يتجول بها باعة أميون في شوارع كبريات المدن الافريقية وتعبر موانئ القارة ملايين الأطنان من حبوبها وحقنها، وترص على رفوف آلاف الصيدليات، ويتناولها كل واحد منا، إنها الأدوية المزورة التي غزت القارة السمراء ولم تتمكن خطط ولا جمارك الحكومات من القضاء عليها.
فعلى مدى السنوات الماضية شكلت الأدوية المغشوشة شبحا التهم أرواح الآلاف من سكان البلدان الافريقية.
واختلفت المعاني المقصودة بالأدوية المغشوشة فمن قائل بأنها «المنتجات التي يتعمد تغيير محتواها بقصد النصب والاحتيال، سواء في الهوية أو المصدر أو المكونات نفسها، أو وضعها في عبوات مزيفة أو ملوثة»، ويرى آخرون «أن الدواء المغشوش هو الدواء المزور عن قصد أو بشكل مخادع في اسمه أو تركيبته أو مصدره، كما يشمل منتجات فيها مكونات حقيقية أو غير حقيقية، أو بدون مواد فعالة، أو مواد فعالة غير كافية، أو مواد فعالة مزيفة». أما الأدوية المقلدة فهي، السطو على علامة تجارية لدواء مشهور، يحوي بعض المواد الفعالة سواء أكانت كافية أم غير كافية.
مواجهة الشر المحدق
وللإسهام في محاربة هذا الشر المحدق، باشرت المنظمة العالمية للجمارك في علاج ظاهرة الأدوية المزورة حيث تمكنت مؤخرا، ضمن عملية واسعة النطاق، من احتجاز ومصادرة 126 مليون وحدة علاجية مغشوشة في ستة عشر ميناء من موانئ افريقيا.
والغريب أن الأدوية المغشوشة لا يسوقها الباعة المتجولون بل إنها موجودة بكثرة في الصيدليات الحكومية وفي مخازن أدوية المنظمات الإنسانية غير الحكومية التي خدعتها مهارة صناع هذه السموم فوقعت في فخ المغشوشات.
لقد تحولت الأدوية المغشوشة التي تقضي كل سنة على حياة مئات الملايين، إلى ظاهرة مخيفة في افريقيا، وهو ما جعل المنظمة العالمية للجمارك تطاردها في الموانئ والمطارات.
أرقام مخيفة
كشفت حصيلة نشرتها المنظمة، عن عملية مطاردة للأدوية المزورة خلال شهر أيلول/سبتمبر الماضي عن حقائق غريبة، فمن أصل 243 حاوية تم تفتيشها، توجد 150 حاوية تحمل أدوية مغشوشة، وكانت الهند مصدر نسبة 75 في المئة من هذه الأدوية بينما كانت الصين مصدر الـ 25 في المئة الباقية. وظلت نيجيريا الاتحادية كما كانت، بوابة دخول هذه الأدوية بمعدل 35 في المئة بينما احتفظت دولة بنين بموقعها كبوابة ثانية لعبور المواد الطبية المغشوشة بمعدل 26 في المئة. وتعتبر عملية أيلول/سبتمبر الماضي رابع عملية تنفذها المنظمة العالمية للجمارك منذ أن بدأ تطبيق البرنامج المشترك بين المنظمة والمعهد الدولي للبحث المضاد لتزوير الأدوية عام 2012.
وقد صودر خلال السنوات الأربع الماضية أكثر من 900 مليون مغشوش بقيمة تقدر بـ 400 مليون أورو.
وتصدرت أدوية أمراض الالتهاب والملاريا والمضادات الحيوية وأدوية الحموضة المعدوية، قائمة الأدوية المحتجزة.
أهداف وتدمير
يركز صناع الأدوية المغشوشة إنتاجهم على أدوية الأمراض الأكثر شيوعا وخاصة أدوية حمى الملاريا، وتوجه هذه السموم بصمت كامل نحو مناطق السكان الأكثر فقرا. ويقول جان دافيد لفيت رئيس مجلس إدارة المعهد الدولي للبحث المضاد لتزوير الأدوية «أن الأدوية المغشوشة ليست فقط سبب موت الملايين من البشر بل إنها تساهم في خلق مقاومة لبعض العلاجات».
وينتقد الكثيرون إهمال الحكومات لهذه الظاهرة ونقص التشريعات المجرمة لها ما يفتح المجال واسعا أمام شبكات الجريمة المنظمة. ويقول انا هينوجازا الخبير في المنظمة العالمية للجمارك «إن المجرمين يعرفون جيدا النواقص القانونية في دول عديدة حيث يمنع النظام وكيل الجمارك من فتح أي حاوية لتفتيشها في غياب الشخص المورد، وبهذا يستفيد مستورد السموم من الرقابة والمصادرة».
غياب معاهدة دولية
وفي غياب معاهدة دولية أكثر اتساعا من المعاهدة الأممية الحالية، لمحاربة الأدوية العابرة للحدود بما فيها تهريب المخدرات، فإن القضاة لا يملكون الوسائل التي تمكنهم من تفكيك العصابات.
واعترف برنار لروي مدير المعهد الدولي للبحث المضاد لتزوير الأدوية أن «من النادر أن تؤدي المواد التي يصادرها المعهد لمتابعات قضائية».
وينضاف لهذه العوائق النقص الحاد في الوسائل، حيث أن تحليل قرص واحد يكلف خمسة يورهات بينما تبلغ قيمة الماسح الضوئي المستخدم في الكشف عن الأدوية المغشوشة، حوالي 40 ألف يورو مما يجعل بعض الدول الافريقية عاجزة عن اقتناء مثل التجهيزات.
المنصة الموريتانية
وسبق لمعهد البحث المضاد لتزوير الأدوية الفرنسي (IRACM) أن أكد في تقرير أخير له «أن موريتانيا أصبحت مصدرا كبيرا لتوزيع الأدوية المزورة في غرب افريقيا».
وأكد المعهد «أن عشرات الأطنان من الأدوية تصل إلى السوق الموريتانية كل عام، ويتم توزيعها داخل البلاد وفي دول غرب افريقيا بطرق ووسائل مختلفة».
وأظهر تقرير المعهد الفرنسي «أن تزوير الأدوية في موريتانيا يتفاقم بشكل مذهل منذ عام 2004 تاريخ صدور قانون جديد يسمح لكل موريتاني بافتتاح صيدلية لبيع الأدوية بشرط حصوله على اعتماد من حامل شهادة في الصيدلة».
وتتبعت وكالة «الأخبار الموريتانية» في تحقيق لها حول الأدوية المغشوشة في موريتانيا، عشرات الشبكات التي تنشط في تزوير الأدوية الأغلى ثمنا والأكثر استخداما، من أدوية ضغط الدم إلى وسائل التخدير، مرورا بالمضادات الحيوية بجميع أنواعها.
وأكد صيادلة موريتانيون مختصون «أن تزوير الأدوية يتم بمهارة كبيرة مما يجعل التفريق بين المنتج المزور والأصلي أمرا مستحيلاً دون اللجوء إلى المختبرات».
وأكدت وكالة «الأخبار» أن شبكات بيع الأدوية المزورة تنشط بين عدة دول افريقية، عبر طرق تهريب تربط موريتانيا بغينيا كوناكري وغينيا بيساو».
وكشفت عن «توزيع شبكات التزوير سنويا لعشرات الأطنان من مختلف الأدوية داخل الأسواق الموريتانية، وتعتمد على هذه الشبكات صيدليات حكومية في توفير حاجاتها من الأدوية».
أسواق وضحايا
وتشكل أسواق غينيا كوناكري أكبر ملتقيات تداول الأدوية المغشوشة في المنطقة، حيث يتجمع فيها سماسرة الأدوية المزورة، القادمين من الصين والهند ونيجيريا وغانا وساحل العاج.
وحسب تقرير وكالة «الأخبار» فإن «تجارة الموت المستفحلة في موريتانيا تخلف سنويا آلاف القتلى دون أن يتم الكشف بشكل رسمي عن هذه الأرقام، أو تحديد المسؤولين عنها من المتاجرين في هذه المواد السامة».
ويقدر معهد البحث المضاد لتزوير الأدوية الفرنسي عدد قتلى الأدوية المزورة في افريقيا بـ 100 ألف قتيل سنويا، في حين لا توجد أي إحصائيات عنها في موريتانيا.
وتؤكد إحصاءات منظمة الصحة العالمية «أن ما بين 30٪ إلى 70٪ من الأدوية التي تباع في افريقيا مغشوشة، وهو ما يتسبب في وفاة زهاء 2000 شخص يوميا، فضلا عن خسائر هائلة يتكبدها قطاع صناعة الأدوية تتراوح ما بين 70 و75 مليار دولار سنويا».
الباحث الغاني برايت يخترع تقنية تكشف الدواء المغشوش
دفع استفحال تجارة الأدوية المغشوشة في البلدان الفقيرة، حيث المناخ المناسب والقدرة الشرائية الضعيفة للسكان، الباحث الغاني برايت سيمونز لاقتراح حلول بديلة فعالة للقضاء على هذا النوع من التجارة التي تستهدف صحة المواطنين في الأساس قبل استهدافها لجيوبهم، فتوصل لاختراع تطبيق كفيل بالحد من هذه المعضلة.
ويمكن للمواطن عبر هذا التطبيق المتاح، إرسال رسالة قصيرة ليتحصل فورا على جواب يتأكد من خلاله من مدى صلاحية الدواء قبل أن يشتريه.
وتقوم الفكرة على تطوير نظام يسمح بكشف الأدوية المغشوشة، والمبدأ بسيط، لا يتطلب سوى التوفر على علبة دواء وهاتف ذكي للقيام بالتجربة، فخلف العلبة، توجد منطقة يجب حكها للتعرف على رمز مكون من اثني عشرة رقما، يتم إرسال هذا الرمز في رسالة نصية قصيرة حتى تتلقى إجابة فورية إما بالإيجاب أو السلب على شكل «OK» or»NO» بخصوص صلاحية الدواء، كما يمكن الاستعلام مباشرة عبر بوابة الموقع.
والباحث سيمونز، واحد من أولئك المخترعين الخمسة والثلاثين تحت سن 35 الذين تم تكريمهم عام 2013 من قبل المجلة الأمريكية MIT TechnologyReview.
وعن المشروع وبداياته، يقول»كنت في حاجة لشيء ملموس أكثر، فأدركت أن تغييري لما حولي يبدأ بعالم الأعمال، فقررت العودة إلى غانا لإنشاء شركتي الخاصة».
ويضيف «بقي أن أجد مجالا ذي أثر قوي حيث يمكنني فعل ذلك دون دعم مالي يذكر، فوقع اختياري على التكنولوجيا، فشركات الاتصالات تقوم باستثمارات ضخمة في أفريقيا، فكان يلزمني فكرة خلاقة لإقناعهم بإعطائي حق الولوج إلى بنياتها التحتية. «
وبعدما قطع أشواطا طويلة في سبيل إطلاق مشروعه بدعم من الشركة الأمريكية المتخصصة في الكمبيوتر HP ومنظمات أممية وجهات مسؤولة عن الشأن الصحي في كل من غينيا ونيجيريا وكذا بعض الهيئات الصيدلانية وشركات الاتصالات، تمكن سيمونز عام 2009 من إطلاق مشروعه M-Pedigree Network في مدينة أكرا عاصمة غانا، وهو مشروع يجمع بين تقنيات الويب والهواتف المحمولة لمحاربة ظاهرة الأدوية المغشوشة.
وعن التقنية والوسائل المستعملة لكي يصل المنتج في صيغته النهائية إلى المستهلك، يقول سيمونز «لكي أتمكن من التواصل مع الفاعلين في قطاع الصناعة والموزعين وأخيرا المستهلك، كان لا بد من أن أشتغل في بادئ الأمر مع كل من مختبرات الصيدليات على وضع ملصق خاص يحوي رمز شريطي للمنتجات ومع شركات الاتصالات بغية فتح الشبكات للاستفادة مجانا من خدمة الرسائل النصية القصيرة».
بعد أقل من أربع سنوات على إنشائه، أحدث التطبيق أثرا اقتصاديا واجتماعيا في بلدان عدة، حيث أصبح حاليا الأداة المستخدمة من قبل الجهات المكلفة بالشأن الصحي في كل من غانا ونيجيريا وكينيا والهند – البلدان الأربعة التي تتوافر على مكاتب جهوية لـmPedigree Network– K ويجري حاليا تجربته في أوغندا وتنزانيا وجنوب افريقيا وبنغلاديش.
وتمكنت الشركة من توقيع شراكات عدة مع موزعين وشركات الاتصالات ومنظمات حكومية وكذا كبريات الشركات التي تنشط في مجال صناعة الأدوية كسانوفي أفنتوس وريتشر غويلين، كل هؤلاء الفاعلين متواجدين على منصة .Goldkeys
ولا تقتصر هذه الشراكات فقط على ضمان مصداقية المعلومة وتطوير شبكات التمويل الذكية والأكيدة وإنما أيضا تستهدف تعبئة المجتمع للوقوف ضد هذه الظاهرة.
وتحصل الشركة أيضا دخلا إضافيا لقاء خدمات تجميع البيانات وتحليلها لتمكين الشركات من فهم سلوك مستهلكي سوق معين.
بفخر واعتزاز يقول سيمونز «هذه هي المرة الأولى التي يلقى فيها ابتكار افريقي استحسان العالم بأسره، وهو ما يبرهن على أن أفريقيا يمكن أن تكون مصدرا لاختراعات ذات أثر كبير» هذه ليست سوى البداية، فسيمونز يعتزم مع فريقه حاليا توسيع الخدمة لتطال استخدام البذور الزراعية ومستحضرات التجميل والخدمات اللوجستية وإدارة سلاسل التوريد والتسويق، وهي مجالات أكثر ربحية ما كان الباحث الغاني ليتصور أن نشاطه سيتسع ليشملها عند إطلاق مشروعه.
عبد الله مولود/نواكشوط ـ «القدس العربي»