عبد الباري عطوان/ لماذا تعمّد عمرو موسى “تَشويه” صورة عبد الناصر في مُذكّراته؟

خميس, 09/28/2017 - 01:18

لماذا تعمّد عمرو موسى “تَشويه” صورة عبد الناصر في مُذكّراته؟ وهل كان الرّاحل يَستورد الطّعام من سويسرا؟ وهل كَشف بالجُرأة نَفسها أسرار لقاءاته مع زُعماء عَرب وخَليجيين؟ إليكم ما سَمعته شخصيًّا من هيكل وخالد عبد الناصر حول هذهِ المَزاعم

 

لم يَجد السيد عمرو موسى أمين عام الجامعة العربيّة، ووزير الخارجيّة المِصري لأكثر من عَشر سنوات، من الأسرار للترويج لمُذكّراته التي صَدرت قبل أيّام غير “التّطاول” على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي قدّم نَفسه في أكثر من مُناسبة على أنه أبرز تلاميذه “النّجباء”، والحَريص على تقمّص أدواره ومَواقفه وسياساته.

صَدم السيد موسى الكثيرين داخل مصر وخارجها، عندما ادّعا أن الرئيس الراحل “كان يَستورد طعامه من سويسرا لاهتمامه بنظامٍ غذائيٍّ يُؤدّي لخَفض الوزن، وكان يُرسل من وقتٍ لآخر من يأتي له بأصناف مُعيّنة من الطّعام الخاص بالريجيم من العاصمة السويسريّة”، وذَهب السيد موسى إلى ما هو أبعد من ذلك عندما اتّهم الرئيس المِصري الراحل بالديكتاتوريّة، وأن مُظاهرات التّنحي كانت مسرحيّة.

السيد عمر موسى تزعّم الجامعة العربيّة لفَترتين مُتواليتين، والخارجيّة المِصريّة لأكثر من عشر سنوات، ولا بُد أنه يَملك الكثير من الأسرار من خلال عَمله في الوظيفتين، خاصّةً تلك المُتعلّقة بالدّول الخليجيّة، وتجميد عُضويّة سورية في الجامعة، ووقوفه شَخصيًّا، بدعمٍ خليجي، خَلف توفير الغِطاء العربي لغزو ليبيا من قبل حلف الناتو، واطلاعه على الخُطط التي وَضعها الرئيس الفرنسي ساركوزي وقادة خليجيين في هذا المِضمار، وتركيزه على الرئيس الرّاحل وتعمّد الإساءة إليه بهذهِ الصّورة، يَصعب فَهمه، مِثلما يَصعب علينا مَعرفة أسبابه.

***

لا نُجادل مُطلقًا، أو نَعترض على حقّه في تقديم شهادته في أحداثٍ سياسيّةٍ عديدةٍ عاصرها، وأن يقول رأيه في حرب حزيران (يونيو) والهَزيمة التي لَحقت بالعَرب، مِثلما نُؤمن إيمانًا قاطعًا أن من حقّه أيضًا أن يَصف حُكم الرئيس عبد الناصر بالديكتاتوريّة، لأنه، أي الرئيس الرّاحل، لم يدّعِ مُطلقًا أنّه يتزعّم نظامًا ديمقراطيًا، ولم يَكن هُناك أيّ نظامٍ عربيٍّ يُمكن وَصفه بالدّيمقراطي أثناء فترة رئاسته باستثناء لبنان، ولاحقًا الكويت، وكان يَقود مَشروعًا عربيًّا تعبويًّا نهضويًّا تحشيديًّا، في مُواجهة استعمار يَستهدف الأمّة العربيّة، وما زال في فلسطين والجزائر وتونس واليمن وغيرها.

فإذا كان قرار التنحّي “مسرحيّة” مِثلما قال السيد موسى، فلماذا خَرج عَشرات الملايين من المِصريين إلى الشوارع مرّتين، الأولى عندما أعلن هذا القرار، والثانية عندما انتقل إلى رحمة الله تعالى، فهل كان الشّعب المِصري العظيم غبيًّا في الحالين، وإذا كان “انخدع″، مِثلما يقول بمسرحيّة التنحّي، فلماذا خَرج الملايين في جنازة الرّجل الذي من المُفترض أنه خَدعه بعد ذلك بثلاث سنوات؟

كُنت في قاهرة المُعز طالبًا جامعيًّا عندما تُوفّي الرئيس عبد الناصر، وكنت من بين الملايين التي هامت في الشوارع حُزنًا وقلقًا، والدّموع تَنسكب من عُيونها، في مشاعرٍ وطنيّةٍ صادقةٍ لم أرَ لها مثيل، ولن أنساها ما حييت.

التقيت بالصّديق الأستاذ محمد حسنين هيكل، رحمه الله، عدّة مرّاتٍ في لندن والقاهرة وبيروت، في جلساتٍ استمرّت كل منها لعدّة ساعات، رَوى السيد هيكل في إحداها أن الرئيس جمال عبد الناصر، الذي رافقه في عِدّة سَفراتٍ إلى الخارج، كانت إحداها إلى موسكو، كان يَحرص أن يَأخذ مَعه طعامه المُفضّل، وهو الجبنة المِصريّة البيضاء المالحة المَنزوعة الدّسم، وحبّات من الطماطم، وكان يتجنّب أصناف الطّعام الأُخرى، وإذا تناولها فمَن قبيل المُجاملة وبحرصٍ شديد، ورَوى السيد هيكل أيضًا أنه سافر مع الرئيس عبد الناصر في إحدى المرّات في بداية الثورة على ظَهر يَخت المَحروسة الذي كان يَستخدمه الملك فاروق، وقال أنه والوفد المُرافق استمتعوا بأفخر أنواع الطعام الذي أعدّه فريق من الطّباخين المَهرة، بينما انتحى الرئيس عبد الناصر جانبًا، وتناول وَجبته المُفضّلة الجبنة البيضاء مع الطماطم المِصريّة، حامدًا لله وشاكرًا فَضله على هذهِ النّعمة.

هذهِ الشهادة تُؤكّد ما ذَكره النائب والإعلامي مصطفى بكري نقلاً عن السيد سامي شرف، سكرتير عبد الناصر وصندوق أسراره الأبيض، ونَفى نفيًا قاطعًا ما وَرد في مُذكّرات السيد موسى، وقال أنه، أي الزعيم الرّاحل، لم يَطلب مُطلقًا طعامًا من الخارج، وكان يَستخدم الدّواء المِصري المُصنّع مَحليًّا، ويَرتدي الملابس القطنيّة، والصّوف المصري، أُسوةً بعامّة الشّعب.

***

جَمعتني الأقدار بالصّدفة المَحضة مع المَرحوم خالد عبد الناصر، نَجل الرئيس الراحل في لندن، وكان بَعوز مالي شديد، ويعيش حياةً مُتواضعةً جدًّا، وأكّد لي أن والده كان يَفرض عليه وأشقاءه أسلوبَ حياةٍ أقرب إلى التقشّف، وبما يتطابق مع حياة مُعظم المِصريين.

الرئيس عبد الناصر لم يَترك بيتًا لأولاده، ولا أرصدة ماليّة، ولكنّه تَرك لهم ولمصر، وللأمّة العربيّة بأسرها، رصيدًا ضخمًا من الكرامة وعزّة النّفس، وأرفع قِيم الوطنيّة، ولا نَعرف، ولا نُريد أن نَعرف، ماذا سيَترك السيد موسى لأولاده وأحفاده، لكن ما نَعرفه أنه ارتكب خَطيئةً كُبرى في حَق الزّعيم الرّاحل ما كان عليه أن يَرتَكِبها، وهو الخبير .