غني عن التذكير أن اختلاف الآراء وتعدّد وجهات النظر جزء من ماهيّة هذه الحياة، وأن احترامه يخدم المخالَف أكثر مما يخدم صاحب الرأي نفسه. بل إن الإنسان يسيء إلى الحق الذي معه عندما ينحاز إليه بتعصّب، حتى ولو كان وحيا من ربِّ العالمين {وَإنَّا أو إيَّاكُم لعلى هدى أو في ضلالٍ مبين} ولكن المقصود هنا في هذه الملاحظات هو ما يدخل من القول حيّز التحامل أو العدوان اللفظي أو الإساءة المقصودة، لشخص ما أو مبدأ أو دينٍ أو وجة نظر.
لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز من سبّ الكفار ما لو لم يكن من كلامه عزّ وجلّ لربما كان الأولى بالمسلم عند سماعه أن يضع أصابعه في آذانه: {وقالت اليهود عزيرُ ابنُ الله وقالت النَّصَارَى المسيح ابْنُ الله}، {وجعلوا بينه وبين الجِنّة نسباً}، {إن الله فقير ونحن أغنياء}، {يد الله مغلولة}.. وعن الرُّسُل ذكر قول المكذّبين: "شاعر"، "مجنون"، "ساحرٌ كذّاب".. وخلّد هذا السبّ والافتراء عليه وعلى أنبيّائه قرآنا يُتْلَى إلى يوم القيامة. وفِي ذلك دلالة عظيمة على أن الشرّ موجود في النَّاس، لا ينبغي دفنه ولا التعتيم عليه. وبقدر ما تكون محاججته وتوضيح تهافته مدعاة للتمسك بِالْحَق، فإن في الاطلاع عليه بحدّ ذاته، وربما يكون هذا هو الأهم، معرفة واستيعاباً للمشهد وتهيئة لمواجهة الصّورة المركبة للواقع.
يشير رواد الفضاء الافتراضي الموريتاني إلى صفحة الصحفي البارز الأستاذ أحمدو الوديعة بكونها الحساب الفيسبوكي الذي يوجد به أكبر كمٍّ من تعليقات المتابعين، الجارحة والعنصرية والبذيئة.. ولكن في نفس الوقت، يمكن القول كذلك بأن هذه الصفحة هي الأصدق في هذا الفضاء، في عكس الواقع الشبابي الموريتاني الحالي، أخلاقاً وانفعالاً عصبيّاً وتعليماً وانسجاماً فئويا.. والسبب بسيط جدا، وهو غياب مقص الرقيب. على عكس صفحات الرأي الواحد وأصحاب "المحدّدات الأخلاقية" للنشر والتفاعل.
ومن الطّريف أن لهذا الكاتب الإسلامي، وللعديد من نظرائه من نفس التيار، قدرة مشهودة على تقبل الرأي الآخر، حتى لو كان في غاية التحامل والإهانة والانحطاط الأخلاقي، ومع ذلك يُنعتون هنا بأنهم أصحاب توجه إقصائي غير ديمقراطي. في حين أن أبرز النخب المخاصمة لهم سياسيا لا يُسمح في أغلب صفحات روّادها بأبسط الآراء المخالفة!
هذه الحياة قصيرة ولا ينبغي إضاعتها في ركوب موجات "لعبة الثور الإسباني"، على حد تعبير الأستاذ مالك بن نبي. فليس من اللائق الجري خلف كل من يلوّح لنا بقميص الإساءة أو الجدال العقيم؛ ففي ذلك مفسدة للوقت وانحراف إلى بنيّات الطريق. والانخراط في هذه المواسم يعني انشغالاً بأجندات الآخر وانفعالا ببرامجه الاستفزازية، بدل العمل المنهجي الذّاتي.
سيسمع المرء أو يقرأ، ما بقيّ في هذه الحياة، لمن يسيء إليه شخصيًّا، أو إلى عزيز عليه أو مكرّم عنده، ولكن لذلك فوائد مهمّة في بناء الذّات وفهم الواقع ورسم الهدف. ولنا في إخواننا المسلمين في الغرب أسوة حسنة؛ في تعاملهم مع المخالفين لهم بموضوعية، ومع المهاجمين لدِينهم وشعائرهم، والسّاخرين منهم ومن نبيّهم.
من المعلوم أنه لا يوجد "رجال دين" في الإسلام، وأن المبادئ فيه مقدمة على المكانة الشخصية. ولذلك امتلأ التاريخ الإسلامي بالانتقادات البينيّة والخصومات العلمية بين الفقهاء والسّاسة والعوام. ولكن هذا المبدأ الذي يؤسّس عليه البعض في انتقاد ومساءلة العلماء والدّعاة، وهو من الخصائص الفريدة لهذا الدين، يستغله آخرون، عن قصد أو سوء فهم، في الإساءة والتحامل عليهم، وإخراج أقوالهم عن سياقاتها.
ويفوت على المتتبع لزلّات الفقهاء أن القول في أي مسألة إما أن يكون من زاوية نظر ما، فهو اختلاف فكري تسمح به حرية الرأي، أو أنه خطأ من نوع آخر، فهو عاد جدا كذلك، لأن الفقهاء يخطئون ولا أحد يدّعي لهم العصمة. بل إن "العلماني" المسلم حين يحاول إحصاء عثرات الفقهاء، وتكبيرها تحت مجهر الإساءة والتحامل، هو من يستبطِن بذلك عصمة القوم، ويُظهر نظرته "العلمانية" المختلّة للفقيه كـ"رجل دين" مسيحي، كما يتصورها فكره خطأً ويحاول إقناع الناس بعكس ذلك.
الموضوعية في تناول التاريخ واحترام الرموز الوطنية والدّينية هو أساس أي عمل تغييري أو فكري جاد. وقد ذكرتُ، خلال تقديم ورقة عن "التعايش في موريتانيا الواقع والمستقبل" في ندوة لحركة الحرّ في العاصمة الأمريكية واشنطن هذا العام، داعيّا إلى خطاب جامع، يحقّق المطلَب الحقوقي ويحفظ المكسَب الوطني، أنه على الرّغم من الموروث الاستعبادي الفظيع للقادة التاريخيين لأمريكا، بما في ذلك "القادة المؤسّسين" (توفي جورج واشنطن، الرئيس الأول للولايات المتحدة، وله 317 من العبيد، حسب المؤرخين)، إلا أنه لا يمكن الآن لأي حقوقي أو سياسي أمريكي جاد أن يتناول هؤلاء القادة بالتجريح أو يحاول محاكمتهم أو محاكمة التاريخ على أساس مقتضيات الحاضر.
مرة أخرى، هذا لا يعني عدم العودة إلى التاريخ والاستلهام من نجاحاته وإخفاقاته للتأسيس للحاضر والمستقبل، ولا الدعوة إلى التوقف عن الانتقاد البنّاء للفقهاء ولقادة الرأي. وقد كتبت في مقال سابق بأنني "أكاد أجزم بأن التعاطي المختل للمنظومة الفقهية في عالمنا الإسلامي بشكل عام وفِي بلدنا بشكل خاص، مع المظالم الاجتماعية والاستبداد ومنطق التّغلب، هو أهم رافد لشبهات أصحاب النفوس المريضة وللإلحاد داخل مجتمعاتنا التي تضرّرت ظلماً وتهميشاً وبعداً عن الالتحاق بمناهج التعليم والتربية السليمة بسبب ذلك".
إلا أن الواقع يقول بأن بعض الناس - لا محالة - سيخطئ وسيلجأ إلى سبّ وشتم الأشخاص والرموز أثناء تناول قضايا الدِّين والفكر والوطن، وأن آخرين سيختارون عن قصد طريق الافتراء والرّدة عن الأخلاق، فلنصفح عن أولئك ولنفوّت الفرصة على هؤلاء. فلا يخفى على أي دارس للتاريخ أن الانفعالات غير المنهجيّة لا تخدم أصحاب المبادئ، وأن الردّ الأنجع على هذا الواقع هو تمثُّل قول الأستاذ محمد أحمد الراشد: "ولو أردنا الاستقصاء في الردّ على الشبهات التي يوردها المحصُون، لوقعنا في المتاهة النفسية التي تُراد لنا، ويكون ثمة انشغال عن وجوه النفع التي نحن ماضون في جلبها وتحصيلها كل يوم".