وأخيرا تقدم "داوود ولد أحمد عيشة" ومجموعته بملف إلى وزارة الداخلية طالبين الترخيص لحزبهم المسمى بالنداء الوطني، والمعروف اختصارا ب"نو". ولقد ذكر المؤسسون بأن "ترسيخ الهوية العربية البيضانية الضاربة في جذور التاريخ الموريتاني" تبقى واحدة من أهم الأهداف
الأساسية لمشروعهم السياسي.
وسواء رخصت الحكومة لهذا الحزب، أو لم ترخص له كما حدث سابقا مع توأمه في العنصرية والتطرف حزب "الراك"، فإن ما يمكن قوله الآن هو أن موريتانيا قد تكون بحاجة إلى كل شيء، ولكنها ليست بحاجة قطعا إلى حزب "نو"، ولا إلى ميلاد جماعة متطرفة جديدة. فنحن في هذه البلاد قد أصبح لدينا من الحركات والجماعات العرقية والشرائحية المتطرفة ما يكفي لأن يخرب أقوى البلدان تماسكا من حيث اللحمة الاجتماعية، فكيف إذا ما تعلق الأمر ببلد هش ضعيف كبلدنا؟
لن يكون حزب "نو" إلا الوجه الآخر للعملة، أو على الأصح، للفتنة التي يمثل"الرك" أو حركة "إيرا" وجهها الثاني. ومما لاشك فيه أن ظهور حزب "نو" سيمنح لحركة "إيرا" المزيد من الشرعية، وسيكتتب لها المزيد من الأنصار، وكذلك فإن حركة "إيرا" وخطابها المتطرف سيمنح لحزب "نو" المزيد من المنتسبين. إن حركة "إيرا" لن تجد في المستقبل من يروج لها، ويستقطب لها المنتسبين أكثر من حزب "نو" وخطابه العنصري، وإن حزب "نو" لن يجد من يروج له أكثر من حركة "إيرا" ومن خطابها العنصري، فكلاهما سيستفيد من الآخر، وذلك رغم العداوة الخادعة والمخادعة التي قد تطبع ظاهر العلاقة بينهما.
لا فرق بين "إيرا" و"نو"، سوى أن حركة "إيرا" ترفع شعار قضية نبيلة وعادلة، وتتبنى مظلمة تاريخية لا لبس فيها، وبعض قادتها هم الآن في السجن. أما "نو" فإن قادته ليسوا في السجن، بل إنهم يستقبلون في هذه الأيام في القصر الرئاسي، كما كان يحدث مع قادة "إيرا" في زمن مضى. يضاف إلى ذلك أن حزب "نو" لا يملك قضية عادلة يستغلها، كتلك التي تمتلكها حركة "إيرا"، ولكنه في المقابل بدأ يرفع شعار "التوازن في الخطاب المتطرف "، حتى وإن كان ذلك بشكل غير صريح. كما أنه بدأ يعمل على استغلال واستثمار شعور بالاستياء قد بدأ يتولد لدى أجيال عديدة لم تمارس في حياتها الاسترقاق ضد أي كان، ولكن، ورغم ذلك فهناك من يريد أن يحملها مسؤولية ظلم لم تمارسه، ولم تشارك فيه، وإنما مارسته طائفة من الموريتانيين قد أصبح جلها، ولا أقول كلها، من سكان القبور.
إن ما يقلق حقا، وهذا ليس كقلق "بان كي مون" العابر، هو أن السلطة القائمة قد خلقت بيئة مناسبة لميلاد المزيد من الحركات والجماعات العنصرية المتطرفة، ولنمو وتطور الحركات المتطرفة التي كانت موجودة، وذلك في الوقت الذي سدت فيه هذه السلطة كل الأبواب أمام كل من يريد أن يسوق خطابا راشدا، أو يعرض فكرا معتدلا، وسأقدم لكم في خاتمة هذا المقال مثالا حيا على ذلك.
ويكفي للتأكد من أن السلطة الحالية قد خلقت بيئة مناسبة لميلاد ونمو الحركات المتطرفة والعنصرية، أن تتأملوا حالنا في السنوات الست الأخيرة، ففي هذه السنوات الست لم يظهر أي مشروع وطني جامع، وإنما ظهر الكثير من المشاريع الشرائحية أو العرقية ذات النظرة الضيقة.
وفي هذه السنوات الست الأخيرة بذلت السلطة القائمة جهودا جبارة لإضعاف الأحزاب السياسية، وأنا هنا لا أتحدث فقط عن الأحزاب المعارضة، وإنما أتحدث أيضا عن الأحزاب الموالية، وعلى رأسها الحزب الحاكم الذي تم إضعافه من خلال تهميشه، وتعويضه بالمبادرات القبلية التي ظلت تسيطر على المشهد كلما كانت هناك حملات انتخابية، أو كلما كانت هناك زيارات للرئيس في الداخل. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه قد تم سحب بعض المنتسبين الشباب من هذا الحزب، وتم إعطاء الأوامر لهم بضرورة تشكيل أحزاب شبابية كان من أبرزها حزب "الحراك الشبابي" والذي عرف من الصراعات والانشقاقات والخصومات والنزاعات والانسحابات ما لم يعرفه أي حزب آخر.
لقد تعود قادة الأحزاب التقليدية على أن لا يتصارعوا، ولا يتخاصموا إلا خلال المواسم الانتخابية حيث تكون هناك مغانم . أما حزب "الحراك الشبابي"، والذي يمكن اعتباره هو النموذج الأبرز الذي قدمته السلطة في السنوات الأخيرة، فقد عودنا قادته على أن يتخاصموا في كل حين، لسبب أو بلا سبب، بمناسبة أو بغير مناسبة.
لقد شكل حزب "الحراك الشبابي" الذي قدمته السلطة كتجسيد لشعار تجديد الطبقة السياسية أكبر صدمة لمن كان يعتقد بجدية هذا الشعار.
إن ما حدث في السنوات الست الماضية قد جعل الكثير من الشباب يبتعد عن العمل السياسي الطموح والجاد، وينخرط في تكتلات قبلية أو جهوية أو شرائحية أو عرقية، ولذلك فلا غرابة أن تسمعوا من حين لآخر عن ميلاد حركة أو جماعة عنصرية جديدة.
لقد وقفت السلطة القائمة ضد ظهور أي مشروع وطني جدي يعزز من اللحمة الاجتماعية بين مكونات شعبنا، ولعل المثال الأبرز هو رفض هذه السلطة الترخيص لمشروع "حراس المستقبل" الذي تم التقدم بملفه إلى وزارة الداخلية منذ خمس سنوات تقريبا.
لم يكن مشروع "حراس المستقبل" مشروعا عاديا فقد كان هذا المشروع يسعى إلى صياغة وتنزيل إستراتيجية عمل اجتماعي، تهدف إلى إرساء أسس الأخوة والمساواة بين مختلف شرائح الشعب ومكوناته، وتطمح إلى تيسير الإدارة السلسة لدفة التحول والانصهار الاجتماعي، بما يحقق لشعبنا مصالحه العليا في الوئام والاستقرار.
ولم يكن هذا المشروع مشروعا عاديا بالنظر إلى الأسماء التي وقعت على وثيقة الإعلان عنه، فقد وقع على هذه الوثيقة 155 من شخصيات موريتانيا ومثقفيها وأطرها، من شتى ألوان الطيف الاجتماعي، ومن مختلف التخصصات.
لقد رفضت السلطة أن تمنح ترخيصا لهذا المشروع الطموح، وذلك رغم أن شخصيات هامة تحسب على الموالاة كانت من بين الموقعين على وثيقة التأسيس، ومن بين الموقعين أذكر: من الفقهاء: بوبكر ولد أحمد، الشيخ محمذن ولد محمودا، محمد فاضل ولد محمد الأمين، الشيخ الطالب أخيار ولد مامينه، وباب ولد معطه شفاه الله.وكان من بين الموقعين أيضا: المؤرخ والناشط الاقتصادي أعزيزي ولد المامي، الكاتب والمفكر أحمد باب ولد مسكه، الأستاذ الجامعي والوزير السابق البكاي ولد عبد المالك، الأستاذ الجامعي بلال ولد حمزة، الشاعر جاكيتي سك، الوزير السابق دحان ولد محمد محمود، رجل الأعمال دفالي ولد الشين، والمكلف حاليا بمهمة في رئاسة الجمهورية عبد الله بنحميده.
لقد تم رفض الترخيص لمشروع حراس المستقبل، ولم يسمح له بمزاولة أعماله بشكل قانوني، ولو أنه سمح لهذا المشروع الطموح بأن يزاول أعماله في السنوات الخمس الماضية لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من اصطفاف عرقي مخيف، ومن خطاب عنصري بغيض.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين ولد الفاضل