لم تكد تندمل الجراح التي خلفتها مؤخراً تصريحات حميد شباط حول مغربية موريتانيا، حتى انضافت لها قبل يومين تصريحات في السياق نفسه كان أحمد الريسوني رئيس اتحاد علماء المسلمين قد أدلى بها خلال محاضرة أخيرة له، وأكد فيها «أن أي موريتاني له عمق ديني وتاريخي يعتبر نفسه مغربياً».
وقد أثارت هذه التصريحات التي اتخذت «طابعاً استهزائيًا» حسبما فهمه الكثيرون هنا، والتي تواصلت أمس الردود عليها، كبار الكتاب والشعراء والمدونين الموريتانيين الذين طالبوا الريسوني بالاعتذار السريع عنها».
وأكد الريسوني في محاضرته «أن موريتانيا طارئة، للأسف، والناس الذين عندهم أصالة في موريتانيا يعتبرون أنفسهم مغاربة»، للأسف.
ومع أن موريتانيين كثيرين علقوا على كلام الريسوني من زوايا مختلفة ومتشنجة في غالبها، فقد كان أبرز ذلك رد الشاعر الموريتاني الدكتور آدي ولد آدبه الذي نشره أمس تحت عنوان «المغرب وعقدة موريتانيا: من شعْبوية «شبَّاط»، إلى مقاصدية الريسوني».
وأكد في رده على الريسوني «أنا مدينٌ للمغرب بالتقدير، ما لم تطْفُ «عقدة موريتانيا» المُسْتحْكمة في نفوس الغالبية طفْرة، أو تَقَصُّدا، فهنا لا أعرف المُجاملات أبداً!».
وأضاف «لعله من غريب التشخيص أنْ تكونَ هذه «العقدة»ـ لا تختلف «أعْراضُها النفْسية المُزْمِنة»، ما بين فلتاتِ لسان الشعْبوي «حميد شبَّاط»، وتداعيات البحَّاثة المَقاصدي «رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، الدكتور أحمد الريسوني، فهُما في هذا «الهوى سَوَاء»، وما دمْنا قد تجاوزْنا الزوْبعة «الشَّبَّاطِّية»، بعْد التصدِّي لها بما يُناسِبُها، فنحْن هنا نتساءلُ: كيف سمَحَ -لنفسه- «شاطبي زمانه»، خبير «علم مقاصد الخطاب» الشرعي والسياسي، بحصْر صِفَتَي «الروح الديني»، و»عمق الأصالة»، في الموريتاني، بقبول انتمائه للمغرب، فهل مَعنى ذلك عنده أنَّ الشعْبَ الموريتاني كله، الذي لا ينتمي لغير دولته، المستقلة، ولا يرى «المَملكة المغربية»، إلا دولة شقيقة، مثل بقية دول المغرب الكبير- هو شعب «كافر» مجرد من «روحه الديني»، و»زنيم» مجرد من «عمق أصالته»؟.. ما هذه «الداعشية الجديدة»؟، يقول الشاعر آدبه.
وتابع آدبه يقول «كيف استسغتَ يا «شاطبي المغرب» «تعميم» هذا «الحكم» علينا جميعا، بـ« مفهوم المُخالفة»، وفحوى الخِطاب» من كلامك، مع أنَّ «منْطوقَه» لم «ينصَّ» إلا على شخصيْن، خانتك الذاكرة، في اسم أحدهما، وفي استحضار ملابسات كلامه، وبنيت حكمك بمغربية الآخر، على لبسه «للجلابية»، و على «مذهبه المالكي»، وعلى قوله في فتاواه: «نحن في المغرب»، وهنا أستسمح وقارَكَ في ضحكة صغيرة من ضحكات «دردشات مواقع التواصل الاجتماعي»(هههه)، مع أني لا أستسيغها هناك؛ بالله ربك يا «شاطبي المغرب»، هل تعتقد جازماً، أن لبْسي ولبْسك للبذلة العصرية، دليلٌ كافٍ لقبولنا بالانتماء للغرْب؟ وهل ارتداؤك لساعة سويسرية، وارتدائي لأخْرى صينية، حُجَّةٌ مُقْنعة، على أنَّ كلاً منَّا ينتمي للقُطْر المُصَنِّع؟ ثم ألا ترَى أنَّ «الجلابية» زيٌّ «مَغاربي»، قد يَرَاه العَلَّاقة الموريتاني الكبيرُ في السِّنِّ والمَعْنَى: عبد الله بن بيَّه-أطال اللهُ بقاءه- أنْسبَ له في تحرُّكاته، خلال أسْفاره الكثيرة، وأليقُ به من البذْلة العصْرية؟ مع أنِّي رأيتُكَ أكثرَ من مرَّة تلبسُ هذه، وتلبسُ «الكندورة الخليجية»، ومع ذلك لم يُساوِرْني شَكٌّ في مَغربيتك!».
«وأخيراً، يضيف آدبه، متى كانت صِفَتا: «المَغربية»، و«المَالكية» حكْراً على «المملكة المغربية»، دون أخَوَاتها، في هذا الفضاء المكاني «المالكي»، المُقابِل لفضاء المَشْرِق؟ دونَ اسْتحضار طبعاً- لحُكْمٍ قِيمي على الجِهات الجغْرافية، «وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيم».
وزاد «لا شكَّ أنكَ- وأنتَ العالم النحْريرُ- تعرف – أكثرَ مني- أنه كان هناك- ولايزالُ- مَغْرب عام- بهذا المَفهوم-، ينتمي إليه جميعُ سَاكِنِيه، وأنَّهم كانوا يسمُّونَه حتى بـ «الغرْب»، قبل وجود مسمى «الغرب» الجديد، وأن ذلك الغرب أو «المغرب الكبير» كان يُجَزَّأُ- أحيانا- في الأدَبِيَّات الجغْرافية، إلى «مَغْرب أدْنى»، و»مَغْرب أوْسَط»، و»مَغْرب أقْصى».. حسب درجات قرْبه وبُعْده من «المَرْكِزية المَشْرقية»، الواصفةِ له، انطلاقا من ذاتِها، ومَوْقِعِها… وأنَّ هذه المَغاربَ المتعددةَ، هي ما أصبحت تسمَّى اليوم: ليبيا، وتونس(أفريقية)، والجزائر، والمملكة المغربية، والجمهورية الإسلامية الموريتانية(شنقيط)..وإذا كانت «موريتانيا»- كما قلتَ- «طارئة»، فإنَّ تسْمياتِ هذه الدول الحالية، بحدودها التجْزيئية، لمَغْربها الكبير، كلها طارئة، أيضا، بما في ذلك دولتك أيها العلامة الريسوني، فقد قرأتُ خلال إقامتي الكريمة، الجميلة بين ظهراني شعبكم الطيب، بحْثا يرصدُ تعاطي الصحافةِ المِصْرية مع بلدكم، خلال فتْرة منْفَى الملك محمد الخامس رحمه الله، فوجدْتُ أنَّ ممْلكتكم لا تُسَمَّى يوْمَها إلا بــ «مرَّاكش»، وبهذا الاسْم-مُحَرَّفًا قليلا- خلدَ اسمُها عند جميع الغرْب«Maroc»، وهو المتداول بجميع لغاته حتى الآن».
وخاطب ولد آدبه الريسوني قائلاً «كلِّي رجاءٌ أيُّها البَحَّاثة الأصولي، المَقاصدي، أنْ يكونَ لـ «تأصِيلك» لمَغْرِبية موريتانيا، بمفهوم «المَغربية» الضيق، «مَقْصَد» أسْمَى من مجرد الخطاب السياسي البائد، الذي انتهتْ صلاحيته منذ عقود، بعد استقلال كل من دولتيْنا، من «مُستعْمِرهما» المشترك؛ الخُلاصةُ أنِّي كنْتُ أرْبَأ بعالمٍ جليلٍ، متخَصِّص في المدْرسة المَقاصدية الفقْهية الأصُولية، ويتبوَأ رئاسةَ «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»، عنْ أنْ تجرَّه «عقدة موريتانيا» إلى أنْ يبني خِطابَه الإقناعي الحِجَاجي على مُسَلَّمات واهيةٍ، أقرب إلى أسلوب المدرسة الشعبوية «الشبَّاطية، منها إلى المدرسة الأصولية الشاطِبِيَّة».
عبد الله مولود
نواكشوط ـ «القدس العربي»