أباح القرآن الكريم بشكل صريح زواج نساء أهل الكتاب، بمقتضى قوله تعالى } الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ... وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ..{ وهو رأي جمهور فقهاء المسلمين حسب باحثين شرعيين.
لكن ثمة رأيا فقهيا قديما ذهب إلى تحريم نكاح الكتابيات مطلقا، محتجا بما كان يقوله ابن عمر إذا ما سئل عن نكاح الرجل (المسلم) النصرانية أو اليهودية، قال: حرّم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة: ربها عيسى ...».
ووفقا لأستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في الجامعة الأردنية سابقا، الدكتور محمود السرطاوي فإن «الخلاف في المسألة يرجع إلى كيفية الجمع بين آية البقرة {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}، وبين آية المائدة المبيحة زواج نساء أهل الكتاب، فمن العلماء من جمع بينهما بتخصيص آية البقرة بآية المائدة، ومنهم من رجح عموم آية البقرة فحرم زواج الكتابيات مطلقا كابن عمر.
أهل كتاب مع التحريف والانحراف
وبيَّن السرطاوي أن العلماء اختلفوا في تحديد من هي الكتابية التي يجوز الزواج منها، فبعضهم يقول إنها الكتابية التي تنتمي إلى أهل الكتاب قبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، أما إن كانت من قوم اعتنقوا دين أهل الكتاب بعد البعثة النبوية، فلا يصح حينئذٍ إطلاق وصف أهل الكتاب عليها، وبالتالي لا يجوز الزواج بها.
وأضاف: «هذا الرأي موجود في المدونات الفقهية القديمة، لكن الصحيح الذي عليه جمهور الفقهاء أن كل كتابية وإن دخل أهلها في دين أهل الكتاب بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، فهي كتابية يجوز الزواج منها».
وأوضح السرطاوي لـ»السبيل» أن القرآن الكريم حينما أباح زواج نساء أهل الكتاب، فإنه بالتأكيد كان يتحدث عن النساء الموجودات في عهد الرسالة، وهن اللواتي يؤمنَّ بالكتاب الذي وصفه بالتحريف، ويعتقدن العقائد التي وصفها بالكفر؛ ما يعني أن القرآن استثنى الكتابيات (بعقائدهن المنحرفة) من تحريم عموم المشركات.
وأكدّ السرطاوي أن وصف أهل الكتاب ينطبق تماما، على اليهود والنصارى، بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، بعقائدهم التي ذكرها القرآن كقولهم (عزير ابن الله)، و»المسيح ابن الله»، و»ثالث ثلاثة»، لكن من صرح منهم أنه خرج من دائرة أهل الكتاب، إلى مذاهب فكرية أخرى، كاللادينية والشيوعية وغيرها، فإنه بذلك لا يكون من أهل الكتاب.
ويُذكر في هذا السياق أن الرأي القديم القائل بالتحريم، يوجد من المعاصرين من يفتي به، كالشيخ المغربي عبد الله بن صديق الغماري الذي ألّف رسالة أسماها «دفع الشك والارتياب عن تحريم نساء أهل الكتاب»، انتصر فيها لرأي التحريم.
وشدد الغماري في رسالته على أن جواز الزواج من نساء أهل الكتاب عند جمهور الفقهاء، مشروط بألا تكون حربية، أي من أمة تحارب المسلمين، فإن كانت كذلك فإنه يحرم الزواج بها إجماعا على حد قوله.
وذكر الغماري دليلا آخر على تحريم زواج المسلم بالكتابية، ألا وهو سد الذرائع، وهو من القواعد الشرعية المعتبرة التي تدور على أن الوسائل تعطى حكم المقاصد، فالوسيلة إلى الواجب واجبة، والوسيلة إلى المحرم محرمة».
ورأى الغماري أن «زواج المسلم بالنصرانية في هذا العصر فيه مفاسد توجب تحريمه»، منها: أن زوجها المسلم يجاملها بإظهار التبرك بالصليب (ذاكرا واقعة على ذلك)، ومنها كذلك أنها لا تلتزم باللباس الشرعي، وزوجها لا يأمرها بذلك، ومحذرا من تأثيرها على أبنائها بما تؤمن به من عقائد منحرفة، وسلوكيات متفلتة.
إباحة الزواج من الكتابيات حكم ثابت
من جهته أكدّ الباحث الشرعي في الموسوعة الفقهية بموقع الدرر السنية، الدكتور علي ونيس أن «إباحة الزواج بنساء أهل الكتاب يكاد يكون إجماعا، والخلاف فقط: هل هن مستثنيات من قوله تعالى {ولا تنكحوا المشركات}، أم أنهن لسن داخلات في المشركات أصلا».
وذكر ونيس أن «بعض العلماء يرون أن لفظ المشركين لا يشمل أهل الكتاب، قال ابن قدامة: «وقال آخرون: ليس هذا نسخا، فإن لفظة المشركين بإطلاقها لا تتناول أهل الكتاب، بدليل قوله سبحانه {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين}، وقوله {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين}، وسائر آي القرآن يفصل بينهما، فدل على أن لفظة المشركين بإطلاقها غير متناولة لأهل الكتاب».
وجوابا عن سؤال: هل ثمة فرق الكتابيين المعاصرين والسابقين في هذا الحكم؟ أحال ونيس على كلام الشيخ رشيد رضا في تفسيره المنار الذي يقول فيه «المتبادر من نص القرآن والسنة، وعمل الصحابة أنه لا وجه لهذه المسألة ولا محل، فالله تعالى قد أحلَّ أكل طعام أهل الكتاب، ونكاح نسائهم على الحال التي كانوا عليها في زمن التنزيل».
وتابع: «وكان هذا من آخر ما نزل من القرآن، وكان أهل الكتاب من شعوب شتى، وقد وصفهم بأنهم حرَّفوا كتبهم، ونسوا حظا مما ذكروا به، في هذه السورة نفسها، كما وصفهم بمثل ذلك فيما نزل قبلها، ولم يتغير يوم استنبط الفقهاء تلك المسألة شيء من ذلك».
وأشار ونيس إلى أن «الذين منعوا الزواج بنساء أهل الكتاب يستدلون بأن أهل الكتاب الآن يتبعون كتابا محرفا، فهم ليسوا أهل كتاب على الحقيقة، وبناء عليه لا تنطبق عليهم هذه الأحكام» واصفا ذلك بالخطأ الواضح، لأن أهل الكتاب في عصر النبوة كانوا يتبعون كتابا محرفا كذلك».
بدوره، رأى الأكاديمي المتخصص في الفقه الإسلامي، الدكتور منذر زيتون أنه «مع ثبوت إباحة زواج المسلم من الكتابية، لوروده صراحة في القرآن إلا أنه غير محبب في الشرع، لأمور كثيرة، أفادها قوله تعالى {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن..}، فقد أشارت الآية إلى افتقاد أولاء النسوة للإيمان بمعناه الحقيقي الصحيح، وليس المقصود العمل بمقتضيات الإيمان»
وتابع لـ»السبيل»: «لأن كثيرات من المسلمات يفتقدن إلى ذلك، وإنما المقصود مفهوم الإيمان على الأقل، فغير المسلمات بالعموم يفتقرن إلى معرفة الإيمان وأركانه، بينما المسلمات يعلمن ذلك ويدركنه، ويبقى أمر الالتزام بمقتضيات الإيمان ومتطلباته، مطلوب من جميع المسلمين رجالا ونساء، والتفاوت بينهم فيه واضح، بينما غير المسلمين بعيدون كثيرا عن مجرد معرفة الحقائق، بسبب اختلاط الأمور عليهم، وتغيرها وتبدلها».
وردا على سؤال: كيف ينظر إلى تلك الزيجات بحكم تردده على ألمانيا في رحلات دعوية متكررة؟ قال زيتون: «للأسف إن كثيرا من تلك الزيجات لا تهدف إلى ما أراد الإسلام من تكوين أسرة، وغايات سامية ومشروعة، بل تكون في أغلبها لمصلحة الحصول على فيزا أو جنسية أو إقامة أو نحو ذلك».
واعتبر زيتون «أن مجرد انعقاد عقد الزواج في مركز إسلامي أو عند شيخ مسجد لا يجعل العقد صحيحا إن لم يكن الرجل المسلم قاصدا من زواجه إحصان نفسه، وإحصان شريكة حياته، وللأسف فإن بعضهم يتزوج لمدة معينة لقضاء حاجته من الزواج، ثم يطلق زوجته لانتهاء الغرض منها، وهو أصلا مما يبطل الزواج».
وأشار زيتون إلى شروط أخرى، منها ألا يكون ذلك الزواج من امرأة تنتمي إلى قوم محاربين، كأن يتزوج فلسطيني من يهودية صهيونية، أو من كانت على شاكلتها فهذا زواج لا يجوز شرعا، لأنهم أعداء محاربون.
وختم زيتون كلامه بأنه في إحدى زياراته ألمانيا سأل الحاضرين: كم في هذا المجلس من تزوج بألمانية أو أجنبية، فرفع ستة أشخاص أيديهم، فقلت لهم: كم واحد منكم طلق زوجته، فرفع خمسة من الستة أيديهم، فقلت للسادس: أنت ناجح إذًا في زواجك؟ فضحك وقال: طلاقي من زوجتي محدد يوم الاثنين القادم، وكان الاجتماع يوم الجمعة، مؤكدا أنه لم يتوافق معها طيلة عيشته معها تلك السنوات الطويلة»؛ بسبب اختلاف الدين والثقافة والبيئة والعادات.
السبيل-بسام ناصر