التطوّر الأهم في الأزمةِ السوريّةِ هذهِ الأيّام، ليس ما يَجري في الجولةِ الثّامنة من مُفاوضاتِ جنيف بين وَفد الحُكومة السوريّة، برئاسةِ الدكتور بشار الجعفري ووَفد المُعارضة الذي يَتزعّمه السيد نصر الحريري، وإنّما في غوطةِ دِمشق الشرقيّة، التي سَتكون هَدفًا لهُجومٍ كاسحٍ للجَيش العَربيّ السوريّ لاستعادةِ السّيطرةِ الكاملةِ عليها، وتأمينِ العاصمةِ دِمشق من أيِّ هَجماتٍ مُستقبليّة.
إذا صَحّت الأنباء التي تَقول أن قرارًا عَسكريًّا سوريًّا وروسيًّا وإيرانيًّا قد جَرى اتخاذه في الأيّامِ القليلةِ الماضية بشَنّ هذا الهُجوم، وهي تَبدو صحيحةً وفِقًا لمَصادر عاليةِ الاطلاع اتّصلت بها “رأي اليوم” عبر مُراسلها في بيروت، فإنّ هذا الهُجوم لو تكلّل بالنّجاح على غِرار نُظرائه في حلب ودير الزور وتدمر والبوكمال، سَيكون آخر المَعارك الرئيسيّة على الأرضِ السوريّة إن لم يكن أهمّها، لأنّه سَيُؤدّي إلى وقفِ القَصف للأحياءِ الشرقيّة للعاصمة.
***
الغوطة الشرقيّة كانت دائمًا مَصدر صُداعٍ أمنيٍّ وسياسيٍّ مُزمن للقيادةِ السوريّة، لكَونها مَصدر تهديد للعاصمة التي ظلّت لفتراتٍ طويلةٍ “جزيرةً آمنة” مَعزولةً عمّا يَجري في أطراف سورية ومُدنها الأُخرى، الأمر الذي دَفع بالسلطات السوريّة إلى القُبول، ولو على مَضض، بمُقترحاتٍ روسيّةٍ بضمّها إلى مناطقِ خفض التوتّر، والجُلوس على مائدةِ المُفاوضات مع الجماعات المُسلّحةِ المُتواجدةِ فيها في مَنظومة آستانة.
الآن وبعد أن نَجح الجيش العربيّ السوريّ في حَسم المَعارك لصالحه على جبهاتٍ مُهمّة، مثل تدمر ودير الزور والبوكمال، وقَبلها حلب، باتت مَسألة استعادة السّيطرة على الغوطة الشرقيّة من الأولويّات المُلحّة.
ثلاثة فصائل رئيسيّة تُسيطر على الغوطةِ الشرقيّة حاليًّا هي “جيش الإسلام” بقيادةِ محمد علوش، رئيس وفد المُفاوضات في الآستانة، والمَعروف بعلاقاتِه الوثيقة مع المملكة العربيّة السعوديّة، و”فَيلق الرحمن” الذي يتبنّى استراتيجيّةً مُتشدّدةً وانخرط في العَديد من المُواجهات مع الجيش الأوّل، في صِراعٍ على السلطة والنّفوذ، و”جَبهة النصرة” التي يَتزعّمها أبو محمد الجولاني.
المُقرّبون من النّظام يقولون أن كيل الجيش العربيّ السوريّ والقيادةِ السياسيّة معًا قد طَفح، خاصّةً بعد اختراق الفصائل لتفاهمات الآستانة، وخَرق الاتفاقات التي جَرى التوصّل إليها في إطارِ منظومةِ تخفيف التوتّر، ولهذا سَتلجأ هذهِ القِيادة إلى الهُجوم العَسكري الكاسح، وبأسلحةٍ وصواريخ حديثةٍ مُتطوّرة، وِفقًا لمَقولة “أن آخر العِلاج الكَي”.
مُوافقة الشريكين الرّوسي والإيراني على هذا الهُجوم تبدو مُؤكّدة، وتُعزّز موَقف القيادة السوريّة في مُواجهةِ ضُغوطٍ دوليّة مُتعاظمة بضَرورة رَفع الحِصار عن الغوطة الشرقيّة لما يُسبّبه من مُعاناةٍ لمِئات الآلاف من المَدنيين المُحاصرين التي تقول الحكومة السوريّة أن الفصائل المُسلّحة تَستخدمهم كرهائن.
انتقال الغوطة الشرقيّة من “تَخفيف التّصعيد” إلى “مُضاعفَتِه”، بات وَشيكًا، إن لم يكن قد بدأ فِعلاً، خاصّةً بعد إقدام فصائل مُسلّحة فيها إلى إمطار العاصمة بقذائف الهاون أسفرت عن قَتل العديدِ من المَدنيين، وألحقت أضرارًا بالغةً بالمَنازل والسيارات في شَرقِها في الأيّام الأخيرة، الأمر الذي يُشكّل حَرجًا كبيرًا للحُكومة، ويَزيد من حِدّة الانتقادات لها من حيث كَونها لا تَفرض الأمن والهُدوء في دِمشق العاصمة، وأحيائها الرئيسيّة وخاصّةً حي جوبر.
***
عَمليّة إعادة الإعمار التي باتت وَشيكةً، من الصّعب أن تبدأ في ظِل استمرار سُقوط القذائف والصّواريخ على العاصمة لسببٍ أو لآخر، لأن هذا القَصف لا يُوفّر البيئة المُناسبة للاستثمار وجَذب الشّركات ورؤوس الأموال، وهذا ما يُفسّر، في رأي الكثير من المُراقبين، فُتور الحُكومة تُجاه مُفاوضات للتوصّل إلى هُدنةٍ جديدةٍ في الغوطة، مُرشّحةٍ للانهيار وِفق نَظيراتها السّابقات.
الجَولة الثّامنة من مُفاوضات جنيف لن تَكون أفضل من سابِقاتها، وتأجيل مُؤتمر الحِوار الوطني المُوسّع الذي دَعت إليه موسكو في سوتشي هو الذي سيُقرّر هويّة وتَطوّرات المَرحلة المُقبلة في سورية، ولا نَستبعد أن يكون تأجيل انعقاده إلى شباط (فبراير) المُقبل، جاء إلى جانبِ أسبابٍ أُخرى، لتوفير المَناخ للقيادةِ السوريّة لحَسم الوَضع في الغوطةِ الشرقيّة واستعادَتِها بالكامل.. والأيّام بَيننا.