالم من حوله.
وقد أبان ولد صلاحي عن قدر كبير من الحكمة والذكاء في تعامله مع قدره الجديد وتجسد ذلك في تقسيمه فترات اعتقاله إلى ثلاث مراحل تعتبر أولاها هي الأصعب. ففي هذه المرحلة يشعر السجين على الدوام بالخوف والعجز والهوان والتوتر. وفي هذا الجو النفسي المحبط يعسر عليه استيعاب انقطاعه القسري عن ذويه وعزلته المطبقة عن العالم الخارجي. كما أن السجانين يسلبون المعتقل إرادته بعد أن سلبوه حريته فيتحكمون في كل صغيرة وكبيرة من شؤونه: نومه وصحوه، أكله وذهابه إلى المستراح، حتى حركاته داخل الزنزانة. وكل هذه الأمور تهون إذا قيست بما يتعرض له السجين في هذه المرحلة من تعذيب مستمر يستحيل، أحيانا كثيرة، صبره وتحمله.
أما المرحلة الموالية فهي مرحلة بناء القدرة على الصبر وتنمية الشعور بالقرب من الله، وهي مرحلة استعان فيها ولد صلاحي بإيمانه وعزمه ووضوح أفكاره فاستطاع أن يطوع بقوته الروحية المتوهجة واقعه المادي الآسن فاستوعب وضعيته الفظيعة وتكيف مع مقتضياتها فنجح في تجاوزها في حين انتهت بالعديد من نزلاء غوانتنامو إلى الجنون.
وأما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الانسجام، قدر المستطاع، مع بيئة السجن. وفي هذه المرحلة استطاع ولد صلاحي بلطفه وخفة روحه وإنسانيته الطافحة أن ينسج علاقات ود مع الكثير من سجانيه وجلاديه فانجذبوا إليه بعد أن كانوا ينفرون منه وأسدوا له خدمات في طليعتها إعارة الكتب والأفلام وساعده بعضهم مساعدة كبيرة في تطوير لغته الإنجليزية.
ومن ذكاء ولد صلاحي وقوة عزمه نجاحه في تحسين مستوى لغته الإنجليزية داخل محبسه إلى الدرجة التي استطاع أن يكتب بها مذكراته إذ لو ألفها بأي من اللغات الثلاث الأخرى التي يتقنها وهي العربية والألمانية والفرنسية لما كان الاهتمام بها بهذا الزخم إطلاقا.
وقد قال ولد صلاحي في ختام مذكراته إنه لم يكذب ولم يبالغ ولم يكتب إلا ما عاشه وشاهده وإنه حاول قدر المستطاع إنصاف الولايات المتحدة الأمريكية.
وإذا كانت شهادة ولد صلاحي قد عكست الجانب القاتم من صورة أمريكا، فإن الجانب المشرق من تلك الصورة مثله المحامون والحقوقيون الأمريكيون الذين لم يفتؤوا يناضلون باستماتة من أجل إخلاء سبيل ولد صلاحي والتعويض له عن الأضرار الجسيمة التي تكبدها من جراء سجنه الظالم. ولولا نضال هؤلاء الشرفاء لما وجدت "يوميات غوانتنامو" إلى النشر سبيلا.
ولا شك أن إقبال القراء في مختلف أنحاء العالم ، وخاصة في أمريكا، على كتاب ولد صلاحي سيشكل عامل ضغط على الإدارة الأمريكية يدفع في اتجاه الإسراع بالإفراج عنه.
وسيكون من المعيب أن لا تستغل جميع النخب الثقافية والقوى الحقوقية والسياسية الموريتانية هذه الفرصة لبناء إجماع وطني عام يسهم بقوة وجدية في المساعي العالمية الرامية إلى إخلاء سبيل المبدع الصبور محمدو ولد صلاحي ورفيقه أحمد ولد عبد العزبز وكل من لم تثبت إدانته من معتقلي غوانتنامو.
محمد بابا ولد أشفغ