رغم انسحاب الرئيس الغامبي المهزوم يحيى جامي من المشهد، فقد استمرت الأزمة الغامبية لحد ظهر أمس في جذب اهتمام كبار الساسة والمدونين الموريتانيين.
وانقسم المدونون والكتاب والمتحدثون في هذه الأزمة التي باتت الشغل الشاغل، إلى قسمين أحدهما يمجد الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز على وساطته الناجحة والآخر يقلل من أهمية الوساطة، فيما يجمع الطرفان على ما يسمونه «صلف السنغال وتناقض رئيسها».
وكشفت الأزمة الغامبية عن توتر شديد في العلاقات السنغالية الموريتانية، حيث ترفض موريتانيا وصول جارتها الجنوبية السنغال عبر الاستحواذ على غامبيا، للزعامة الإقليمية في شبه المنطقة.
وتعتبر الحكومة الموريتانية أنها مسؤولة عن متابعة الاتفاق الذي تمخضت عنه وساطتها في الأزمة الغامبية، حيث حذر وزير خارجية موريتانيا إسلكو ولد أحمد إزيد بيه في خطاب ألقاه أمس أمام المنتدى الإقليمي الثاني لاتحاد البحر الأبيض المتوسط المنظم في مدينة برشلونة، حكومة داكار ضمنياً مما سماه «أي إخلال ببنود الاتفاق الذي توصل إليه في غامبيا الرئيسان الموريتاني والغيني»، مشددا على «أي إخلال به من أي طرف كان من شأنه خلق « صومال» جديدة في إفريقيا الغربية».
وتحدث الوزير عن الدبلوماسية الموريتانية النشطة المكرسة، حسب قوله، لخدمة السلام والأمن الإقليمي كما حدث مؤخراً في التسوية السلمية للأزمة الغامبية»، مؤكدا «أنه لولا الجهود الدبلوماسية الموريتانية التي جاءت بعد وساطات عديدة دون جدوى، لتحولت غامبيا إلى بؤرة إضافية للعنف والتطرف في إفريقيا الغربية وهي المنطقة التي شهدت توترات عديدة من قبل».
وكان محمّد فال ولد بلاّل وزير الخارجية الموريتاني الأسبق أبرز المهتمين بتحليل الأزمة الغامبية ومشخصي مساراتها وتداعياتها، حيث أكد في مقال له أمس «أن الإعلام الغربي يحاول دفْنَ وإخفاء بعض الحقائق المهمّة لمن يريدُ متابعة الملف الغامبي بموضوعيّة ومسؤوليّة، حيث لم نعُد نسمع كلمة واحدة عن الانتخابات الحرّة والعادلة والديمقراطية والشفافة التي تمّ تنظيمها في ظلّ حُكم يحيى جامّي، والتي أفضت إلى فوز مرشّح المعارضة السيد آمادو بارو؛ هذا الانجاز ينبغي ألاّ يُنْسى وألاّ يُضربَ به عرض الحائط؛ والكلام هنا مُوجّه لأولئك الذين يتحدّثُون عن الرئيس آمادو بارو متناسين أنّه جاء نتيجة انتخابات منظمة بإشراف يحيى جامّي؛ وكأنّهم يُعطون «أجرَ» الانتخابات لبارو ويضعون «وزرها» على جامي الذي نظّمها بنجاح…ذلكم هو الإعلام الغربي عندما يقرّر «شَيْطَنَةَ»(diabolisation) نظام أو رئيس».
وأضاف «لم نعُد نسمع كلمة واحدة عن اعتراف يحيى جامّي بنتائج هذه الانتخابات معلناً خسارته ومهنّئا منافسه بفوزه واللجنة المشرفة على الانتخابات،،، وقد تكرّر ذلك على لسانه في كلّ خطاباته الرّسمية ..وكانت الأمور تسيرُ بهدوء في طريقها إلى تناوب سلمي على السلطة بين الرجليْن قبل أن ينفجر الشارع الغامبي والسنغالي معاً بالتهديد والوعيد والانتقام والمطالبة بمحاكمة الرّجل «المارق» وحرق صُوَره في الشارع، في إساءة واضحة لمبادئ السلم والديمقراطية، وهكذا، أرْغِمَ يحيى جامّي على التّراجع عن قبوله بالنتائج «.
وتابع بلال تحليله قائلاً «هذه أول مرّة في التاريخ (ربّما) نشاهدُ انتخابات عادلة ونزيهة، تحظى بقبول ورِضا الجميع… تؤولُ إلى أزمة بهذا الحجم ! ولكنّ السنغال، ومن ورائها الغرب، كانت مصرّة على اعتقال ومحاكمة ذلك «المخلوق» الذي منح غامبيا اسم «الجمهورية الإسلامية»، وقرّر فيها ترسيم اللغة العربيّة، وتجرّأ على حمل المصحف الشريف و»السّبحة» في المحافل الدوليّة في تَحَدّ واضح لحضارة الغرب وثقافته وذَوْقه».
وأكد ولد بلال «أنّ موضوع الأزمة في غامبيا لم ينتهِ بعد…ولا مناصّ من العودة إليه في القمة الإفريقية القادمة بطلب من حكومتنا وغينيا ودوّل أخرى، فالمصلحة الوطنية تقتضي بقاء موريتانيا عامل سلم وتوازن وتهدئة في شبه المنطقة، وأنْ تحرص كلّ الحرص على صداقتها مع مجموعة غرب إفريقيا عمومًا والسينغال خصوصًا دون أنّ يمسّ ذلك من حضورها بحزم وعزم في كلّ تفاصيل هذا الملف كطرف معني ومهتم بمساره ومآلاته».
«إنّ بقاء السينغال وحدها في غامبيا، يقول الوزير ولد بلال، من شأنه أنْ يفجّر، ولو بعد حين، نزاعات عرقية وقبلية واسعة النطاق بالإضافة إلى إشعال النار المشتعلة أصلا في ربوع غامبيا وكازمانص (Casamance) لتمتدّ إلى الجوار، فهل يُعقل أن يقبل الانفصاليّون الكزمانسيّون بتطويقم عسكريّا هكذا ببساطة من قِبَل السينغال، وسدّ المتنفّس الوحيد المتاح لهم؟ وهل تقبل المعارضة الغامبيّة الجديدة بالاحتلال المُقَنّع؟ وهل ؟ وهل ؟ وهل؟ والأسئلة كثيرة !؟».
وكان الدكتور محمد إسحاق الكنتي الأمين العام المساعد للحكومة الموريتانية من بين المهتمين بالملف الغامبي حيث أكد في مقال بعنوان «من بنغازي إلى بانجول» نشره أمس «أن الأزمة الليبية والغامبية علمتنا أن الحروب التي تشن باسم الديمقراطية، والتناوب «السلمي» على السلطة تخفي وراءها أطماعا أجنبية لشركات، أو إثنيات عابرة للحدود، وتصفية حسابات شخصية، وأن دعاة الديمقراطية لا يجدون حرجا في تدمير بلدانهم بأيديهم، وأيدي الأجنبي طمعا في الوصول إلى السلطة».
«كما علمتنا هذه الأزمة، يضيف الكنتي، أن القوى الأجنبية تتخذ لها وكلاء محليين تعتمد عليهم في إنجاز المهام القذرة، لكنها مستعدة للتخلي عنهم في حال إفلاس المشروع كما في الحالة السورية، ونرجو أن تكون الأزمة الغامبية قد بينت للطامحين من دول المنطقة إلى لعب أدوار أكبر من حجمهم أن موريتانيا، ورئيسها سيعيدونهم دائما، عند تعرضهم إلى مصالحنا الوطنية، بحجمهم.
وتحت عنوان «الأزمة الغامبية : عصفوران بحجر واحد»، أكد الدكتور البكاي ولد عبد المالك وزير التعليم الأسبق أن «الموريتانيين يتطلعون بعد هذه النجاحات التي حققتها الدبلوماسية الموريتانية إلى طي خلافاتهم الداخلية وتوحيد جبهتهم الداخلية استعدادا لما هو قادم (الطفرة النفطية واستغلال حقول الغاز المشتركة مع الشقيقة السنغال وما قد يترتب عليها من تطورات) وكأن لسان حالهم يقول «سيدي الرئيس ما في المدينة أحوج منا يا رسول الله».
«فالانفتاح على الخارج، يقول ولد عبد المالك، يمنح المصداقية والانفتاح على الداخل يمنح القوة والشرعية، وفي تقديرنا أن الرئيس لو اتجه بنفس الإرادة والحس الأمني والرؤية الاستراتيجية نحو المشاكل الداخلية فحلها لاستحق مكانة خاصة في قلوب الموريتانيين بعيداً عن التملق والنفاق».
أما الكاتب الصحافي محمد محفوظ ولد أحمد فقد أكد في مقال له «أن أزمة غامبيا ودور موريتانيا فيها يثير أشجانا وينكأ جراحا مع جارتنا الجنوبية السنغال على عدة مستويات، أكثرها ـ في هذا الفضاء الرقمي خاصة ـ موغلة في السذاجة والغفلة، وأحياناً المغالطة».
وأضاف «بالنسبة للأزمة الغامبية، أظهرت التطورات الأخيرة أننا لم نكن على المستوى السياسي والدبلوماسي الحصيف الذي ندعي، فبما أن الرئيس الخاسر يحيى جامي صديق محبب لنا، فقد اتجه تدخلنا لصالحه، بل و»إنقاذه» بكل شهامة و»براءة»، وهذا هو الواجب في العلاقات الشخصية والإنسانية، ولكنه في العلاقات بين الدول يتطلب سنداً يحميه ويعصمه من أي انعكاس سلبي على المصلحة الوطنية؛ إما من القوة والنفوذ، وإما من «الضمانات» الدولية الموثقة».
وزاد الكاتب ولد أحمد «هكذا توشك الأزمة الغامبية أن تنتهي ـ في هذه المرحلة ـ بإقصاء موريتانيا من حيث دخلت، وتجعلها أمام خيارين أحلاهما علقم، فإما أن تكتفي بإنقاذ الملازم يحيى جامي و»صناديقه»، وتبحث عن سبل وأطراف أخرى تتوسل بها لحماية مصالحها، وإما التوجه نحو تحدي السنغال ومجابهتها، ولو على «جبهات» العلاقات الثنائية الموريتانية السنغالية الكثيرة، ولدى موريتانيا طبعا أوراق وفرص كثيرة في هذا المجال، لكنها جميعاً تؤدي إلى ما هو أسوأ من الأزمة الغامبية»، حسب تعبير الكاتب.
عبدالله مولود
نواكشوط – «القدس العربي»: