أنا وميسي والفوتبول / اسماعيل ولد الشيخ سيديا

جمعة, 03/16/2018 - 01:59

في طفولتي في أطراف قريتي الوديعة بالصحراء الموريتانية مدينة «بتلميت» أيام كأس العالم لكرة القدم بالمكسيك سنة 1986كنا نتسمر بالعشرات من مختلف الأعمار والأجناس أمام شاشة بالأبيض والأسود في بيت يبعد ألفي متر من بيتنا. لم تكن الصورة واضحة رغم شح إشارة البث وكان الجمع يكتفي بمزاوجة غريبة بين النقل المباشر لإذاعة فرنسا الدولية وأشباه الصور تلك التي تصفو وتطفو حسب هبوب تيار «الساحلية»

 كنا نصرخ كلما صرخ الصحفي ونتأوه لأناته وتخبو فينا الخيبات وتعلونا البهجة تبعا لنبرة صوته.
في الحقيقة كان كل شيء على حقيقته، الصحافة صحافة والرياضيون رياضيون والمتفرجون وراء الشاشة مستعدون لشد الرحال وشدْهِ الأبصار والاجتهاد في الإصغاء لمجرد مباراة.
والآن في عام 2018 وبعد أكثر من ربع قرن، صارت التلفزيونات ملونة والمباريات بالمجان وكثر اللاعبون وكثر الحديث عن أموالهم وأثمانهم ونواديهم؛ بل أحيانا يخيل إليك أن تشنجا عضليا للاعب مشهور هو شهادة في سبيل الله؛ تنصب لها سرادقات المواساة وتنتصب المناديل الورقية لتجفيف المآقي.
استوديوهات التحليل الرياضي موضة وعُلب الميك آب منثورة أيما نثر. واللاعبون وزعوا الوشم على أذرعهم ورقابهم وربما في ماخفي من أجسادهم؛ تقليعاتهم غريبة وتعبيراتهم غرائبية، والملاعب مسارح.
صرت أكره كرة القدم لأنها تمجد أرجل وجلود الشباب أكثر من أدائهم، وتستعبد الجماهير بجودة الإخراج واحتكار اللحظة.
أرضيات الملاعب خضراء تسر الناظرين؛ ولذلك سكنوها وأسكنوها الملايين؛ إنها حالة كروية عالمية ذابت فيها الرياضة ومُسخَ الرياضيون؛ ومُجّد رويبضات الرياضات، وبقي المال سيد الشاشة.
فنجوم البارصا والريال والبي أس جي هم نجوم لغلاء حركات أرجلهم؛ وتصدرهم للإعلام الكروي. وقد ترى لاعبين في بادية السنغال أمهر وأظهر منهم لكن سماسرة النوادي لما يصلوهم بعد.
وتبقى في الحالة الكروية العالمية نقاط مضيئة مثل وضع اللغة العربية في الواجهة، بعد أن كان المعجم اللغوي الكروي جافا ولاتينيا بامتياز. فلا قاعة ولا مطعما من مطاعم الدنيا اليوم إلا وبها معلقون عرب فصحاء مهندسون للحرف، تخالهم خطباء بل وعاظا، يمجدون اللاعب ويجلدونه كلما كبا أو نبا.
وصار العجم عربا حين يذكرون كلمة "هدفففف" مثلا بعد أن ظلت كلمة "بييييت" أو "غوووول" لازمتي اللعبة الممدودتين مدّاً.
ومن حسناتها أيضا لفتها أنظار العالم أن الاستهلاك ليس فقط خاصا بالأكل والشرب واللبس، بل هو أيضا في النظر والركض.
إنها حالة دنيوية وهوس وبائي عمت به البلوى ودبر بليل، حتى صار البلد يعرف بالرجل الواحد وبالنادي الكروي الواحد قبل الزعيم والخبير وحتى الصناعات المحلية.
فقد صرت أشفق على الأرجنتين وأعرف الأرجنتين من فرط تعاطفي مع قصة اللاعب ميسي وعلاجه من قبل ناديه ووجهه الطفولي ولحيته التائهة وخطواته المتقاربة ومهاراته الخاصة.
وأخيرا حصلت المفارقة أن مشاهدة مباريات كرة القدم لم تعد تلك المناسبة الغالية بالنسبة لي، بل تصيبني بتسارع نبضات القلب والرغبة في الصراخ والتثاؤب وأحاسيس أخرى لا أستحضرها رغم الوفرة في المنشط والمسكن.