عندما تؤكد البيانات الرسمية للجيش السوري ان هذا الجيش نجح في استعادة كل المواقع التي سيطر عليها المسلحون من مقاتلي “هيئة تحرير الشام” (النصرة سابقا)، والفصائل المتحالفة معها، مثل فيلق الرحمن، بين حيي جوبر والقابون في شرق دمشق، و”يعزز خطوط الصد مع المجموعات الارهابية في ريف حماة”، ويوقع خسائر كبيرة جدا في صفوف المهاجمين، فهذا يثير العديد من علامات الاستفهام حول مدى “الحكمة” من شن هذا الهجوم، وقبل ايام معدودة من بدء مفاوضات جنيف في نسختها الخامسة.
فاذا كان الهدف من هذا الهجوم المفاجيء الذي استهدف العاصمة هو الثأر من هزيمة حلب، وتعديل ميزان القوى العسكرية في ميادين القتال لمصلحة المعارضة المسلحة وفصائلها، وبإيعاز من الدول الداعمة مثل المملكة العربية السعودية وقطر، حسب ما تفيد بيانات الحكومة السورية واعلامها، وبما يعزز موقفها التفاوضي في جنيف، فان النتائج جاءت عكسية تماما، لانها صبت في مصلحة الوفد الحكومي، واعطت مصداقية لمطالبه في اعطاء الاولوية لبحث بند الارهاب وتقديمه على جميع البنود الثلاثة الاخرى مثل الحكومة الانتقالية، والدستور، والانتخابات.
***
الحكومة السورية خرجت قوية من هذا الهجوم المفاجيء، ليس لانها نجحت في احباطه، والقضاء عليه في ايام معدودة، وانما لانها ظهرت بمظهر الحريص على التمسك ايضا باتفاق وقف اطلاق النار، وترسيخه اكثر والبناء عليه، من خلال مشاركتها في مفاوضات الآستانة الذي قاطعتها الفصائل المسلحة المعارضة، وارسال وفدها الى جنيف للتأكيد على نواياها، التي يشكك في جديتها الكثير من المعارضين، بإعطاء الاولوية للحل السياسي.
استهداف دمشق فجأة، وبعد فترة من الهدوء امتدت لبضعة سنوات، وحصر المواجهات في المدن الاخرى، اربك الحكومة السورية دون ادنى شك، وربما كان هذا الارباك سيكون اضخم حجما لو ان الهجوم حقق تقدما متسارعا، لسبب بسيط، وهو ان مدينتين ظلتا بعيدتين عن الانخراط في “الثورة” منذ بدايتها، الاولى دمشق العاصمة، والثانية حلب، بسبب طبيعة الاولى المختلطة والمتعايشة اجتماعيا، ووجود المؤسسة الامنية القوية فيها، وكون الثانية تشكل العاصمة الاقتصادية، والعمود الفقري للمجتمع المدني في الشمال السوري، ولذلك تميل طبقتها الوسطى الى الاستقرار، ومهادنة الدولة، باعتبارها احد اعمدته الرئيسية.
عدم انخراط المدينتين في الثورة في ايامها الاولى كان مصدر احباط للقوى الداعمة لها، وفي منطقة الخليج على وجه التحديد، الامر الذي دفعها الى التحريض على تأليب الارياف والطبقات المحرومة المهمشة للتحرك باتجاهها، وهو توجه ايده البعض وعارضه البعض الآخر، وجاء صمود النظام وجيشه في الاولى لست سنوات، واستعادة الثانية بدعم ايراني وغطاء جوي روسي، وتواطؤ تركي، ليصلب من عود النظام، ويفشل كل الرهانات على سقوطه في المستقبل المنظور.
في ظل احباط الهجوم على العاصمة وبسرعة فاجأت القوى التي ارادت ان تخلط الاوراق من خلاله، بات من الصعب توقع حدوث اي اختراق جدي في مفاوضات جنيف الحالية، خاصة ان القوى العظمى باتت منشغلة حاليا بجبهات اخرى، جبهتي الموصل والرقة، فالقوات العراقية المدعومة ارضا بالبشمرغة الكردية وقوات الحشد الشعبي، وجوا بالغطاء الامريكي، تتقدم في الاولى، وان ببطيء، في ظل دفاع مستميت عن احيائها الغربية القديمة، بينما تشير كل الدلائل على ان معركة الثانية، اي الرقة، باتت وشيكة بعد الدعم الامريكي الضخم لقوات سورية الديمقراطية الكردية، وجيش العشائر الذي يتزعمه السيد احمد الجربا.
استقالة المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا كانت متوقعة، ليس لانه فشل في مهمته، وانما بسبب “الفيتو” الرسمي السوري الذي جاء على ارضية اتهامات له بتحريض المعارضة المسلحة على الاقدام على هجمات عسكرية مباغته تعدّل موازين القوى لصالحها في مفاوضات جنيف.
***
مفاوضات جنيف فقدت زخمها، والعملية التي انجبتها عادت، او اعيدت، الى بيات صيفي قد يطول، فاختيار مبعوث دولي جديد سيحتاج الى وقت طويل، وحتى يستوعب هذا المبعوث قواعد الازمة وابجدياتها وآلياتها، سيضطر للبدء من المربع الاول، والقيام بجولات استطلاعية مكوكية عديدة.
طبيعة المهمة التي وصلت من اجل انجازها الوفود المشاركة في مفاوضات جنيف ستتغير جذريا في الايام المقبلة، وستتحول من سياسية الى سياحية، وسيتقدم الحل العسكري على الحل السياسي، ومن غير المستبعد ان نرى ردا انتقاميا للتحالف الروسي السوري الايراني في ادلب في الايام المقبلة، على ارضية تحميل الفصائل المشاركة في هجوم دمشق مسؤولية خرق اتفاق وقف اطلاق النار الذي جرى التوصل اليه في مدينة الآستانة.
الصمت الروسي على هجومي دمشق وحماة مريب جدا، ويوحي بخيبة امل مكتومة، قد تتبلور في خطوات عسكرية في ميادين القتال.