مسار الإسلاميين في موريتانيا وعلاقاتهم بالأنظمة، مدنية كانت أو عسكرية، مسار متعدد المسارب ومتنوع المنعرجات، وقد طبع العلاقةَ بين الإسلاميين في موريتانيا وبين الأنظمة المتعاقبة على الحكم الشدُّ أكثر مما طبعتها المرونة. واللافت في الخريطة السياسية الإسلامية في موريتانيا هو التنوع أحزابا وجماعات ومرجعيات، غير أن حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل"، المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، يبقى من أكثرها حضورا على مستوى الخطاب والأداء والتأثير. كانت فترة الرئيس السابق ولد الطايع من أكثر الفترات توترا مع الإسلاميين، فقد زج بالكثير منهم في السجون وعرف بعضهم المنافي وتم حلُّ نواديهم. وكانت أحسن فترتين سياستين في مسار الإسلاميين هما فترة الرئيس الأسبق ولد هيداله التي تم فيها تأسيس الجمعية الثقافية الإسلامية وهي أبرز واجهة سياسية وفكرية وتنظيمية للإسلاميين. أما الثانية فكانت فترة الرئيس ولد الشيخ عبد الله التي تم الاعتراف فيها بحزب تواصل، ودخل بعض أعضائه حكومة لم تعمر طويلا. غير أن الترقب والتوجس في العلاقة بالإسلاميين ساد ويسود عهد الرئيس الحالي ولد عبد العزيز. وقد تميز خطاب الإسلاميين تجاه نظام ولد عبد العزيز منذ البداية بالمهادنة، فدخلوا معه في انتخابات قاطعتها أحزاب المعارضة، لكن نظام ولد عبد العزيز قابل هذا التقرب بالانغلاق والتوجس. وعند انطلاق موجة الربيع العربي تناغم الإسلاميون مع تشكيلات المعارضة الموريتانية في الحراك المطالب برحيل نظام ولد عبد العزيز، وما إن خبا ذلك الحراك حتى عاد الإسلاميون للتقرب من النظام مشاركين دون سواهم من طيف المعارضة في انتخابات محلية وتشريعية حصلوا من خلالها على نتائج مهمة. غير أن التوجس ظل يطبع موقف السلطة من الإسلاميين في قربهم أو ابتعادهم منها. ويبقى تدبير الترقب وتسيير التوتر هما أبرز ما يميز علاقة الإسلاميين الراهنة بنظام ولد عبد العزيز مع إمكانية الانزلاق نحو خيار المواجهة والصدام خصوصا وأن خيار التحالف والتطبيع يستبعده ماضي العلاقات والثقة المهزوزة بين الطرفين: السلطة والإسلاميين. ولا يخفى على الطرفين أن تكاليف الصدام ستكون مزعجة لهما معا.
استعاد قاموس السجال السياسي بين السُّلطة وإسلاميي المعارضة ممثَّلين في حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل" درجة جديدة من الحدَّة انتقلت من التخوين إلى الدعوة إلى حلِّ الحزب، والتخلص من تبعات وجوده كقوة سياسية وإعلامية فاعلة(1). وليست هذه الحدَّة إلا وجهًا من أوجه معقَّدة طبعت مسار التعاطي بين السلطة والتيار الإسلامي في موريتانيا.
السُّلطة والخطاب الإسلامي
حافظت كل الأنظمة السياسية المتعاقبة في موريتانيا على مسحة دينية وعلى توجهات إسلامية في السياسة وإدارة الشأن العام، وظلت الأنظمة حريصةً على ترسيخ ما تراه سر تميز الإسلام الموريتاني عن غيره من طبعات العمل الإسلامي في بقية العالم، دون أن يلغي ذلك أن الأنظمة المتعاقبة كانت في عمقها أنظمة علمانية أحادية متوجسة من الظاهرة الإسلامية بشكل عام، وتتعاطى معها في طور المصلحة والاستغلال السياسي والتحكم والتحجيم، ويمثِّل نظام العقيد معاوية ولد الطايع أبرز مثال على ذلك.
فيما يمثِّل نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز من بين الأنظمة السياسية التي تعاقبت على الحكم في موريتانيا أكثرها قدرة على استغلال الهوية الدينية للشعب، وعلى إنتاج خطاب إسلامي قادر على تثوير مشاعر الجماهير.
ومن السهل على المتابع لتفاعلات المشهد السياسي الموريتاني والفاعلين في حقل القوى السياسية الإسلامية أن يلاحظ أن حزب تواصل يمثِّل الواجهة السياسية الأبرز للتيار الإسلامي لكن هذا لا ينفي وجود قوى سياسية أخرى محسوبة على الإسلاميين، وأبرزها:
حزب الفضيلة برئاسة الشيخ عثمان أبي المعالي، وهو حزب صغير جماهيريًّا لكنه طرف قوي في دائرة أحزاب الموالاة الداعمة لنظام الرئيس ولد عبد العزيز.
مشروع حزب الأصالة والتجديد المحسوب على التيار السلفي بقيادة الأستاذ محمد محفوظ ولد إدومو(2).
زعامات إسلامية متعددة تشمل قادة سابقين للتيار الإسلامي وعلماء وأئمة يعملون ضمن الصف السياسي الداعم للسلطة.
الإسلاميون والسُّلطة
لم يكن من باب الصدف أن يكون تأسيس الحركة الإسلامية في موريتانيا رجعَ صدًى لمتغيرات السلطة فبتحكم اليسار الموريتاني في الجناح الشبابي لحزب الشعب، (وهو الحزب الذي كان مهيمنًا على الشأن السياسي في عهد الرئيس الأسبق المختار ولد داداه) خلال مؤتمر التوضيح سنة 1976(3)، استشعر مجموعة من الشباب الإسلامي خطر انتشار الفكر الشيوعي فتداعوا إلى تأسيس أول بناء تنظيمي خاص بالإسلاميين عُرف باسم " أنصار الله المجاهدون"(4)، ولقد كان تنظيم "أنصار الله المجاهدون" مسبوقًا بحالة وعي متنام تجسَّد فيما عُرف باسم جماعات المساجد أو "أهل بسم الله الرحمن الرحيم"(5).
سيتعزز حضور الإسلاميين بشكل ملحوظ في فترة الحكم العسكري من (1980-1984) لا باعتبارهم قوة سياسية فاعلة مشارِكة في القرار السياسي الذي تتحكم فيه ثُلَّة من كبار قادة المؤسسة العسكرية، ولكن باعتبارهم قوة شعبية صاعدة، تتقاطع مع السلطة في كثير من مواقفها وخصوصًا فيما يتعلق بالهوية والخطاب الديني. ولقد مثَّلت شخصية الرئيس الأسبق، محمد خونه ولد هيدالة، البدوية المتدينة، عامل تأثير أساسي في علاقة السلطة بالإسلاميين.
ويتحدث الإسلاميون بشيء من الفخر والتضخيم عن دورهم المشهود في إسقاط دستور 1981 الذي رأوا فيه تقنينًا للعلمانية وتشريعًا للتغريب، وحفل بيان التيار الإسلامي حينها بتعديلات اشترطوا اعتمادها لدعمهم للدستور في لغة لا تخلو من تهديد "لا نُخفي عليكم أن هذه التعديلات إذا لم تدخل على مشروع الدستور بعبارات صريحة يشترك في صياغتها من نثق بمعرفتهم وأمانتهم فإننا سوف نعارضه بكل ما نملك"(6).
ورغم ذلك لا يخفى أن للتوجه الإسلامي لولد هيدالة دافعيْن أساسيين، هما:
ضعف السند الاجتماعي وتصاعد الصراع داخل المؤسسة العسكرية الحاكمة حينها، ثم الصراع المفتوح مع أغلب الحركات السياسية.
التديُّن الشخصي للرئيس ثم مستوى من تأثير علاقاته ببعض الشخصيات العِلمية الفاعلة في المشهد الدعوي حينها(7).
لقد أدار الإسلاميون هذه الفترة بكثير من الاستغلال والتعاطي الإيجابي مع السلطة، فحصَّلوا في هذه الفترة مكاسب، أبرزها:
تأسيس الجمعية الثقافية الإسلامية التي مثَّلت أبرز واجهة سياسية وفكرية وتنظيمية للإسلاميين.
نشوء مؤسسات تعليمية مهمة مثل المعهد العالي للدراسات الإسلامية، وكذا لجنة المساجد والمحاظر. وإن كانت مدارس ابن عامر الإسلامية الشهيرة بموريتانيا قد تأسست بدايةَ ستينات القرن الماضي.
انتشار الخطاب الإسلامي وترسُّخ بعض مرجعياته الدعوية والعلمية(8).
من الكمون إلى التصدي
تضافرت عوامل أساسية لتوتير العلاقة بين الإسلاميين والسلطة مع تسعينات القرن الماضي، وهي:
التوجس المتصاعد لدى الساحة الإسلامية العامة من رأس السُّلطة، معاوية ولد الطايع(9)؛ وهو ما أفشل محاولات الإسلاميين المتكررة للتقارب مع النظام الجديد والتي قادها مقرَّبون من النظام وشخصيات قيادية في التيار(10).
موقف الإسلاميين المنتقد بشدة لتعاطي النظام مع الملف العِرقي وأحداثه المؤلمة في سنة 1989.
تشتت مراكز القوى والنفوذ بين الإسلاميين الحركيين ممثَّلين في الحركة السرية (حاسم) وبين التيار العلماني وشخصياته العلمية(11).
ولقد تبلورت ردَّة الفعل السياسية لدى النظام في:
رفض الترخيص لأية بنية سياسية مستقلة للإسلاميين سواء في حزب الأمة أو جبهة القوى الإسلامية.
الاختراق القوي للبِنية التنظيمية للإسلاميين ليُتوَّج الأمر باعتقالات 1994، ولينهار جبل الجليد بقوة ويظهر قادة الحركة في التليفزيون الرسمي وهم يتلون اعترافاتهم ويتوسل بعضهم لنيل الصفح والتماس العفو.
حلِّ كل المؤسسات الدعوية والاجتماعية التابعة للإسلاميين(12).
وأمام هذه الوضعية انكفأت الحركة الإسلامية ممثَّلة في التيار الإخواني على نفسها طيلة السنوات الثماني اللاحقة لتعيد بناءها الذاتي بخطابها ورموزها الجدد، وكان حضورها السياسي متركزًا على المشاركة الفاعلة في حزب اتحاد القوى الديمقراطية-عهد جديد المعارض برئاسة أحمد ولد داداه، إضافة إلى بعض الحضور الإعلامي البسيط الذي ظل عرضة للمضايقة والمنع فيما كان لبعض قادتها السابقين حضور قوي في الواجهة السياسية للحزب الجمهوري الحاكم في موريتانيا(13).
لكن وتيرة الصراع ستأخذ بُعدًا أكثر حدَّة منذ العام 2003 وحتى سقوط نظام ولد الطايع متمثلة في:
تصاعد خطاب الإسلاميين المعارض للسلطة وخصوصًا بعد التطبيع بين النظام والكيان الصهيوني في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1999، وكان لظهور الشيخ الشاب محمد الحسن ولد الددو حينها دور أساسي في إكساب تلك المعارضة بُعدًا جماهيريًّا واسعًا جدًّا(14).
تصاعد القوى الشعبية للإسلاميين حيث ظهر أن سنوات الكمون والمنع السياسي رافقها حراك دعوي قوي رممت به الحركة بعض الجدران المنهارة من بنائها الجماهيري، الذي ركَّز على البعد الدعوي والحضور القوي في النقابات الطلابية والعمالية.
ولم تكن ردة النظام هذه المرة أقل عنفًا وشمولية من سابقتها، حيث بادر إلى:
حلِّ أغلب المؤسسات الخيرية والدعوية والإعلامية التابعة للتيار الإسلامي بشقيه الإخواني والسلفي.
اعتقال قادة الإسلاميين ومرجعياتهم العلمية وعلى رأسها الشيخ محمد الحسن ولد الددو، وقد شملت هذه الاعتقالات رموز الساحة الإخوانية والسلفية والتبليغية على حدٍّ سواء.
حملة إعلامية وسياسية قوية ضد التيار الإسلامي رموزًا وتصورات فكرية.
منع ترخيص لكل المشاريع الحزبية التي تقدم بها الإسلاميون.
وفي المقابل ركَّز الإسلاميون على:
حملة مواجهة قوية سلاحها المساجد لمواجهة حملة الإعلام (15).
العمل السياسي القوي والفاعل ضد الرئيس ولد الطايع من خلال ترشيح ومساندة الحليف الأسبق للإسلاميين محمد خونه ولد هيدالة في رئاسيات 2003(16).
الانخراط بقوة في المحاولة الانقلابية ضد النظام في 2004 والمساهمة الفاعلة في تنظيم فرسان التغيير العسكري المناوئ للنظام.
وقد أدت تلك المواجهة إلى:
استنزاف الرصيد الشعبي للنظام ليظهر في ثوب صديق الصهاينة المحارب للأئمة والدعوة الإسلامية وهي التهمة التي ركز عليها الإسلاميون في مواجهتهم للنظام.
تصدع جدار التماسك العسكري إثر المحاولات الانقلابية المتكررة منذ العام 2003 وحتى سقوط النظام في 3 أغسطس/آب 2005.
أزمة المواقف والمواقع
بسقوط نظام ولد الطايع في صيف 2005 بدأت مرحلة أخرى في التاريخ السياسي العام في البلد، وقد كانت فاصلة مؤثِّرة في تاريخ الإسلاميين الذي خرجوا من الأزمة. وهناك سمتان طبعتا الحركة الإسلامية في هذه الفترة، وهما:
زهو سياسي بسقوط الرئيس ولد الطائع معتبرين أن صراعهم معه كان السبب الأساسي لانهيار سلطته.
رصيد شعبي كبير، متضامن مع خطاب المظلومية الذي بدأ يفقد بريقه منذ سقوط النظام ليترك مكانه لخطاب سياسي جديد ومواقع متغيرة في خريطة الفعل السياسي بعد ولد الطايع.
ويمكن رصد أبرز محطات العلاقة بين الإسلاميين والسلطة في هذه الفترة فيما يلي:
عقد تفاهم غير مكتوب تنازَلَ بموجبه الإسلاميون عن نضالهم المستميت من أجل ترخيص حزبهم الخاص، وفي المقابل سمح لهم النظام بأمور، هي:
الترشح ضمن لوائح مستقلة(17) حملت اسم "الإصلاحيون الوسطيون"، واستطاعوا من خلال ذلك إحراز مناصب برلمانية وبلدية محدودة.
إعادة البناء المؤسسي والتمدد في مجال العمل المدني عبر المؤسسات الإعلامية ومؤسسات العمل الخيري والثقافي والاجتماعي المتعددة.
تحرير المسار الدعوي من المضايقات السياسية والأمنية، وبذلك استعاد "الدعاة" حريتهم في المنابر والمناشط العامة.
أمَّا نظام ما بعد الرئيس ولد الطايع فقد استفاد هو الآخر من هذا التعاقد غير المنصوص نجاحات مهمة، منها:
طمأنة القوى الدولية المتوجسة من الإسلاميين، وذلك بتأخير الترخيص للحزب المذكور إلى ما بعد الانتقال إلى النظام المدني في 2007.
تجميد نضال الإسلاميين في مجال حقوق الإنسان حيث تراجع أداء واجهتهم الحقوقية: "المرصد الموريتاني لحقوق الإنسان" إلى أقصى درجة.
عزل الإصلاحيين الوسطيين عن التيار السلفي الذي كان شريك الإصلاحيين في تهمة الإرهاب والتطرف وقد استبقى النظام قادته في السجن طيلة سنتين بعد سقوط ولد الطايع(18).
وقد واصل الإسلاميون بتصاعد وتيرة التقارب مع السلطة الجديدة المنتخبة التي قابلت ذلك التوجه:
بترخيص حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل" ليكون البوابة السياسية للتيار(19).
ترخيص عدد من المؤسسات الثقافية والعلمية أبرزها جمعية المستقبل للثقافة والتعليم برئاسة الشيخ محمد الحسن ولد الددو.
قبل أن يُتوَّج الأمر بمشاركة الإسلاميين بوزيرين في حكومة الرئيس السابق ولد الشيخ عبد الله مكفِّرين بذلك عن دعمهم لمنافسه أحمد ولد داداه في رئاسيات 2007(20).
لقد احتاج الإسلاميون حينها إلى مداد كثير وحملات شرح قوية:
لإقناع جماهيرهم بأن دخول الحكومة من تقدير المصلحة العامة للبلد ومصلحة الحزب وتياره الإسلامي العام.
إقناع السلطة وأطرافها بأن الإسلاميين طرف مدني و"موالاة ناقدة" يمكنها التكيف مع كل الشركاء وفق المشترك السياسي.
إقناع القوى والفعاليات المعارضة بمبدئية المواقف السياسية للإسلاميين، وأنهم لا يزالون معارضة ناصعة؛ حيث باتت صفة البراغماتية وتغليب المصلحة الخاصة أبرز الصفات السلبية التي يوصم بها الإسلاميون الموريتانيون.
لكن عاصفة الأزمة الداخلية للسُّلطة كانت أسرع من طموح الإسلاميين واضطر الرئيس ولد الشيخ عبد الله إلى إخراج المعارضة بشكل مذل من حكومته بعد أقل من ثلاثة أشهر من انضمامهم إلى صف الأغلبية(21)، قبل أن يلحق بهم الرئيس نفسه بعد ذلك بقليل في انقلاب عسكري نفَّذه الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز.
حركية المواقف
أخذ مسار العلاقة بين السلطة والإسلاميين بعد ولد الشيخ عبد الله مسارًا جديدًا؛ فكانوا من أبرز مؤسسي الجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية المناوئة للانقلاب، لكنهم سرعان ما عادوا إلى خيار المهادنة عقب اتفاق داكار(22)، وقد كان من أبرز مؤشرات هذه المرحلة:
الترشح المستقل لرئيس حزب تواصل، محمد جميل منصور، منفردًا عن مكونات الجبهة التي دعمت المترشِّح للرئاسة مسعود ولد بلخير سنة 2009.
التقارب الواضح بين النظام وبعض الزعامات الإسلامية مثل الشيخ محمد الحسن ولد الددو وجمعيته المستقبل التي نشطت بقوة وجماهيرية خلال هذه الفترة.
التحالف في انتخابات تجديد مجلس الشيوخ حيث شكَّل الإسلاميون والسلطة لوائح مشتركة في بعض الدوائر.
ويظهر أن مواقف الإسلاميين في هذه الفترة كانت محكومة بمحددين أساسيين:
السعي إلى المشاركة في مشهد السلطة والانتقال من التقارب إلى الشراكة مع السلطة.
محاولة ترميم البناء الجماهيري المتصدع بسبب تأميم النظام لخطابهم السياسي والديني، وقد وجد الإسلاميون أنفسهم في مقابل نظام يسلبهم تدريجيًّا -دعائيًّا على الأقل- أبرز مميزات خطابهم السياسي ويتوغل بشكل تدريجي أيضًا في دائرتهم الجماهيرية، وبهذا أصبح التقارب معه ضرورة لحماية الخطاب و"المكاسب".
وفي مقابل هذا الود واصلت مؤسسة الحكم في موريتانيا بفرعيها السياسي والأمني الانغلاق والتوجس من الإسلاميين وحزبهم (تواصل) ليكتشف قادة الحزب بعد كثير من الانتظار والترقب أن:
النظام غير جاد في الانفتاح السياسي ولا يرغب في الحوار.
أن محاربة الفساد ليست أكثر من شعار، وأن الفساد مستشرٍ بشكل كبير في جميع مفاصل الدولة وخصوصًا الدوائر المقربة من النظام(23).
استيراد الربيع العربي
تناغم الإسلاميون في موريتانيا مع موجة الحراك الذي عرفه العالم العربي أواخر 2010 وبدايات 2011 وشكَّلوا رأس حربة هذا الحراك في موريتانيا ضمن تحالف واسع من المعارضة، وسرعان ما باء مسار الثورة بالفشل نتيجة عوامل، أبرزها:
تصدي النظام بقوة وبطش لمظاهرات ومسيرات الرحيل التي قادتها المعارضة.
انعدام الثقة بين أطراف المعارضة فيما بينها، وتصارعها على تقاسم الثمرة المستقبلية لثورة لم تنجح.
توجس الشارع عمومًا من خيار الثورة والعنف بسبب المشاهد العنيفة والنهايات المروعة لثورات ليبيا ومصر وسوريا.
وأمام هذه الظروف لم يجد الإسلاميون غضاضة في هذه الفترة من الانتقال من أقصى التيار الثائر، ومن خطاب ترحيل النظام وإسقاط السلطة إلى خطاب أكثر وداعة ولباقة، فبادروا إلى المشاركة في الانتخابات النيابية والبلدية التي قاطعها أغلب الأحزاب المعارضة ليضيف الإسلاميين خرقًا جديدًا في جسر الثقة المهتزة بينهم وبين بقية المعارضة.
وإذا كانت تلك المشاركة قد منحت الحزب تمددًا سياسيًّا على مستوى المجالس النيابية والبلدية فإنها لم تعصم تياره من ضربة قوية تمثلت في:
حلِّ جمعية المستقبل، أهم الواجهات العلمية والثقافية للإسلاميين، وتوتر العلاقة بشكل غير مسبوق بين النظام والواجهة العِلمية للإسلاميين الشيخ محمد الحسن ولد الددو.
التهديد المستمر بحل حزب تواصل ومضايقة مناشطه ورموزه.
الحملة الدعائية المستمرة ضد الإسلاميين والتي قادها خصومهم السياسيون داخل السلطة بإمعان ورعاية واستمرار.
ولقد وجد الإسلاميون أنفسهم أمام وضع جديدة أبرز ملامحه:
التراجع الكبير لمشروع الثورة في العالم العربي.
الفعالية القوية للأنظمة العربية الداعمة لاجتثات أية نابتة ثورية في أي بلد عربي أو إسلامي، وهي الفعالية التي تناغم معها النظام الموريتاني بكل جاهزية واحتراف.
جاهزية النظام للانتقام في أي وقت.
ضعف السند السياسي الداخلي بسبب الثقة المهتزة بين القوى المعارضة بشكل عام وبينها وبين الإسلاميين بشكل أخص.
تراجع الدائرة الشعبية بفعل نجاح الحملة المضادة للنظام ضد "الثوار" المفترضين.
تحكم تيار الصقور من خصوم الإسلاميين في توجيه المنظار السياسي والأمني للسلطة تجاه الإسلاميين.
الإحباط العام لدى الإسلاميين مما يعتبرونه خديعة وتلاعبًا من النظام بمواقفهم ورسائلهم المطمئنة.
الانحناء للعاصفة
يعيش الإسلاميون الآن حالة انحناء أمام الأمر الواقع، وراهنُ العلاقة بينهم والسلطة قائم على التوتر وترقب المواجهة؛ حيث تعززت لدى الإسلاميين:
القناعة بعمق التوجس الدائم للسلطة من الإسلاميين وسعيها الدائم إلى تحجيم حراكهم السياسي والاجتماعي في جوانب سياسية محدودة غالبًا ما تعود بشكل سلبي على الإسلاميين وخصوصًا في سياق الرصيد الجماهيري والنقاء القيمي.
أن طريقَ إسقاط النظام بعيدةُ المنال ومحفوفة بكثير من الألغام الكفيلة بنسف كل مشاريع الإسلاميين.
موقف السلطة العميقة ودوائر النفوذ القوية الصارم الذي ينظر إلى الإسلاميين لا كحزب سياسي معارض بل كقوة موازية للدولة في قدراتها التنظيمية والمالية واستراتيجياتها في التغيير وعلاقاتها الخارجية؛ حيث تدفع هذه النظرة السلطة إلى التعاطي السلبي بشكل دائم مع التيار الإسلامي.
ويمكن القول في ختام هذه الورقة: إن علاقة المواجهة أو الهدنة والتقارب بين الإسلاميين والسلطة تحكمها محددات أساسية، أبرزها:
1. حجم القوة وتقدير الظرف: فطالما نظر الإسلاميون بشيء من التضخيم والمبالغة إلى تماسك ونضالية دائرتهم السياسية وبشيء من الزهو والتقدير لقدراتهم في المناورة السياسية قبل أن يكتشفوا أن مواقعهم ومواقفهم السياسية أقل بكثير مما اعتقدوا وأن قوة النظام أكبر من الضعف الذي توقعوا(24).
وطالما نظرت السلطة إلى الإسلاميين كخطر قوي قابل للاجتثاث بضربات قوية ومباغتة، قبل أن يظهر أن تلك الضربات وإن حطمت شيئًا من قدرات التيار فإنها تمنحه قدرة فائقة على التكيف والمواجهة وتضيف له عناصر قوة جديدة، وانتشارًا جماهيريًّا متصاعدًا.
2. المصالح المتبادلة: ظل تقرب النظام مع الإسلاميين أو مهادنته لهم مرتبطًا دائمًا بسياق المصلحة، فقد كان نظام ولد هيدالة في ثمانينات القرن الماضي محتاجًا إلى سند جماهيري قادر على التمدد، فيما وجد قادة الفترة الانتقالية (2005-2007) في تحييد الإسلاميين ضمانة أساسية لعدم التشويش الجماهيري على مسارهم السياسي وسعيهم إلى بناء نظامهم السياسي والإداري والأمني، أمَّا الرئيس السابق، سيدي ولد الشيخ عبد الله، فقد حاول أن يجد في التقارب مع المعارضة -والإسلاميون جزء منها- حضنًا سياسيًّا جديدًا بعد أن ضاق به حضن العسكر والقوى السياسية المحسوبة عليهم، ووجد الرئيس الموريتاني الحالي ولد عبد العزيز في مهادنتهم إلى حين وسيلة لتشتيت المعارضة واستغلال خطاب طرف سياسي مؤثِّر في الساحة.
ومن جهة الإسلاميين فقد كان تقاربهم أيضًا مع النظام محكومًا بالسعي إلى:
حماية المصالح العامة للتيار في مؤسساته وخطابه الجماهيري.
كسب مصالح جديدة والتمدد إلى مفاصل السلطة.
الموقف والظرف الدولي: حيث أطَّر التوجس الغربي من الإسلاميين فترة المنع والمحاصرة خلال حقبة الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع ضمن ما يُعرف بالحرب على الإرهاب فيما تؤطِّر الآن مواقف بعض القوى الخليجية جانبًا أساسيًّا من العلاقة بين الإسلاميين والسلطة الموريتانية التي تعيش فترة صفاء مع أبرز خصوم "الربيع العربي"(25).
ومهما يكن فإن آفاق العلاقة بين السلطة والإسلاميين في موريتانيا تحتمل:
خيار المواجهة والصدام: وهو خيار يدفع إليه المتشددون داخل السلطة ويتوقعه الإسلاميون في أي وقت، غير أن تكاليفه ستكون مزعجة للطرفين.
خيار التحالف والتطبيع: وهو خيار يستبعده ماضي العلاقات والثقة المهزوزة بين الطرفين.
ويبقى خيار الترقب وتسيير التوتر أبرز الخيارات الممكنة للطرفين في هذه الفترة، مالم يحصِّل الطرفان وعيًا متبادلًا بعجز كل منهما عن إبعاد الآخر أو إلغائه من المشهد العام.
_______________________
محمد سالم بن محمد - كاتب موريتاني.
مراجع
1 – تصريحات صحفية لرئيس الحزب الحاكم، الأستاذ سيدي محمد ولد محمد، ودعوة صريحة من مستشار الرئيس، الأستاذ عبد الله ولد أحمد دامو، لحل حزب تواصل (تاريخ التصفح: 8 مايو/ايار 2016):
2 – منعت وزارة الداخلية الترخيص للحزب السلفي.
3 - الدبلوماسي والسياسي، أحمد بن سيد محمد، أول أمير للحركة الإسلامية في موريتانيا، مذكرات غير منشورة.
4 - الإسلاميون يتحدثون عن تاريخهم (تاريخ التصفح: 9 مايو/أيار 2016):
http://arc.alakhbar.info/14130-0--F5F-C0C0FA0F-C-FF-F5C.html
5 - لقب "أهل بسم الله الرحمن الرحيم" لقب ساخر أُطلق على المتحدثين الذين يفتتحون خطاباتهم بالبسملة خلال مؤتمرات ومناشط حزب الشعب الحاكم في موريتانيا، راجع محطات من التاريخ السياسي للإسلاميين (تاريخ التصفح: 8 مايو/أيار 2016):
http://essirage.net/archive/index.php/news-and-reports/10327-2012-12-20-16-56-25.html
6 - صحبي ولد ودادي: قراءة في جوانب من التاريخ السياسي للإسلاميين، مجلة السراج الموريتانية، العدد 1، يوليو/تموز 2013.
7 - ظلت الصورة العامة لدى قادة التيار الإسلامي وجماهيره عن ولد الطايع أنه علماني متطرف وعنصري.
8 – من أبرز الأوجه العلمية حينها الشيخ بداه ولد البوصيري والشيخ محمد الأمين بن الحسن، والشيخ محمد المختار بن كاكيه.
9 – وقد أشرنا في الهامش قبل السابق إلى صورة الرئيس الأسبق ولد الطايع عند الإسلاميين.
10 - تحالف الإسلاميون والنظام في الانتخابات البلدية سنة 1992، كما كان لرجل الأعمال المقرب من السلطة، عبدو محمد، دور كبير في توجيه علاقة قوية مع الإسلاميين.
11 - من أبرز تلك القيادات العلمية: الشيخان محمد الأمين بن الحسن والشيخ محمد ولد سيدي يحيى رئيس مشروع حزب الأمة والداعية المشهور.
12 - تم حلُّ الجمعية الثقافية الإسلامية ومصادرة ممتلكاتها وأموالها، وكذا حل ناديي مصعب بن عمير الشبابي وأم المؤمنين عائشة النسائي وكذا منع جريدتي الأمل والإصلاح المقربتين من الحركة الإسلامية.
13 - شغل الأميران السابقان للحركة الإسلامية، أبو بكر ولد أحمد ومحمد فاضل ولد محمد الأمين، مناصب وزارية في حكومات الرئيس معاوية ولد الطايع.
14 - مثَّلت فتوى الشيخ، محمد الحسن ولد الددو، بشأن حرمة التطبيع مع الكيان الصهيوني والتي ساندها كبار علماء البلد الشرارة الأكثر حدَّة في المواجهة بين السلطة والإسلاميين.
15 - كان من أبرز واجهات الإسلاميين حينها الرباط الوطني لمقاومة التطبيع ونصرة الشعب الفلسطيني والمرصد الموريتاني لحقوق الإنسان إضافة إلى موقعيِّ الراية ومنبر الإصلاح الإلكترونيين.
16 - ألقى الإسلاميون بثقلهم خلف ولد هيدالة وقاد حراكهم السياسي حينها عمليًّا الشيخ محمد الحسن ولد الددو الذي وقَّع اتفاق المساندة بين تياره والمترشح الرئيس السابق محمد خونه ولد هيدالة.
17 – تلاقى الأمر مع رغبة النظام في بناء تيار سياسي جديد أُطلق عليه اسم المستقلين وهو الذي آل لاحقًا إلى حزب عادل ثم حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم حاليًّا في موريتانيا.
18 – نال أغلب معتقلي التيار السلفي البراءة أو أحكامًا مخففة في محاكمة مشهورة في 2007 قبل أن يعاد اعتقال العناصر القتالية منهم بعد ذلك في سنوات 2008 و2010، ولا يخفى أن ذلك العزل كان أمرًا واقعًا بالفعل بسبب التمايز الفكري والسياسي بين التيارين منذ اعتقالات 1994.
19 – دافع الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله عن ترخيص حزب تواصل الإسلامي رغم اعتراض فرنسا ممثلة في سفيرها في موريتانيا على ذلك الترخيص (معلومة خاصة للكاتب).
20 – شارك في الحكومة المذكورة أيضًا حزب اتحاد قوى التقدم المحسوب على اليسار مسبوقًا بمشاركة حزب التحالف الشعبي التقدمي أيضًا.
21 – إليكس ثورسون: الإسلاميون في موريتانيا، منشورات مركز كارنيجي 2012.
22 – اتفاق داكار بين القوى السياسية في موريتانيا في 2009، وبموجبه استقال الرئيس السابق سيدي ولد الشيخ عبد الله، ونُظِّمت انتخابات رئاسيات فاز بها الرئيس الفعلي محمد ولد عبد العزيز.
23 – وثيقة "إصلاح قبل فوات الأوان" الصادرة عن حزب تواصل (تاريخ التصفح 9 مايو/أيار 2016):
24 – يعتذر رئيس حزب تواصل، محمد جميل ولد منصور، بين الحين والآخر عن خيار الثورة ضد النظام.
25 - تعيش العلاقة بين موريتانيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة -وهما أبرز خصوم الربيع العربي- حالة صفاء سياسي ودبلوماسي كبير.